العقوبات الغربية على روسيا.. هل جاءت بنتائج عكسية؟
كانت الاستجابة الاقتصادية العالمية للحرب الروسية هائلة، حيث تمت مصادرة أصول أشهر “الأوليغارشيين” في روسيا، وإقصاء الشركات المالية في البلاد من نظام الخدمات المصرفية الدولي، كما تم تجميد أكثر من ثلث صندوق الحرب الذي بناه (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين بسبب العقوبات، وانضمت دول آسيوية إلى المعركة الاقتصادية.
لكن بعد مرور أكثر من على 4 أشهر على اندلاع الحرب، أثيرت تساؤلات حول ما إذا كانت هذه العقوبات فعالة حقا.
في تقرير نشرته مجلة “سبكتاتور” البريطانية، قالت الكاتبة كيت أندروز إن روسيا تكافح لتصدير البضائع إلى حلفاء أوكرانيا، ولكن مثلما توقع بوتين، لم تجد أوروبا أي بديل عملي لإمدادات الطاقة الروسية، لذلك فهي تواصل الشراء من موسكو.
بحسب الكاتبة، كانت وزارة المالية الروسية تتوقع دخلا إضافيا قدره 9.6 مليارات دولار في أبريل/نيسان وحده، وذلك بفضل ارتفاع أسعار الطاقة، وإذا ظلت هذه الأسعار مرتفعة، فإن بوتين في طريقه لكسب المزيد من الأموال من النفط والغاز هذا العام أكثر من أي وقت مضى.
وفي الوقت الحالي، تجني موسكو حوالي 800 مليون دولار يوميا، ويتم إنفاق جزء كبير منها من أجل تحفيز اقتصاد البلاد، وإذا كان الهدف من العقوبات هو تدمير الاقتصاد الروسي وآلة الحرب، فمن الصعب وصفها بأنها ناجحة.
وتبين الكاتبة أنه عندما تعهد (الرئيس الأميركي جو) بايدن برد اقتصادي انتقامي ضد روسيا في فبراير/شباط الماضي، قدم مهلة زمنية لمدة شهر واحد لمعرفة آثار العقوبات. وعندما انتهى ذلك الشهر، اضطر إلى تغيير نهجه، حيث قال “العقوبات لم تنجح في ردع العدوان الروسي أبدًا. لذلك سوف نتبع نفس النهج للفترة المتبقية من هذا العام بأكمله، وهذا ما سيوقفه”.
بعبارة أخرى -وفقا الكاتبة- استعد بايدن لمباراة اقتصادية طويلة، ولم تعد إستراتيجيته تتمحور حول توجيه ضربة مالية، بل أصبحت تتمثل في ضرب خزائن الكرملين (وجيوب الشعب الروسي) على أمل أن يستسلم بوتين في النهاية.
يشار إلى أن كلا من الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا واليابان أعلنت أنها ستحظر واردات الذهب الروسي، ضمن جهود تشديد العقوبات على موسكو وقطع سبل تمويل حربها على أوكرانيا، بينما اكتفت فرنسا بإعلان تأييدها.
ماذا عن الدول المحايدة؟
بدأ التنافس بين الدول يحتدم حول من يمكنه المضي قدما في أنظمة العقوبات، فقد قامت لندن -من خلال تشريعات الطوارئ- بضمان أن يتم تبني كل عقوبة ضد “الأوليغارشية” الروسية التي قدمتها الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي على الفور كسياسة بريطانية.
وترى الكاتبة أن هناك قوى اقتصادية كبرى لا تزال تدعي أنها محايدة، فلم يكن لدى الصين أي مخاوف بشأن شراء النفط الروسي بسعر رخيص، والذي يقدر سعره بحوالي 35 دولارا (للبرميل) أي أقل تكلفة من خام برنت، كما ارتفعت طلبات الهند من الخام الروسي الشهرين الماضيين، في انخفاض للسعر أغرى ناريندرا مودي للتخلي عن التضامن الذي كان يظهره لأوكرانيا بداية الأزمة.
ولا يقتصر الأمر على شراء الدول “المحايدة” موارد الطاقة الروسية، فرغم تعهد المستشار الألماني أولاف شولتز بتعليق المصادقة على خط أنابيب نوردستريم 2، فإنه غير مقتنع بأن بلاده مستعدة لمعالجة إدمانها على الطاقة الروسية بين عشية وضحاها. وحتى الآن، تدفع برلين لروسيا 220 مليون دولار يوميا مقابل إمدادات النفط والغاز، أي أكثر من ربع الدخل اليومي للكرملين من الطاقة.
هل نجحت العقوبات؟
بدأ بعض المحللين حاليا في المجادلة بأن إستراتيجية العقوبات الغربية قد فشلت بسبب انطلاق إمدادات الغاز الضخمة عبر ألمانيا، وهذا ما سيسمح لبوتين بتمويل حربه لأطول فترة ممكنة، كما أن العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على الطاقة حتى الآن تستثني بعناية أي حملة جادة على الغاز الروسي القادم إلى التحالف.
والجدير بالذكر أن بعض الوزراء الأكثر تشددا في البرلمان غير مقتنعين بأن العقوبات يمكن أن يكون لها تأثير هائل إذا قررت ألمانيا التوقف عن شراء الغاز الروسي.
وتعتبر الكاتبة أنه ربما يكون الوقت قد نفد بالفعل بالنسبة للغرب لاستخدام العقوبات الاقتصادية لشل آلة الحرب الروسية، مبينة أنه لو تحركت أوروبا بشكل أسرع وفرضت العقوبات على قطاع الطاقة منذ بداية الصراع، لكانت نجحت في شل الاقتصاد الروسي، ولكنها تحركت بوتيرة بطيئة مما ساهم في تضاعف الفجوة بين صادرات روسيا ووارداتها 3 مرات لتصل إلى أكثر من 100 مليار دولار الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام.
ويبدو حاليا أن روسيا تخفض تدريجيا إمدادات الغاز إلى أوروبا في محاولة لمنع الدول من التخزين في الأشهر الباردة، عندما يريد بوتين أن يكون قادرا على التهديد بإغلاق الأنابيب تمامًا.
والأسبوع الماضي، أبلغت إيطاليا وسلوفاكيا عن تلقيها أقل من نصف الإمدادات المعتادة، وبوجود مثل هذه الاحتياطيات النقدية الكبيرة، يستطيع بوتين إغلاق الأنابيب بالكامل، وهو ما يطرح تساؤلات مزعجة مثل: ماذا لو كانت العقوبات والمكاسب المفاجئة الناتجة عنها تعني أن أوروبا قد تحتاج قريبا إلى الغاز الروسي أكثر بكثير مما يحتاج الكرملين إلى النقد الأوروبي؟
وكانت صحيفة لوتان السويسرية قالت في تقرير الشهر الماضي “سيصاب أولئك الذين توقعوا انهيار الاقتصاد الروسي بخيبة أمل” ودللت على ذلك بتعافى الروبل (العملة المحلية الروسية) بعد أن اتخذ البنك المركزي الإجراءات اللازمة التي شملت الترفيع في سعر الفائدة بشكل حاد لجعل الروبل أكثر جاذبية، وفرض ضوابط صارمة على الصرف لمنع الطلب على العملات الأجنبية.
الصحيفة تحدثت أيضا عن إحلال الإنتاج المحلي تدريجيًا محلّ الواردات في انتظار تحسن الوضع، بعدما تسببت العقوبات في تقليص الواردات دون أن تتعطل الصادرات.
وقالت أيضا “في الواقع، زاد فائض الميزان التجاري منذ تراجع حجم الواردات. ومن المؤكد أن العقوبات تخلق مشاكل لتسوية المدفوعات والاستثمارات الخارجية، لكن هذه مخاوف الأثرياء وليست علامات على انهيار الاقتصاد”.
وأضافت “الآن، بعد أن بدا الأوروبيون مصممين على خفض واردات المواد الخام، ستزداد الأمور تعقيدا دون أن ينتج عن ذلك انهيار اقتصادي”.
تداعيات وتأثيرات
في الوقت الذي يجني فيه الكرملين حوالي مليار دولار كل يوم، فإن العقوبات الاقتصادية لها بعض التداعيات. ففي بريطانيا، ارتفعت فواتير الطاقة بنسبة 54%، ويتعرض الغرب لأضرار اقتصادية خطيرة نتيجة لارتفاع تكاليف الطاقة، دون توجيه ضربة مدمرة للاقتصاد الروسي.
ولكن هذا لا يعني أن العقوبات الاقتصادية لم يكن لها تأثير يُذكر. وفي الحقيقة، يكافح الجيش الروسي لإعادة تجهيز المدفعية عالية التقنية، بما في ذلك الرادار ومعدات التتبع التي يحتاجها لشن الهجمات. وفي حين لا يزال لدى القوات الروسية مخزون كبير من الأسلحة التقليدية، تشير تقديرات المملكة المتحدة إلى أن الكرملين فقد ثلث القوات البرية المنتشرة بأوكرانيا، وهذا يشمل آلاف المركبات العسكرية التي سيكافح بوتين نهاية المطاف من أجل إعادة إمدادها.
وترى الكاتبة أن الغاية تبرر الوسيلة، ومن المؤكد أن بوتين كان يدفع مبالغ طائلة لرجال الأعمال على امتداد أعوام لتهريب تقنيات معينة مثل رقائق الذاكرة، اللازمة للعمليات العسكرية، من خلال ضوابط التصدير الأميركية نحو الكرملين، ولكن التحايل على العقوبات الغربية أصبح أكثر تعقيدا وأكثر خطورة.
تقول الكاتبة إنه رغم أن بوتين لديه الأموال اللازمة لضمان استمرارية اقتصاد بلاده لبعض الوقت، فإن الروس يشعرون بشكل متزايد كما لو أنه قد تم إقصاؤهم من الاقتصاد العالمي
ورغم ارتفاع قيمة الروبل إلى مستويات ما قبل الحرب فإن حجم التداولات التجارية يتراجع، نظرا لأن العديد من البلدان والشركات لا تقبل الروبل الوقت الحاضر، كما بلغ معدل التضخم في روسيا 17% على مدار العام، وقد ارتفع إلى أعلى مستوى له خلال 20 عاما بفضل العقوبات الدولية إلى حد كبير.
ورغم أن بوتين لديه الأموال اللازمة لضمان استمرارية اقتصاد بلاده لبعض الوقت، فإن الروس يشعرون بشكل متزايد كما لو أنه قد تم إقصاؤهم من الاقتصاد العالمي، ولن تكون موسكو قادرة على تجنب الركود الاقتصادي الهائل، حيث توقعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية انكماش الاقتصاد الروسي بنسبة 10% هذا العام 4% على الأقل العام المقبل، وهي توقعات أسوأ بكثير من أي دولة أوروبية.
ولكن أموال الغاز المتدفقة بشكل لم يسبق له مثيل تمنح بوتين نفوذًا أكبر بالنسبة لدولة تخضع لعقوبات شديدة، وهو يستخدمها لمحاولة إقناع الدول “المحايدة” بأنه يتجه نحو النصر، بينما يتجه الغرب نحو أزمة تكلفة معيشية قد يجد قادتها المنتخبون صعوبة في التعافي منها.
وتكشف الكاتبة أنه، في الواقع، لم تكن العقوبات جزءا من إستراتيجية طويلة المدى، بل كانت استجابة تلقائية -تقريبا- من الحكومات والشركات العالمية، ولم يتم التعامل بشكل صحيح مع تداعياتها على الغرب، وهناك بالفعل علامات على تردد ألمانيا وفشلها في تسليم الأسلحة التي وعدت بها أوكرانيا.
وتختم بالقول إنه ليس من المستغرب حقا أن الدول الغربية التي تستفيد من مستوى معين من استقلالها في مجال الطاقة، مثل الولايات المتحدة، أكثر تفاؤلا بشأن عمليات الحظر غير المحددة، في حين يبدو أن شولتز يأمل أن ينتهي الصراع بحلول الشتاء، مؤكدة أنه يجب عليهم جميعًا التعامل مع تأثير العقوبات الممتدة إلى أبعد بكثير من الهدف المقصود.