الاخبار العاجلةسياسة

ضحايا أحياء يروون قصصهم للجزيرة نت.. بعد عامين على انفجار مرفأ بيروت “أسرى الإعاقة” بلا سند

بيروت- في طريقها نحو العلاج الفيزيائي (الطبيعي) الذي تواظب عليه يوميا، تروي اللبنانية إنعام كيال قصة مأساتها بعد تفجير مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/آب 2020، الذي قلب حياتها من موظفة في القطاع العام، إلى سيدة تعجز عن التنقل بصورة مستقلة، جراء إصابات أطفأت عينها اليمنى وأصابت وجهها وعنقها وشلت يدها اليسرى وضربت عصب أطرافها.

ومنذ عامين، تتحفظ إنعام على الظهور، لأن “الكلام لا يوازي وجعي وانكساري وشعوري بالخذلان في وطن لم أجد فيه من يساندني معنويا وماديا بمصابي الكبير”.

تسترجع على مضض اللحظات الأخيرة قبل الانفجار، وما تبعها من ساعات تردد على مسمعها قول أحد الأطباء لشقيقها: إنها توفيت.

فقبل دقائق من الانفجار، كانت إنعام داخل مكتبها بمؤسسة عامة قريبة من المرفأ. ولدى رؤيتها سحابات الدخان، توجهت إلى النافذة لتصوير المشهد، لم تمض ثوان حتى دوى الانفجار ودفعها بقوة إلى الحائط، فأصابتها شظايا الزجاج وتضرجت بالدماء.

وتقول للجزيرة نت إنها أجبرت نفسها على النهوض بعد دقائق، وتوجهت إلى سيارتها المحطمة جزئيا، فساعدها موظف ونقل معها 3 جرحى، ودارت على 5 مستشفيات قبل أن تجد مكانا لإجراء عمليات طارئة دامت 8 ساعات.

تختنق إنعام بالحديث وفي جسدها نحو 200 قطبة، وتعاني من مشكلة بالتوازن إذ لا تستطيع التنقل والتحرك والاستحمام من دون مساعدة أحد، و”ألم العجز سيرافقني مدى حياتي”.

لم تحصل إنعام على أي مساعدة مادية من الدولة والوزارات المعنية لتلقي علاج تتكبده على نفقتها الخاصة. وتحتاج يوميا إلى 400 ألف ليرة (حوالي 13 دولارا) للعلاج الفيزيائي، فضلا عن مبالغ باهظة لتكاليف الأدوية والمراهم وقطرات العيون.

وتعقب بحزن شديد “لو كنت ببلد آخر، لأجريت العمليات التي أحتاجها للتعافي على نفقة الدولة، وهذا القدر قاس”.

4 9
إنعام كيال قبل الانفجار وبعده وكيف غير الحادث حياتها (الجزيرة)

عرقلة التحقيقات

ومثلها، كانت الشابة ميلفين الخوري (33 سنة) تتجه نحو شرفة منزلها في الأشرفية مع شقيقها، لالتقاط الصور بعد دوي الانفجار الأول، فدفعتها ارتدادات الانفجار إلى الحائط، وهبط عليها خشب وأغراض ثقيلة، مما تسبب في كسور بليغة بوجهها وأسنانها وصدرها.

وميلفين كانت مقدمة برامج في إحدى القنوات الدينية المحلية، فتضاعفت مأساتها بعد تشوه وجهها الذي سيبقى فيه الحديد داخليا طوال عمرها.

وتقول للجزيرة نت “لم أحسب أن أعيش كهذا الألم الجسدي والنفسي، وأن أجري 7 عمليات بالعظام في عامين”. وترى أن الصدمة غيرت رؤيتها، فـ”لم يعد هناك شيء مادي يعنيني بعدما منحني الله فرصة الحياة مرة ثانية”.

تنظر ميلفين لنفسها وشقيقها وكل جرحى التفجير على أنهم قتلى أحياء متروكون بلا سند، فـ”لم يكفِ الألم، حتى وقعنا بمأزق مادي للعلاج المكلف بسبب عدم تكفل الدولة بنا كوننا مصابين بمجزرة وطنية”.

هذا التخلي -وفقا لميلفين- امتداد “لجريمة أخرى تتجسد بعرقلة التحقيقات، فنشعر بقتلنا مرتين لمجرد حرماننا من حق العدالة”.

3 copy 2
ميلفين الخوري كانت إعلامية بإحدى القنوات الدينية قبل الانفجار وبعده وكيف حرمتها الإصابة من مواصلة عملها (الجزيرة)

شاهد العنبر 12

نجا اللبناني محمد دقدوقي (41 سنة) حين كان على مسافة أمتار قليلة من العنبر 12 الذي اشتعلت فيه أطنان من نترات الأمونيوم المخزنة منذ عام 2014. هذه الأعجوبة -كما يسميها- جعلته يخرج مبتور القدم اليمنى، مع استئصال عينه اليسرى وحرق يده اليمنى وتشظي جسده بالزجاج.

كان محمد يعمل سائقا بإحدى شركات الشحن بالمرفأ، ويستذكر يوميا الرابع من أغسطس/آب 2020 “كأنه يحدث للتو”. ويقول للجزيرة نت إنه كان يستعد لترك المرفأ عند السادسة بعد انتهاء دوامه، “إلى أن ناداني 3 من مديري الشركة للتوجه قرب العنبر 12 لسحب بضاعتنا ومركباتنا القريبة منه بعد تصاعد الدخان”.

ويتحدث عن صوت كالطيران سمعه، فخاف الجميع وهرع كل أحد باتجاه. واسترجع المشهد بقوله “ركضت نحو سيارتي، فصرخ مديري: ارتمِ بالمقعد الخلفي، بعد لحظات مكثفة كالهيستيريا لم نشعر بشيء، وعلمنا أن زملاءنا بالمرفأ عثر عليهم أشلاء وأننا الناجون الوحيدون من داخله”.

اقرأ ايضاً
السعودية أعلنت شرطة الرياض القبض على مواطن بحوزته 37 ألف قرص مخدر

سافر محمد، وهو أب لـ3 أولاد، إلى صديقه في دولة الإمارات، بحثا عن علاج لشلل يده اليمنى، ويقول “لم تساندني الجهات الرسمية بالعلاج، ولا أمل لنا بأي تعويض مادي ومعنوي”.

3 10
محمد الدقدوقي قبل الانفجار وكيف بتر الانفجار قدمه وتسبب بشلل يده وأصاب وجهه بحروق (الجزيرة)

دعم خجول

هذه عينة من 3 قصص عن وضع مئات الجرحى جراء انفجار الرابع من أغسطس/آب، وهم يحيون الذكرى الثانية بآلام جسدية كسرتهم نفسيا، وأصبح العشرات منهم في عداد ذوي الإعاقة وخسروا أعمالهم، لفقدانهم الحركة أو البصر أو السمع أو أحد الأطراف والأعضاء. ويجمع معظمهم أن الدولة -ممثلة في هيئاتها الإغاثية والحكومية- لم تقم بواجباتها تجاههم في رحلة العلاج التي سترافق كثيرين مدى العمر.

وحال هؤلاء كحال آلاف الأسر في بيروت التي دمر الانفجار منازلها، فقامت بترميمها إما على نفقتها الخاصة، أو بمساندة بعض المنظمات غير الحكومية، وذلك خارج إطار سياسة وطنية شاملة لإعادة الإعمار والتعويض العادل للجرحى وذوي الضحايا والمتضررين.

وعقب أشهر قليلة من الانفجار، أقرّ البرلمان اللبناني قانونا مفاده اعتبار من قتلوا بانفجار المرفأ (أكثر من 200 شخص) بمثابة شهداء في الجيش اللبناني، يحصل أصحاب حقوقهم على تعويض وراتب تقاعد جندي شهيد (يعادل أقل من 50 دولارا). كما اعتبر القانون أن الجرحى المصابين بإعاقة جزئية أو كاملة مشمولون فقط بالتقديمات الصحية للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ويمكنهم الاستفادة من حقوق أصحاب ذوي الاحتياجات الخاصة.

مع الإشارة هنا إلى أن صندوق الضمان شبه مفلس، ولا يستفيد المشتركين من تقديماته فعليا بعد انهيار قيمة الليرة، لأنه يعتمد سعر الصرف الرسمي (1507 ليرات)، وهي تتنافى مع تكاليف العلاج والاستشفاء في لبنان التي أضحت تقاس بسعر صرف الدولار بالسوق السوداء (نحو 30 ألف ليرة للدولار).

مساعدات تضل طريقها

ولا يوجد حاليا لدى وزارة الشؤون الاجتماعية أي برنامج دعم خاص بالجرحى والمتضررين، وعلل وزيرها هكتور الحجار ذلك -للجزيرة نت- بأن كل برامج الدعم الاجتماعية الحكومية تعني اللبنانيين بصورة عامة، ولا تخص فئة من دون أخرى، نظرا لشح الإيرادات في الأزمة الاقتصادية الراهنة.

من جانبه، يفيد رئيس الهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد الخير، الجزيرة نت، بأن الهيئة دفعت تعويضات مادية رمزية لذوي الضحايا بعد الانفجار، وتوزع مساعدات مادية وعينية دوريا لأصحاب البيوت المتضررة.

وهنا، تعتبر الأكاديمية والمحامية المتخصصة بتعويضات الكوارث نادين عرفات أن كل المساعدات الرمزية التي تلقاها الجرحى وذوو الضحايا والمتضررون، سواء من الدولة أو معظم الجمعيات الأهلية أو المنظمات الدولية غير الحكومية، تكرس ثقافة “الإعاشة” التي تنتهك الكرامة الإنسانية بمثل هذه الكوارث، خصوصا أنها جاءت متقطعة لا تراعي الاحتياجات، وبلا نظام تعويضات واضح يرعى مختلف الجوانب المادية والمعنوية.

وتذكّر عرفات -عبر الجزيرة نت- بتدفق هائل لملايين الدولارات من الخارج عقب الانفجار، أدارتها وصرفتها منظمات غير حكومية متعددة الأقطاب، ولم تحقق أهدافها على مستوى الإغاثة.

وترى الباحثة أن الفساد تأصل واستمر بفعل هذه الكارثة، ولم تبادر الدولة ومختلف الجهات غير الحكومية، لجمع الأموال والدفع نحو إنشاء “صندوق وطني لتعويض ضحايا ومتضرري كارثة تفجير المرفأ”.

وتوضح أن الجهات الحكومية وغير الحكومية تقاعست عن دورها أيضا لجهة الضغط على شركات التأمين لإعطاء الفئات المتضررة حقوقها قبل انتهاء مهلة السنتين للمطالبة.

وبرأي الخبيرة أن البنية التحتية القانونية المرتبطة بالدولة غائبة؛ ومن ثمّ، فإن “الدولة اللبنانية لم تعترف عمليا بالحقوق الفعلية للجرحى والمتضررين واكتفت بتعويض مادي هزيل وضمان صحي غير فاعل. وهو انعكاس لوضعها كدولة غائبة كليا، لا تؤدي واجباتها وتتنكر لأبسط حقوق مواطنيها المسلوبة”.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى