دفعت ثمن قربها من الحدود.. الجزيرة نت ترصد ثوب الموت الذي لبسته خاركيف الأوكرانية
خاركيف – على الطريق المؤدي إلى مدينة خاركيف بشرق أوكرانيا تنتشر أراض زراعية واسعة، تلحظ كيف جفت فيها محاصيل القمح والذرة من دون أن تحصد؛ فيتشكل لديك انطباع فوري بأن القادم أسوأ، وأن آثار الحرب الروسية في خاركيف كبيرة.
وبالفعل، ما إن تصل إلى المدينة حتى تُدرك أن الحرب عصفت بالمكان كما لم تفعل في أي مدينة أخرى، فمشاهد الدمار تستقبلك عند أول المباني السكنية في حي “خولودنا هارا” الغربي، المطلة مباشرة على الطريق الواصل من كييف.
وهكذا هو الحال في جميع أحياء ثاني أكبر المدن الأوكرانية، التي كان قربها من الحدود مع روسيا لعنة عليها، على ما يبدو، لا سيما أن تلك الحدود تبعد عن وسط المدينة مسافة 40 كم فقط.
هذا القرب جعل المدينة فريسة سهلة للقصف الروسي الذي يتكرر بين حين وآخر، حتى إنه سبب رئيس لنشوب القصف ووقوع الضحايا قبل أن تدوي صفارات الإنذار ويستطيع الناس الالتجاء إلى مكان آمن، فترى بعضهم يركضون بجد وخوف، بعكس مدن أخرى؛ تأقلم سكانها مع أصوات الانفجارات والتحذيرات.
دمار واسع في حي سالتافكا
ولأنه من أقرب الأحياء السكنية إلى الحدود، وبوابة الروس الشمالية نحو المدينة، نال حي سالتافكا من القصف أكثر مما نال غيره.
في جزئه الشمالي، لم يسلم مبنى سكني واحد من القصف أو تداعياته، دمارا أو حرقا أو تحطما للشرفات والنوافذ والزجاج، فتحوّل إلى أنقاض؛ لا يستعجل سكانه العودة إليه، بخاصة أن أصوات القصف والقصف المضاد تسمع حتى الآن فيه.
أما من بقي فيه من السكان، وهم غالبا من الفقراء الذين لم يملكوا سيارات أو ما يكفي من المال للنزوح، فيستعجلون الاصطفاف في طوابير المساعدات الإنسانية كلما وصلت إليهم دفعة شاحنات جديدة، من جهات حكومية وغير حكومية، محلية وخارجية.
غياب عربي عن سوق ستودينتسكا
وفي الحي ذاته، تشعر برهبة أثناء التجول في السوق المجاورة لمحطة مترو “ستودينتسكا” (الطلابية)، التي يسميها كثير من الأوكرانيين “سوق العرب”، لكثرة سكان الحي من العرب خصوصا والأجانب عموما، وكثرة المطاعم والمحالّ العربية فيها.
اليوم، يغيب الصخب عن السوق كغياب رائحة الأطعمة الشرقية المختلفة، والأصوات العربية التي تدعوك إلى التفضل والشراء، أو تلك التي تعاكس -أحيانا- فتيات في المكان.
الحضور اليوم والحركة هنا لقلة قليلة بقيت في الحي من سكانه الأصليين، لا لطلاب أجانب عامة ومغاربة خاصة، يدرسون في أكاديمية الصيدلة القريبة، ولا لأي جنسيات مسلمة أخرى تهتم بإغلاق محال اللحوم “الحلال” في السوق، أو حتى بإغلاق مساجد المدينة أبوابها معظم الأحيان.
لم يبق في المكان إلا محل واحد لبيع الشاورما، فتحه صاحبه التركي قبل مدة، ويشكو -للجزيرة نت- قلة الزبائن على عكس ما كان، والانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي.
وغير بعيد عن الحي أيضا، يقف سوق “بارباشوفا” شاهدا على القصف وضحية له، بدمار أجزاء واسعة من محالّه وساحاته، وهو واحد من أكبر أسواق أوكرانيا وأشهرها.
مدينة أشباح شاحبة
للأسباب السابقة الذكر، ورغم أن قوات روسيا انسحبت من المدينة في نهاية مارس/آذار الماضي، كما فعلت في مناطق كييف وتشيرنيهيف وسومي، لا تستعجل الحياة العودة إلى طبيعتها في خاركيف كغيرها، بل تبقيها شاحبة، وملكا للأشباح حتى يومنا هذا، إن صح الوصف.
تدرك هذا جيدا عندما لا تجد بسهولة فندقا يستقبل النزلاء في وسط المدينة، حيث تضررت كثير من الأبنية التاريخية الأثرية وغيرها، وتتجول فيها من دون زحام، فترى سيارات الجيش عند كل منعطف وإشارة ضوئية، وتفاجأ بغض رجال الشرطة الطرف إذا خالفت قواعد السير؛ حتى إن كان ذلك في ساحة “الحرية” (لينين سابقا) أمام مبنى إدارة المنطقة المدمر.
وتدرك ذلك أيضا عندما لا تجد جامعة أو مدرسة مفتوحة الأبواب وطلابا في خاركيف (مدينة الجامعات)، وتنظر فلا تجد أحدا يتوجه في وسطها إلى متنزه هوركوفا الذي يعدّ من أشهر وأجمل متنزهات أوكرانيا، أو إلى متنزه الأديب تاراس شيفتشينكو الذي غُطي تمثاله بأكياس الرمل والقماش، حتى لا يتعرض للإصابة، وصارت السناجب حرة الحركة في المتنزه كأنه ملك حصري لها.
ولا مجال اليوم لجولات تسوق مع الأصحاب في شارع سومساكيا الرئيسي أو المراكز التجارية، فالأصحاب تفرقوا وكل شيء مغلق، وحتى إذا ما أردت تناول الطعام فلن تجد بسهولة مطعما مفتوح الأبواب، فمعظم الأماكن موصدة بألواح خشبية، خشية الشظايا واللصوص.
اليوم، إذا طال انقطاع الكهرباء صباحا، وانعكس ذلك ضعفا على شبكات الاتصال والإنترنت، وتوقفا عاما يشمل المتاجر والمطاعم ومحطات الوقود وخطوط مترو الأنفاق، عمّت حالة من القلق بين الناس، وأُطلق العنان لأفكار وهواجس عدة، تربط -غالبا- ما يحدث بهجوم وشيك من نوع ما، أو أمر يحاك للمدينة.
أما إذا جنّ الليل، فتغرق المدينة كلها في ظلام دامس وصمت رهيبين، حتى قبل بداية فترة حظر التجول، حيث لا تعلو إلا أصوات القصف القريب أو البعيد، وأصوات حركة السيارات والآليات العسكرية.
تمسك بأوكرانيا والأوكرانية
لكن اللافت في خاركيف، وما يميزها أكثر بكثير عن غيرها، كثرة الأعلام والشعارات الوطنية في شوارعها، وتحوّل كثير من سكانها -قصدا- إلى التحدث باللغة الأوكرانية، بدلا عن الروسية التي كانت أوسع انتشارا.
فيكتوريا، الشابة التي تعمل في محل لبيع البيتزا، بررت ذلك للجزيرة نت بالقول “رأينا ما يكفي لنوقن أن في استخدام الروسية دعما معنويا وحجة يستغلها العدو، ولهذا قررت شخصيا. ومن حيث المبدأ، أن أتحول إلى استخدام الأوكرانية، حتى إن كنت أتقن الروسية أكثر، وهكذا فعل كثير من زملائي وأصدقائي”.
وهكذا فُعل بأسماء كثير من شوارع المدينة، ولعل أبرزها شارع “موسكو” الذي أصبح شارع “أبطال خاركيف”، تقديرا لمن سقطوا في المدينة من أبنائها، فشكلوا أول صدمة لروسيا التي لطالما عدّت خاركيف واحدة من أكثر المدن ارتباطا بها، وحنينا إليها.