الاخبار العاجلةسياسة

حدود دامية بين طاجيكستان وقرغيزستان.. إرث سوفياتي ينتظر علاجا

الاشتباك الحدودي الأخير بين طاجيكستان وقرغيزستان ليس الأول من نوعه، ويبدو أنه لن يكون الأخير، طالما بقيت الحدود الطويلة بينهما غير مرسومة بصيغة مرضية ومقبولة من الدولتين الجارتين، اللتين ورثتا تلك المشاكل الحدودية عن الاتحاد السوفياتي السابق منذ استقلالهما عنه مطلع تسعينيات القرن الماضي.

ليس الجوار فقط هو ما يجمع قرغيزستان وطاجيكستان، بل يجمعهما تاريخ وروابط خاصة مع موسكو التي تظل القبلة الأولى لهما، إلى جانب دول أخرى بآسيا الوسطى تعتبرها روسيا حديقة خلفية لها، رغم استقلالها عن الاتحاد السوفياتي السابق قبل أكثر من 30 عاما، لكن يبدو أن منطقة النفوذ تلك باتت محل استقطاب من قوى غربية خصوصا الولايات المتحدة التي تولي المنطقة اهتماما خاصا بعد انسحابها من أفغانستان، كذلك التطلعات الصينية والأوروبية بالمنطقة التي تجعلها محل اختبار للنفوذ الروسي.

روابط

ظلت الروسية اللغة الرسمية لطاجيكستان حتى عام 2009، ولا تزال ضمن اللغات الرسمية في قرغيزستان، كما يتم التعامل بها أيضا على نطاق واسع في طاجيكستان، حالها في ذلك حال بقية دول آسيا الوسطى، حيث الروسية لغة التعليم السائدة فيها رغم أن لغاتها المحلية باتت رسمية إلى جانب الروسية.

وتظل روسيا قبلة الباحثين عن عمل لدى مواطني غالبية دول آسيا الوسطى التي تعاني الفقر والبطالة، فعلى سبيل المثال بلغ عدد الطاجيك الذين يهاجرون إلى روسيا للعمل أعلى مستوى له العام الماضي، وتظهر الإحصاءات الرسمية أن 1.6 مليون مواطن طاجيكي ـنحو ربع سكان طاجيكستان- سافروا إلى روسيا للعمل الفترة ما بين يناير/كانون ثاني 2021 وحتى سبتمبر/أيلول من نفس العام مما جعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقول “إن العمال الطاجيك المهاجرين يقدمون مساهمة كبيرة في تنمية اقتصاد بلدنا، وهم جسر بشري وجسر صداقة بين روسيا وطاجيكستان”.

إلى جانب ذلك، لا تزال روسيا أيضا قبلة البعثات التعليمية القادمة قرغيزستان وطاجيكستان، والأهم من ذلك أنهما تستضيفان قواعد عسكرية روسية وتربطهما علاقات أمنية وثيقة مع موسكو، كما أنهما عضوان في “منظمة معاهدة الأمن الجماعي” التي تقودها روسيا وتهيمن عليها عبر جيشها.

الاعتبارات السابقة تدفع إلى المراقبة الدقيقة لوسائل وأدوات الاستقطاب في هذه المنطقة من العالم، كما تعد اختبارا لإمكانيات روسيا في احتواء الخلافات بآسيا الوسطى وفي مقدمتها الأزمة الحدودية بين طاجيكستان وقرغيزستان حيث واكب اندلاع الاشتباك الحدودي بينهما انعقاد قمة “منظمة شنغهاي” بمدينة سمرقند في أوزبكستان.

وتضم هذه المنظمة في عضويتها الدول الأربع السابقة، إلى جانب الصين، وكازاخستان وباكستان والهند وأوزبكستان، وأخيرا إيران التي تتمتع إلى جانب تركيا بقدر من التأثير على دول آسيا الوسطى الخمس المستقلة عن الاتحاد السوفياتي السابق بحكم الامتدادات اللغوية والعرقية.

التوقيت

بدأ الاشتباك الأربعاء الماضي عشية قمة منظمة شنغهاي، في وقت يتواصل القتال بين روسيا وأوكرانيا، وكذلك بين أذربيجان وأرمينيا، وتبادلت طاجيكستان وقرغيزستان -اللتان شارك رئيساهما بهذه القمة في سمرقندـ الاتهامات باستخدام الأسلحة الثقيلة في تصعيد للصراع الحدودي الذي أدى لمقتل العشرات وسط مخاوف من اتساع دائرة الاشتباكات.

وبينما دعت روسيا حلفاءها في آسيا الوسطى إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لإعادة الوضع على الحدود بين البلدين إلى السيطرة، التقى الرئيسان القرغيزي صدر جباروف، والطاجيكي إمام رحمن علي، على هامش قمة منظمة شنغهاي، واتفقا على وقف إطلاق النار. وقال جباروف إنه لن يوقف جهوده لتسوية قضية ترسيم الحدود مع طاجيكستان في أقرب وقت ممكن، متعهدا في الوقت نفسه بـ “عدم التنازل عن متر مربع واحد من أرض”.

الجذور

تنبع قضايا الحدود في آسيا الوسطى من الحقبة السوفياتية عندما حاولت موسكو تقسيم المنطقة بين مجموعات عرقية كانت مستوطناتهم تقع غالبا وسط تلك التي تنتمي إلى أعراق أخرى. وخلال فترة الاتحاد السوفياتي، تم ترسيم حدود دول آسيا الوسطى بشكل مصطنع، في عشرينيات القرن الماضي في ظل حكم الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين، مما أدى إلى صراعات مختلفة بين تلك الدول التي نالت استقلالها عام 1991، ومن بينها قرغيزستان وطاجيكستان.

تاريخياً، كان سكان قيرغيزستان من البدو الرحل وكانوا يسافرون بين المراعي الموسمية على ارتفاعات مختلفة للرعي في أوقات مختلفة من السنة. وكانت مواشيهم دائمًا المصدر الرئيسي لدخل أسرتهم، كما يقول المثل القرغيزي “الله يهب الأبناء أولًا وبعدهم الكثير من الماشية”.

وعلى عكس جيرانهم القرغيز، كان لدى السكان الطاجيك أسلوب حياة مستقر واحتفظوا بأعداد صغيرة من الماشية، ونظرا لأن الماشية الطاجيكية بالمنطقة الحدودية محدودة المراعي، اعتمدت جمهورية طاجيكستان الاشتراكية السوفياتية على موارد المراعي الموجودة بإقليم قرغيزستان.

وكان للمجتمعات القرغيزية والطاجيكية حقوق ملكية مشتركة للوصول إلى الموارد الطبيعية، واستخدامها بموجب نظام حيازة الأراضي على أساس حقوق الملكية التي تدعمها سلطات الدولة السوفياتية.

ومع زوال الاتحاد السوفياتي، تم حل المزارع الجماعية ومزارع الدولة، وأصبحت اتفاقيات إدارة المراعي باطلة. وأصبحت كل من قرغيزستان وطاجيكستان دولتين مستقلتين، وحدثت تغييرات جذرية على الجانب التشريعي لأنظمة إدارة المراعي ونتيجة لخطوط الحدود الغامضة، وأصبحت الخلافات حول ترسيم الحدود القضية الرئيسية بين الدولتين.

ولا يزال وادي فرغانة، الذي يقع في أراضي قيرغيزستان وأوزبكستان وطاجيكستان، يمثل منطقة نزاعات حدودية، حيث تعتبر الأراضي الخصبة في هذه المنطقة ذات أهمية كبيرة لبلدان آسيا الوسطى، وهي دول زراعية. لذلك، لا أحد على استعداد لتقديم تنازلات.

ويضم هذا الوادي أجزاء من شمال طاجيكستان وجنوب قرغيزستان وشرق أوزبكستان، ويحفل بما يمكن تسميته “مخلفات عرقية” حيث يحيط مواطنو إحدى جمهوريات آسيا الوسطى بأراضي دولة أخرى مجاورة.

h 57932232
الرئيس الطاجيكي رحمانوف (يمين) ونظيره القرغيزي جباروف على هامش قمة منظمة شنغهاي (الأوروبية)

 المشمش والمجرفة

حلت أوزبكستان مشاكلها الحدودية مع كل من قرغيزستان وطاجيكستان من خلال المفاوضات، لكن الصراع الحدودي لا يزال قائما خصوصا وأكثر من ثلث الحدود بين البلدين والبالغة 972 كيلومترا لم يتم ترسيمها بعد، وهو ما يدفع لاشتباكات دامية متكررة يمكن أن تؤدي لصراعات دموية متكررة خصوصا العام الماضي الذي أوشك أن يشهد نشوب حرب شاملة بين الجمهوريات السوفياتية السابقة.

اقرأ ايضاً
عيد الاستقلال أحمر بمقتل 150

وقد وقعت اشتباكات حول الوصول إلى الموارد واستخدامها بين المجتمعات الحدودية القرغيزية والطاجيكية الأعوام 2004 و2005 و2008 و2011 و2014 و2015. وخلال هذه السنوات، أبلغت وسائل الإعلام المحلية عن أكثر من 70 حادثة بالمناطق الحدودية.

ومنحت بعض الأحداث لقب “حرب المشمش” عام 2004 عندما قام المزارعون الطاجيك بزراعة العديد من أشجار المشمش في المنطقة المتنازع عليها، حيث تنازع سكان قرغيزستان وأزالوا كل تلك الأشجار. وحادثة أخرى تسمى “حرب كتمن” أي المجرفة عام 2014 عندما كانت المجتمعات على الحدود تقاتل باستخدام أدوات الحدائق والحجارة وملاجئ الحيوانات المحترقة.

عام 2020 تم تسجيل 7 نزاعات مسلحة. وفي أبريل/نيسان 2021 وقع أكبرها متسببا في خسائر بالأرواح والممتلكات، حيث قتل 36 شخصا بينهم طفلان كما أصيب 154 مواطنا قرغيزيا. وأعلنت سلطات طاجيكستان سقوط 19 قتيلا و87 جريحا. وفي ديسمبر/كانون الأول 2021 ويناير كانون/الثاني 2022، وقعت اشتباكات أسفرت عن اصابات من الجانبين. كما اندلع نزاع مسلح يوم 12 أبريل/نيسان 2022.

ورغم ذلك، لا تريد الدول الأطراف أن تؤدي النزاعات إلى حرب شاملة. لهذا السبب، وبعد كل صراع، يجتمع ممثلو كلا الجانبين للتوصل إلى وقف لإطلاق النار. ومع ذلك، فإن محاولات وقف النار لم تسفر عما يؤدي إلى اتفاق من شأنه أن يؤول إلى سلام دائم على المدى المتوسط ​​والطويل.

مسافات

تشترك قرغيزستان وطاجيكستان في 971 كيلومترا من الأراضي الحدودية، منها حوالي 471 كيلومترا لا تزال محل نزاع لأكثر من 20 عاما، وظلت قضية ترسيم الحدود بينهما مستمرة. وعقدت العديد من الاجتماعات الثنائية الرسمية، وعام 2000 عقد اجتماع للجنة الدولة القرغيزية حول قضايا الحدود، ولجنة الدولة الطاجيكية لترسيم وتعيين حدود الدولة.

ولم يتمكن أعضاء اللجنتين من الاتفاق على الجوانب المعيارية والقانونية للمسألة، ويرجح المتابعون أن تكون المشكلة الرئيسية أن البلدين يستخدمان خريطتين جيوسياسيتين مختلفتين، حيث تعمل طاجيكستان بخرائط أعدت في الفترة ما بين عامي 1924 و1939 بينما تعتمد قرغيزستان خريطة عامي 1958 و1959.

ويتفق الرئيسان الطاجيكي والقرغيزي على أن مسألة ترسيم الحدود بين بلديهما صعبة ومعقدة، ففي 12 أبريل/نيسان الماضي زار رحمانوف مدينة إسفارا المتاخمة لقرغيزستان، والتقى السكان المحليين، وتطرق إلى الخلافات الحدودية مع قرغيزستان، مؤكدا “ضرورة العيش بسلام مع الجيران” ودعا سكان المنطقة إلى “عدم الانجراف وراء المشاعر”.

كما أكد رحمانوف أهمية ترسيم الحدود مشددا على “أهمية الدبلوماسية” وأشار إلى انعقاد أكثر من 170 اجتماعا بين وفود اللجان الحكومية الدولية ومجموعات العمل، وقال إنه تقررت 663 من 987 كيلومترا من الحدود بين البلدين (أي 68% من الحد الأقصى) لكنه ذكر أن العملية “قضية معقدة وتستغرق وقتًا”.

على الجانب الآخر، تعهد جباروف بالعمل على حل مشكلة الحدود مع طاجيكستان قبل نهاية فترة ولايته، وقال إن المشكلة تحل تدريجيا، معترفا بأن “الوتيرة بطيئة. وقضية الحدود التي لم تحل منذ 30 عاما لن يتم حلها خلال شهر”.

ورغم تلك التصريحات التصالحية التي تصدر عن الرئيسين، فإن هناك من يرى أن كلا من رحمانوف وجباروف يعتمدان خطابا شعبويا بشأن النزاع الحدودي المفتوح لحشد التأييد الداخلي، خاصة أن طريق وصول الأخير للسلطة كان شاقا ومضطربا.

روسيا واللاعبون الجدد

تتعدد التفسيرات لطبيعة الموقف الروسي من النزاع الحدودي بين طاجيكستان وقرغيزستان الذي يراه البعض موقفا غامضا، مترددا، معتبرا الدور الذي قامت به “منظمة معاهدة الأمن الجماعي” وغيرها من المؤسسات الإقليمية المتعددة الجنسيات التي تقودها موسكو “ضئيلًا في إدارة هذه الأزمات”.

وبينما يرى آخرون أن موسكو تتلاعب وتستغل التوترات بين جيرانها لكسب مزيد من النفوذ، حيث يتنافس المتصارعون لكسب تأييد موسكو، فإن هناك من يرى أن الحسابات الروسية باتت أمرا مشكوكا فيه خصوصا مع بوادر ظهور طامحين لمنافستها على تلك الساحة في ظل انشغالها بحربها في أوكرانيا.

وأحد الأسباب التي قد تجعل موسكو تستغل الأزمة لتعزيز نفوذها في آسيا الوسطى هو مواجهة الأطراف الثالثة، خصوصا وأن العديد من المنافسين، لتطلعات موسكو إلى الهيمنة الإقليمية، قد تكون سياساتهم قد ساهمت عن غير قصد في القتال الأخير.

وتأتي الولايات المتحدة في مقدمة هؤلاء المنافسين، فرغم انسحابها من أفغانستان العام الماضي ترجح تقارير إعلامية رغبة واشنطن في الوصول إلى القواعد العسكرية بدول آسيا الوسطى. وقد التقى وزير الخارجية أنتوني بلينكن العام الماضي نظراءه من الدول بآسيا الوسطى من خلال إطار عمل “سي 5+1” “C5 + 1” وهي قمة دبلوماسية تعقد سنويا منذ عام 2015 بين وزير الخارجية الأميركي ووزراء خارجية دول آسيا الوسطى الخمس (كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان) للمناقشة والعمل على القضايا ذات الاهتمام المشترك لتحسين وتقوية العلاقات.

أما الصين فليست بعيدة عن المنافسة، ورغم الشراكة الإستراتيجية مع موسكو فإن حماس الأخيرة للوجود الصيني المتزايد في كل من جيرانها بآسيا الوسطى له حدوده، ويرى المراقبون أن المركز الاقتصادي المهيمن لروسيا في كل من طاجيكستان وقرغيزستان معرض للتهديد من مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، ومبادرات التكامل الإقليمي الأخرى، لكن تصاعد الصراع  بين البلدين سيثبط استثمارات الصين فيهما.

كما تأتي تركيا أيضا من بين المنافسين الآخرين لنفوذ روسيا الإقليمي بالمنطقة، وعززت أنقرة شراكتها مع أذربيجان لإظهار نفوذ أكبر في البلدان التركية بآسيا الوسطى، في حين تفاوض إيران على اتفاقية دفاع جديدة مع طاجيكستان، وهو ما يعني أن خرائط ترسيم الحدود بين قرغيزستان وطاجيكستان ليست الوحيدة المرتقبة، بل أيضا “خرائط نفوذ” اللاعبين القدامى والجدد في المنطقة.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى