الاخبار العاجلةسياسة

من “أبو سليقة” و”أبو جلدة” إلى مخيم شعفاط وعرين الأسود.. كيف شكّل الفلسطينيون حاضنة شعبية لمقاوميهم تاريخيا؟

رام الله- أقل من نصف ساعة فصلت بين دعوة مجموعات “عرين الأسود” المسلحة أهالي مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، إلى النفير والتكبير منتصف ليلة الثلاثاء؛ وبين تجمّع لحشود الفلسطينيين، حيث خرجوا تلبية لتلك الدعوة وحماية لمقاومتهم في وجه ملاحقات الاحتلال.

وليس في نابلس فقط، فقد أسمع نداء المقاومة مناطق متعددة من الضفة الغربية والقدس وغزة، في تجسيد علني وواضح لمعنى “الحاضنة الشعبية” للمقاومة؛ فبينما كان على الاحتلال مواجهة مجموعة من عشرات المقاومين، وقف الآلاف في قلب المدينة وحول بلدتها القديمة لتحصين المقاومين.

وانضم هذا المشهد إلى الخطوة اللافتة التي ابتدعها العشرات في مخيم شعفاط، شمال شرق القدس المحتلة، عندما شرعوا بصورة عفوية وغير منظمة، بحلق رؤوسهم (على الصفر) تشبّها بابن المخيم “عدي التميمي” قبل أن يستشهد برصاص الاحتلال في وقت متأخر من مساء أمس الأربعاء قرب مستوطنة “معاليه أدوميم” المقامة على أراضي الفلسطينيين شرق المدينة المقدسة المحتلة.

وحلق أبناء المخيم رؤوسهم لتصعيب مهمة الاحتلال بالبحث ورصد “المقاوم المطارد”، الذي نفذ عملية إطلاق نار على الحاجز القريب من المخيم وقتل مجندة في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الجاري. ونشر الاحتلال صورته “وهو شاب أصلع”. وتداول نشطاء في مواقع التواصل الاجتماعي مشاهد قصيرة لحلاقة الشباب رؤوسهم داخل مخيم شعفاط وخارجه وخاصة في أحياء القدس والخليل وبيت لحم.

مبادرة حلق الرؤوس في مخيم شعفاط للتغطية على أبناء المخيم المطاردين المصدر: مواقع التواصل
من مبادرة حلق الرؤوس بمخيم شعفاط للتغطية على أحد المطاردين للاحتلال وهو شاب أصلع (مواقع التواصل)

لحماية “عدي”

يقول أحد النشطاء ممن شاركوا بحلق رؤوسهم -فضّل عدم ذكر اسمه- “كانت خطوة عفوية قصدنا من خلالها التضامن مع “عدي” وخلق إرباك لطائرات الاحتلال التي لم تغادر سماء المخيم وجنود الاحتلال على الحاجز الذين يحملون صوره”.

وتابع الناشط للجزيرة نت “لم نتوقع انتشار الفكرة بهذا الشكل، ففي المخيم حتى الآن أكثر من 100 شاب قاموا بحلق رؤوسهم، بالإضافة إلى العشرات من القدس وغيرها من المناطق”.

ليس هذا فحسب، فقد تلقف أبناء المخيم الفكرة وزادوا عليها بدعوات لذكر اسم الشهيد عدي مرارا خلال اتصالاتهم الهاتفية للتشويش على عملية تعقبه. إلى جانب الاتصال المتكرر بأرقام الشرطة الإسرائيلية للإبلاغ عن “طائرات الاحتلال” في سماء المخيم، لتشتيتها وإرباك مطاردته.

وأعادت حالة الإسناد الشعبي للمقاومة والمقاومين في مخيم شعفاط ومدينة نابلس، إلى الذاكرة الفلسطينية حالات مشابهة في تاريخ نضالهم منذ الانتداب البريطاني مرورا بالثورة الكبرى أواسط ونهاية الثلاثينيات، ثم الاحتلال الإسرائيلي والانتفاضتين الأولى والثانية وحتى الآن.

ولعل قصة لجوء الفلسطينيين إلى ارتداء الكوفية التي كانت مقتصرة على الفلاحين، في ثورة عام 1936 للتغطية على الثوار الذين عرفوا بارتدائها، وتسهيل انسحابهم، كانت المشهد الأبرز الذي استعاده النشطاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن تاريخ النضال الفلسطيني يضم صورا متعددة لهذا الإسناد وإن اختلفت أدواته.

حاضنة المؤمنين بالمقاومة

وفي دراسة بعنوان “الحاضنة الشعبية للمقاومة الفلسطينية في مدينة بيت المقدس 1987-2019″؛ يعرّف الباحث والأسير السابق موسى العكاري الحاضنة الشعبية بأنها “توفير بيئة عمل مناسبة للمقاومة ودعمها ماليا وسياسيا وتحمل التكاليف والاستحقاقات الناتجة عن هذا العمل”.

وقوام هذه الحاضنة وفق العكاري -الذي خاض تجربة المطاردة لسنوات على خلفية مشاركته في خلية مسلحة قتلت ضابطا إسرائيليا وأصابت 3 آخرين في عمليات متفرقة- “الأشخاصُ المقتنعون بخط المقاومة والمستعدون لتقديم التضحيات”.

فلسطين- رام الله- عزيزة نوفل- حمزة العقرباوي- وسائل التواصل
الباحث حمزة العقرباوي تحدث عن حاضنة شعبية في تاريخ مبكر من الثورة الفلسطينية (مواقع التواصل)

من أيام أبو سليقة والكباري

أما الباحث في التاريخ الشفوي الفلسطيني حمزة العقرباوي، فيستحضر نماذج من “الحاضنة الشعبية” من بواكير العمل النضالي المقاوم للاحتلال البريطاني قبل 100 عام، وتحديدا عام 1921 عندما لاحقت القوات البريطانية أول مجموعة مسلحة مارست الكفاح المسلح ضد الاحتلال في منطقة شمال الضفة، والتي عُرفت بمجموعة “صالح أبو سليقة” و “أبو كباري”.

ومن بعدها مطاردة أحمد المحمود، الشهير بـ”أبو جلدة” ورفيقه صالح العرميط، من نفس المنطقة في الفترة الممتدة ما بين 1930-1934.

وخلال مطاردتهم لاقوا جميعا احتضانا شعبيا كبيرا في القرى التي ينتمون لها وأخرى قريبة، وقدم لهم الأهالي الحماية والمبيت وسهّلوا تنقلهم واختفاءهم مدة 5 سنوات كاملة.

وفي سنوات لاحقة، يتابع العقرباوي بالقول لقد طوّر الفلسطينيون الحاضنة الشعبية وأصبحت أكثر تنظيما ووعيا وهو ما ارتبط بتحول المقاومة إلى حالة عامة ولا سيما خلال فترة الثورة الفلسطينية عام 1936، فكان لبس العقال والكوفية للتغطية على الثوار بشكل جماعي، ومقاطعة كل من يلبس الطربوش.

اقرأ ايضاً
الكويت تسجن متهمين في واحدة من أكبر قضايا غسل الأموال

ويذكر العقرباوي أبيات من الزجل الشعبي الذي ارتبطت بالحالة العامة التي كرستها هذه الخطوة والتي وصلت لحد أن موظفي الإدارات البريطانية كانوا يرتدون الحطة (الكوفية) على الرأس في طريقهم إلى أماكن عملهم. وردد الفلسطينيون حينها “الحطة بـ5 قروش.. ونذل اللي يلبس طربوش”.

 

 

المخاتير والبدو

وفي مراحل أخرى، قام المخاتير (المسؤولون عن إدارة القرى) بإيواء الثوار وتهريبهم بادعاء أنهم يعملون لديهم بعد تنكرهم بزي حرّاثين، وإخفاء سلاحهم.

ويشير عقرباوي إلى أن كل مرحلة من مراحل النضال الفلسطيني كان لها ما يميزها، فبعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1948 عادت الحاضنة الشعبية لتأخذ الشكل الفردي.

ويذكر الباحث أيضا قصة مجموعات المقاومة التي شكلها ضابط مصري اسمه “مصطفى حافظ” عام 1954 من أبناء قطاع غزة ودربهم على التسلل إلى الداخل المحتل ومهاجمة أهداف للاحتلال أو إعادة ممتلكات بقيت في منازل الفلسطينيين قبل تهجيرهم في النكبة، وكان هذا يتم بمساعدة وحماية البدو الموجودين في المنطقة.

وهو ما كان في العام 1967 أيضا، عندما شكل أهالي “الغور الغربي” حاضنة شعبية للفدائيين الذين تسللوا عبر نهر الأردن الى الضفة الغربية لتنفيذ عمليات، من خلال توفير الطعام والتغطية على تنقلاتهم.

منع الاعتقال و”الطقطقة”

بقيت هذه الحالات فعلا متناثرا وغير منظم حتى الانتفاضة الأولى أواخر الثمانينيات، حيث تحولت “الحاضنة الشعبية” إلى حالة عامة.

ويُذكر هنا دور النساء اللواتي كن يُخلّصن الشبان من الجنود أثناء محاولات اعتقالهم، أو إيواء المطاردين في منازلهن لتشتيت الجنود الإسرائيليين خلال البحث عنهم.

وفي البلدة القديمة بنابلس، اتبع الأهالي حيلة “الطقطقة” فمن يلمح قوات الاحتلال يقوم بإصدار صوت بالطرق على أعمدة الكهرباء المعدنية، حتى ينتشر الطَّرق بـ”الطقطقة” في كل أحياء البلدة القديمة ويتمكن المطاردون من الهرب.

وفي بعض القرى تشكلت لجان حراسة ترابط على مداخل القرية ويطلق أعضاؤها الصفير عند اقتحام الاحتلال، ويكرره من يسمعه حتى تصل الإشارة للمقاومين.

فلسطين - رام الله- عزيزة نوفل- استاذ علم الاجتماع وسام الرفيدي- خاص بالجزيرة نت_
الأكاديمي وسام الرفيدي: حاليا تتحمل الحاضنة الشعبية دورا مضاعفا بسبب غياب الحاضنة التنظيمية من الفصائل (الجزيرة)

الحاضنة الشعبية والتنظيمية

يرى أستاذ علم الاجتماع وسام الرفيدي أن الحاضنة الشعبية وتطورها ارتبطا طرديا بالعمل المقاوم، فكلما تطور هذا الفعل على الأرض زادت واتسعت، كما كان في الانتفاضة الأولى والثانية.

ويقول الرفيدي للجزيرة نت، إن التطور النوعي في شكل الاشتباك وتصاعده من جنين ثم نابلس وصولا إلى مخيم شعفاط زاد التضامن مع المقاومة، وساهم في بروز الحاضنة الشعبية من جديد.

والآن، تتخذ هذه الحاضنة وفق الرفيدي، أشكالا متعددة؛ ففي جنين شكّل المخيم -بكونه وحدة كاملة- حاضنة شعبية لأبنائه المقاومين، ولكل من يلجأ إليه من خارجه، بينما في البلدة القديمة الحاضنة الأقوى في مدينة نابلس، وفي شعفاط، يبرز دور الشباب خاصة في توفير هذه الحماية.

ويتحدث الرفيدي عن الحاضنة الشعبية من واقع تجربته الشخصية بالتخفي لـ9 سنوات خلال مطاردة الاحتلال له في الانتفاضة الأولى. ويقول “لا يوجد معايير وشكل محدد لاحتضان المطاردين وحمايتهم، فأي خطوة يمكن أن تخلق إرباكا واستفزازا للاحتلال تدخل في مفهوم الحاضنة الشعبية، كما كان من خروج أهالي نابلس للتكبير، أو حلق شبان شعفاط لرؤوسهم”.

ويميّز الرفيدي ما بين الحاضنة الشعبية والتنظيمية. حيث كانت كل منهما تحمل الأخرى في الانتفاضة الأولى والثانية.

ففي الحالة التي تعيشها الضفة الغربية الآن استعاد الشارع الفلسطيني الحاضنة الشعبية، ولكن الحاضنة التنظيمية التي كانت توفر للمقاوم المطارد والمتخفي كل عناصر الحماية من مبيت ومأكل وتنقّلات ما تزال غائبة تماما. وهو ما يجعل دور الحاضنة الشعبية في هذه المرحلة مضاعف.



المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى