بعوائد بلغت 5.7 مليارات دولار عام 2021.. “دولة الكبتاغون” بمناطق النظام السوري
خاص- كان عمر (22 عاما) طالبا في سنته الدراسية الأولى بكلية الاقتصاد في جامعة دمشق، عندما جرّب لأول مرة مع مجموعة من زملائه تدخين سيجارة محشوة بمادة الحشيش المخدر، قبل أن تتحول التجربة إلى عادة يومية لم يدرك الشاب آثارها إلا متأخرا وبعد أن صار مدمنا، وقد كان يسميها وأصدقاؤه على سبيل المزاح “مضادات الاكتئاب الطبيعية”.
ويقول عمر للجزيرة نت “عدد لا يستهان به من أصدقائي وزملائي يتعاطون هذه المادة يوميا. لقد أصبحت شيئا أساسيا في جلساتنا، بل سبب اجتماعنا في كثير من الأحيان”.
ويضيف “كانت (سيجارة الحشيش المخدر) في البداية تجعل الكلام أجمل والنغم أكثر طربا، والأهم أنها تساعدني على تقبل أو ربما تجاهل كل ما يحدث حولي بسبب الحرب، خاصة بعد هجرة عدد كبير من أصدقائي في فترة قياسية، وضغوطات العمل والدراسة هنا”.
وفي حين يعاني عمر اليوم للتخفيف من الكميات التي يتعاطاها يوميا تمهيدا للإقلاع عنه، غير أنه يقول “لا يوجد أي شيء يساعدني على ذلك، إذ يشعرني كل ما حولي بالإحباط، وقد لا أتمكن من الإقلاع عن التعاطي إلا إذا خرجت من هنا”.
وكشف تقرير لصحيفة الوطن شبه الرسمية مطلع سبتمبر/أيلول الجاري عن انتشار كبير للمواد المخدرة في مناطق سيطرة النظام السوري، لا سيما مادتي “الحشيش المخدر” وحبوب “الترامادول” الدوائية.
وأكد التقرير أن تلك المواد أصبح تداولها رائجا في أوساط اليافعين والفئات العمرية الصغيرة، وبأسعار زهيدة تقارب سعر البسكويت، إذ إن سعر حبة الترامادول الواحدة لا يتجاوز 3500 ليرة (0.7 دولار).
روايات متضاربة
ومن جهتها نفت نقيبة الصيادلة السوريين، وفاء كيشي، توفر الأدوية المخدرة في الصيدليات “إلا بنسب قليلة” وأوضحت أن هناك فرقا بين العلاجات النفسية والأدوية المخدرة التي تنتشر اليوم بين اليافعين، وأن “الترامادول” يُصنف من الأدوية النفسية المهدئة.
ووفقا لكيشي فإن معظم الصيادلة في مناطق النظام ملتزمون بصرف الوصفات النفسية وفق نموذج تفرضه النقابة، والذي يميز بين الوصفات الدوائية المختلفة والأدوية النفسية.
وترجع نقيبة الصيادلة سبب انتشار الأدوية النفسية إلى خلل في بعض الصيدليات التي لا تلتزم بالصرف وفق النموذج، وإلى بعض الأطباء الذين لا يتقيدون بكتابة وصفاتهم حسب الشروط أيضا.
بينما يؤكد مدير مشفى ابن رشد لعلاج الأمراض النفسية، غاندي فرح، في تصريح لصحيفة الوطن، أن ظاهرة الإدمان في ازدياد، وأنها باتت تشمل الفئات العمرية الصغيرة، مشيرا إلى أن نسبة المدمنين زادت خلال عامي 2021 و2022 وفي أوساط الذكور خاصة.
وبحسب فرح، فإن تفاقم هذه الظاهرة يعود إلى انتشار بعض الأفكار المضللة بين المراهقين تفيد بأن هذه المواد تمنح السعادة وتغيّر المزاج إلى الأفضل، وإلى انتشار حالة عامة من القلق والتوتر بين الناس نتيجة لما يعايشونه من ضغوطات يومية.
وحذّر من مغبة الإدمان على المواد المخدرة عند الفئات العمرية الصغيرة، نظرا لآثارها السلبية التي تستمر لفترة زمنية طويلة، كون الأجهزة العصبية لمن هم في هذه الأعمار ما تزال في مرحلة نمو، وهو ما قد يؤدي لاضطرابات نفسية مع تقدمهم في العمر، كازدياد خطر إصابتهم بمرض الفصام.
انتشار كبير وبأسعار زهيدة
وتشهد مناطق سيطرة النظام انتشارا غير مسبوق لظاهرة تعاطي المخدرات وإدمانها في أوساط الشباب واليافعين، وتعتبر مادة الحشيش المخدر الأكثر رواجا، وتليها مادة “الكبتاغون” بأنواعها المختلفة إلى جانب أصناف من الأدوية النفسية التي يمكن الحصول عليها من الصيدليات “كالترامادول” ومشتقاته و”البارا زولام” و”بيوغابالين” وبدرجة أقل رواجا مواد كالكوكايين والهرويين والماريغوانا.
ويقول مصدر مطلع رفض الكشف عن هويّته للجزيرة نت “تسللت المواد المخدرة منذ عام 2012 إلى مختلف المؤسسات الحكومية لا سيما العسكرية والأمنية والتعليمية، وأصبحت مع تقدم الحرب مصدر دخل إضافي للمليشيات في كافة مناطق سيطرة النظام وخارجها بعد تدهور قيمة معاشاتهم ورواتبهم الشهرية”.
وتبدو تجارة المخدرات اليوم، بعد مرور 11 عاما على بداية الصراع في البلاد، مستقرة ومنظمة إلى حد كبير، ويخضع تجارها كبارا وصغارا إلى شروط المبيع المحددة من قبل سادة السوق، بحسب المصدر.
وعن أسعار هذه المواد وطرق بيعها، يقول الشاب عمر إن سعر غرام الحشيش المخدّر في دمشق يتراوح بين 1000 و1500 ليرة (أقل من نصف دولار تقريبا) بحسب الصنف والجودة، ويباع تجزئةً بالـ “وزنة” وأقلها 12.5 غراما وأكثرها 50 غراما.
ويباع الحشيش المخدر جملةً بـ “الكفوف” ويزن الكفّ الواحد 200 غرام، ويتراوح ثمنه بين 200 و300 ألف ليرة (42-63 دولارا).
أما أسعار حبوب الكبتاغون (الكابتيكول) فتتراوح بين ألفين و3 آلاف ليرة (أكثر من نصف دولار بقليل) للحبة الواحدة، وتباع المادة بالتجزئة ضمن أكياس وتبدأ التجارة بـ 10 حبّات على الأقل وتصل إلى 100 حبة.
وتباع المادة بالجملة ضمن “أمشاط” ويحتوي المشط على ألف حبة، وللكبتاغون في سوريا 4 أنواع تجارية معروفة وهي: الصفراء والبيضاء والكريستالية والسمراء.
أما الترامادول ومشتقاته -ويمكن الحصول عليه من بعض الصيدليات- فيتراوح سعر مظروفه بين 15 و25 ألف ليرة (3-5 دولارات) حسب نوعه وعياره الذي يبدأ بـ 50 ملليغراما (1 ملليغرام يعادل 1/1000 غرام) ويصل إلى 200 ملليغرام للحبة، وهو أكثر الأنواع رواجا بين الحبوب الدوائية، ويليه “بيوغابالين” ويتراوح سعر مظروفه من 6 إلى 9 آلاف ليرة (1-2 دولار) بحسب نوعه وعياره.
وتبدو هذه الأسعار معقولة لليافعين والشباب إذا ما علمنا أن ثمن علبة الكولا المعدنية 3500 ليرة، وسعر كيس البطاطا المقرمشة الحجم الكبير 2000 ليرة، في حين أن ثمن كيلو بن القهوة 30 ألف ليرة (6.3 دولارات).
مضبوطات بالملايين
وبالرغم من عدم وجود معلومات دقيقة حول حجم انتشار الظاهرة، فإنه يمكن تقدير ذلك من خلال المضبوطات التي تقوم بها شرطة مكافحة المخدرات في مناطق سيطرة النظام بشكل دوري، وتقوم وزارة الداخلية بنشرها على حسابها الرسمي بفيسبوك.
وبلغت كمية المضبوطات التي أعلنت عنها الداخلية خلال أغسطس/آب الماضي وسبتمبر/أيلول الجاري، نحو طنين من مادة الحشيش المخدر، وأكثر من 3 ملايين حبة كبتاغون، و24 كيلوغراما من بودرة الكبتاغون، و349 غراما من الهيرويين، إلى جانب 14 غراما من الكوكايين، و10 غرامات من مادة الكريستال المخدر، وكيلوغرام واحد من الماريغوانا.
وتجاوزت الكمية في إحدى عمليات الضبط يوم 11 سبتمبر/أيلول الجاري طنا و900 كيلوغرام من الحشيش، وأكثر من 3 ملايين حبة كبتاغون، تم الكشف عنها بعد تدهور سيارة نقل على طريق حمص طرطوس.
وذكر بيان رسمي قدمه ممثل حكومة النظام أمام لجنة الأمم المتحدة للمخدرات، في مارس/آذار من العام الجاري، أن الجهات المعنية قامت بمصادرة 50 مليون حبة كبتاغون، وآلاف الكيلوغرامات من الحشيش المخدر بين عامي 2020 و2021.
دولة الكبتاغون
وقال تحقيق مطوّل لصحيفة دير شبيغل الألمانية، حمل عنوان “سوريا: تهريب المخدرات بإشراف من نظام بشار الأسد”، في يونيو/حزيران الماضي، إن رموز النظام متورطون في تجارة المخدرات التي تتجاوز الحدود السورية وتصب في الخليج وأوروبا بعوائد وصلت إلى 5.7 مليارات دولار عام 2021 وحده.
وهو ما ذهب إليه تحقيق صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، مشيرا إلى أن تجارة مخدرات غير قانونية تقدر قيمتها بمليارات الدولارات يديرها شركاء أقوياء وأقارب للرئيس الأسد، بُنيت على أنقاض 10 سنوات من الحرب في سوريا متجاوزة حجم الصادرات القانونية السورية، ومحولة البلد إلى أحدث دولة تعتمد على التجارة غير الشرعية للمخدرات في العالم.
وأكد التحقيق أن هذه الصناعة القائمة على عقار الكبتاغون، المسبب للإدمان والشائع الاستخدام في عدة دول عربية، تمتد عملياتها في عموم سوريا، من خلال ورشات للتصنيع ومصانع للتعبئة يتم فيها إخفاء المخدرات وتجهيزها للتصدير عبر شبكات تهريب تتكفل بنقلها إلى الأسواق الخارجية.
ويتقاطع ها مع ما جاء في مقال نشرته صحيفة لوموند الفرنسية، مطلع العام الجاري، عن أن الكثير من عمليات الإنتاج والتوزيع تشرف عليها الفرقة الرابعة بالجيش السوري بقيادة ماهر الأسد الأخ الأصغر للرئيس وأحد أقوى الرجال بالبلد.
وتؤكد نيويورك تايمز أن تجارة المخدرات غير المشروعة أصبحت الآن مورد الصادرات الأكثر قيمة في سوريا، وتتجاوز بكثير قيمة المنتجات السورية القانونية، وفقا لقاعدة بيانات جمعتها الصحيفة.
وبيّنت دراسة -نشرها معهد نيو لاينز للدراسات الإستراتيجية والسياسية في واشنطن بتاريخ 5 أبريل/نيسان الماضي، أن تصنيع وتجارة حبوب الكبتاغون باتت “متجذرة” بعمق في اقتصاد سوريا بعد الحرب، وأن الوجهات الرئيسية لهذه التجارة هي الخليج وشمال أفريقيا وجنوب أوروبا.