عد ثلاثة عقود قضاها رالف خوري في تدعيم النشاط العقاري الذي ورثه عن والده، وجد نفسه يستعد للرحيل عن بيته الذي يبعد ساعة عن بيروت لبدء حياة جديدة في بلد لم يدر بخلده أنه سيزوره.. جورجيا.
قال خوري (44 عاما) وهو أب لبنتين إنه لو كان هناك أي سبب يدعو للأمل لتراجع عن هذا القرار على الفور.
كان الانهيار الاقتصادي في لبنان على مدار السنوات القليلة الماضية تداعياته على اللبنانيين في صراعهم اليومي مع أزمات نقص الأدوية الأساسية والوقوف لساعات طويلة في طوابير للحصول على الوقود ومع الضغوط التضخمية التي صاحبت انخفاض قيمة العملة المحلية بنحو 90 في المئة باتت الحياة اليومية مليئة بالصعوبات.
ويشعر كثيرون من اللبنانيين الذين لم تخطر على بالهم نية السفر أنهم مضطرون لبدء حياة جديدة في مكان آخر.
وتقول مديرية الأمن العام إن طلبات إصدار جوازات السفر بلغت ثمانية آلاف طلب في اليوم وهو ما يفوق قدرتها التي تستوعب 3500 طلب في اليوم.
ويقول رمزي الرامي رئيس دائرة العلاقات العامة بالمديرية إن الطوابير الطويلة التي تزايدت بشكل ملحوظ في أغسطس آب ترجع في جانب منها إلى إقبال الطلبة على السفر للدراسة في الخارج قبل بدء السنة الدراسية.
وأضاف أن كثيرين ممن يغادرون لبنان من مزدوجي الجنسية الذين يملكون جوازات سفر ثانية أو إقامات في دول أخرى.
غير أن هذا ليس هو حال أسرة خوري وأسر كثيرة غيرها.
وكان النظام المالي اللبناني قد انهار في 2019 بعد عقود من الفساد والعجز لتدخل البلاد أزمة اقتصادية تفاقمت منذ ذلك الحين وسط خلافات سياسية وتداعيات جائحة كوفيد-19 وانفجار مرفأ بيروت في أغسطس آب 2020 الذي أسفر عن سقوط أكثر من 200 قتيل ودمر مساحات كبيرة من المدينة وكان القشة الأخيرة بالنسبة لكثيرين.
واستكشف خوري جورجيا خلال الصيف مع شقيقه روني متطلعا إلى اقتصاد ناشيء يستطيع أن يستغل فيه خبراته
في المجال العقاري وبدء نشاط جديد من الصفر.
مقبرة الطموحات والأحلام
اتفق معه شقيقه روني (49 عاما) أن القرار لم يكن بالقرار السهل لكنه أفضل من أجل مستقبل أولادهما.
قال روني إنهما وصلا إلى نقطة احتاجا عندها العمل على تقليل خسائرهما والبدء من جديد مضيفا أن من المؤسف أن
لبنان أصبح “مقبرة للطموحات والأحلام”.
وفي تقرير حديث قال مرصد الأزمة بالجامعة الأمريكية في بيروت، الذي تأسس لمتابعة أثر الانهيار الاقتصادي في لبنان، إن مئات الآلاف من اللبنانيين يرحلون في ظاهرة أطلق عليها “النزوح الثالث”.
وقع النزوح الأول خلال أوائل القرن العشرين عندما تسببت مجاعة والحرب العالمية الأولى في هجرة جماعية
والثاني خلال الحرب الأهلية اللبنانية التي دارت رحاها من 1975 إلى 1990.
قالت علا سيداني منسقة البرامج في المرصد “خلال الحرب الناس يرحلون إلى أماكن أكثر أمنا. لكن الآن ليس عندنا حرب بالسلاح بل حرب اقتصادية“.
وأضافت أن حوالي 300 ألف لبناني هاجروا خلال الموجة الأولى و900 ألف هاجروا في الموجة الثانية خلال الحرب الأهلية. ولا يزال العمل جاريا لجمع أرقام الموجة الثالثة التي تسببت فيها الأزمة الاقتصادية لكن المؤشرات تشير إلى هجرة العقول.
وقالت سيداني إن ربع القطاع التجاري في البلاد مغلق وإن نحو 100 أستاذ بالجامعة الأمريكية في بيروت رحلوا.
وتابعت أن كثيرين يرحلون بعد أن تكبدوا خسائر مالية فادحة لأن مدخرات العمر محتجزة بالمصارف التي حالت بين
المودعين وحساباتهم منذ 2019. وأوضحت أنه لن يكون من السهل التغلب على الإحساس بالغدر الذي ارتبط بذلك.
وقالت إنها تعتقد أن هذه الهجرة لا رجعة فيها مشيرة إلى أنه سيتعين على لبنان التصدي لمشاكل ارتفاع أعداد كبار
السن بين السكان إذ يرحل من هم في سن العمل بينما يبقى الكبار.
أغلق تانغي شمالي (28 عاما) وشريكاه المطعمين اللذين يشتركون في إدارتهما في لبنان لافتتاح مطعم جديد في
مدينة باتومي ثانية أكبر مدن جورجيا. وقال إن قرار الانتقال نهائي.
ورغم حاجز اللغة إذ لا يتكلم أي من الثلاثة اللغة السائدة في جورجيا فقد قال إن عملية تأسيس المطعم واضحة وإنه
يشعر بالاستقرار.