بموافقته على مقترح مشروع نظام الصلح في القصاص يكون مجلس الشورى السعودي حقق المتاجرة بالدم مطلباً مهماً لوضع حدٍّ لظاهرة طالما انتقدها بشكل واسع المجتمع والنخب المختلفة، إذ حولت فداء القاتل الذي حض عليه الشرع إلى ممارسة تجارية خارجة عن الحدود المنطقية والإنسانية.
فمبالغ الدية أصبحت في السعودية تفوق حدود المعقول، ويرى كثيرون أنها أصبحت تشجع كثيرين المتاجرة بالدم على ارتكاب الجرائم واستغلالها للاحتيال وأعمال السمسرة على ما يعرف بصندوق القبيلة، وفيه تلتزم العوائل المنضوية تحت راية القبيلة بدفع مبالغ محددة دورياً لاستغلالها عند الحاجة لأي طارئ تمر به القبيلة أو أحد أفرادها، وفق شرع محدد سلفاً.
ومطلع العام الماضي قرر مجلس الشورى السعودي دراسة تقنين ديات الصلح في القصاص، ووضع تنظيماً يحدد أسعارها التي بلغت حداً مبالغاً فيه.
المقترح قدمه عدد من أعضاء المجلس وهم: سلطان آل فارح، وسلطانة البديوي، وسليمان الفيفي، وفيصل آل فاضل، ومستورة الشمري وعضو المجلس السابق عبد الله البلوي، بعد استماعه إلى تقرير لجنة الشؤون الإسلامية والقضائية بشأنه.
والثلاثاء 1 مارس 2022 وافق مجلس الشورى السعودي على المقترح، بعد أن درسته لجنة الشؤون الإسلامية والقضائية وقدمت عليه تقريرها المتضمن رأيها وتوصيتها، وفق بيان أصدره المجلس الشورى الثلاثاء.
وتضمن المقترح وجهة نظر مجلس الشورى حيال الملحوظات والآراء التي أبداها أعضاء المجلس في أثناء مناقشة المقترح خلال جلسة سابقة.
نظام الصلح الجديد
نظام الصلح في القصاص الجديد بالسعودية هو النظام المسؤول عن جمع مبالغ الصلح الناجمة المتاجرة بالدم.
وينظم مشروع النظام وفقاً لتقرير لجنة الشؤون الإسلامية والقضائية في (18) مادة، عملية جمع مبلغ الصلح عن القصاص، وتقدير التعويض عن القصاص وتنظيمه في حالة الجناية المتعمدة على النفس وما دونها.
كما ينظم آلية دفع مبلغ الصلح عن القصاص والجهات المعنية بتنظيمها، وتحديد الإجراءات المترتبة على الصلح، والعلاقات بين مختلف الجهات ذات العلاقة، ورفع مستوى الوعي لدى أفراد المجتمع فيما يتعلق بأحكام جمع مبلغ الصلح عن القصاص، وأهمية العفو لوجه الله سبحانه.
وتنطبق مواد مشروع النظام المقترح على كل من صدر بحقه حكم شرعي بالقصاص في النفس أو فيما دونها، ووافق
المجني عليه أو أولياء المجني عليه على العفو من دون مقابل أو مقابل التعويض.
كما ينظم المشروع المقترح في مواده الأوضاع المتعلقة بالدعاية والإعلان لجمع المبالغ، حيث تمنع إحدى مواد المشروع
الجاني أو أولياء الجاني من الدعاية والإعلان بأي وسيلة كانت، أو فتح ضيافات أو اجتماعات بغرض جمع التبرع للصلح.
في حين نص المشروع المقترح في مادة أخرى على أنه لا يحق للجاني أو أولياء الجاني الاتصال بالمجني عليه، أو أولياء
المجني عليه، أو تكليف من يتصل به، إلا بعد موافقة لجنة إصلاح ذات البين في إمارة المنطقة.
لماذا المشروع الجديد؟
المشروع جاء للقضاء على الظاهرة السلبية التي صارت تظهر في المجتمع السعودي، والقضاء على السماسرة الذين
يتاجرون المتاجرة بالدم بالحوادث الجنائية.
السعودية عرفت انتشار ظاهرة المبالغة في الديات عبر حملات جمع مبالغها على مواقع التواصل الاجتماعي، لتصل
في بعض الحالات إلى جمع 55 مليون ريال سعودي (14 مليون دولار)، واعتبار القبيلة التي تلبي النداء في جمع الديات
تؤدي مظهراً مقدساً.
ذلك أدى إلى زيادة مبالغ الديات بطريقة عشوائية وظهور سماسرة الصلح الذين يفرضون نسبة لهم.
وربما أدى ذلك إلى المتاجرة والتكسب بالدماء والرقاب وحدوث قطيعة بين أولياء الدم؛ بسبب الاختلاف في قدر مبلغ
المصالح، فتكون باباً للتربح وإذكاء الفتنة ونشر الكراهية وإثارة النعرات الجاهلية.
وعليه يعتبر المشروع مهماً أيضاً من ناحية تخفيف الأثر السلبي الناتج عن تحمل القبائل المبالغ الطائلة.
لذلك عملت المملكة على تقديم جميع الحلول لسد الفراغ التشريعي، وذلك بالاستناد إلى الأحكام الشرعية الأساسية
المعمول بها في المملكة، والفتاوى التي أصدرها كبار علماء الدين، ولجنة الإفتاء الدائمة.
كل ذلك يوصل إلى الهدف المرجو وهو حفظ حقوق الناس، واستدامة الأمن والأمان في المملكة.
تحذيرات المفتي
كان لمفتي عام السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، رئيس هيئة كبار العلماء والإفتاء، رأي في المبالغة في
طلب مبالغ “الديات” في قضايا القتل.
حيث سبق أن أبدى الشيخ خشيته من أن تساعد “الديات” في استمراء المجرم لجريمته “وألفتها للقتلة من ذوي الجرائم
والإفساد”، ومن ألا تأتي أموال “الديات المليونية” بـ”البركة على طالبيها”.
كما أطلق أمير منطقة القصيم، الأمير فيصل بن مشعل، في وقت سابق مبادرة للحد من المغالاة في الديات، تعنى
بتوعية المجتمع والحث على التسامح والعفو، والتحذير من تلك الظاهرة السلبية وإيقاف استغلالها.
وقال إن مثل هذه المبادرة هي “لمصلحة الجميع، لكثرة الشكاوى من المبالغة في الديات والشروط التعجيزية على
أولياء الدم للمتاجرة بهذه الديات التي أصبح لها سماسرة ووسطاء يشترطون على أصحاب الديات”.
كما سبق أن تصدى أمير عسير، فيصل بن خالد، للظاهرة، وقال إنه “لوحظ من بعض المشايخ وبعض المصلحين بالسعي في الإصلاح بقضايا القصاص، سواء في النفس أو ما دون ذلك، وتحميل أصحاب القضايا وقبائلهم مبالغ باهظة”.
وأوضح أن الأوامر الملكية قد حددت مثل هذه الأمور بما لا يتجاوز 500 ألف ريال (13000 دولار)، وأن ما يتجاوزها مبالغ فيه، في ظل عدم التقيد بما صدر في ذلك من أكثر القبائل والمصلحين.
عقوبات رادعة
بدوره كشف عضو الشورى السعودي ناصح البقمي، عن أن مشروع نظام الصلح في القصاص المتاجرة بالدم، الذي
وافق عليه مجلس الشورى مؤخراً، سيضع حداً للمبالغ الكبيرة التي بمقابلها تعتق الرقاب، مؤكداً أن عقوبات رادعة تنتظر المخالفين.
ووفق ما أوردت صحيفة “عكاظ” المحلية قال البقمي إن مشروع نظام الصلح “سيحد من المبالغ المليونية التي تصاحب عتق الرقاب من القصاص، وسيحد أيضاً من تجار الدماء”.
وأشار إلى أن “الخيارات التي حددها النظام هي إما القبول بهذا المبلغ أو تنفيذ حكم القصاص، ومن يخالف مواد النظام بقبول تبرعات إضافية أو غير ذلك تنتظره عقوبات رادعة”.