لم يكن التوجه الكبير في الإستراتيجيات والأولويات السعودية، نحو التحول في منظومة التنمية، ترفا أو توجها غير إلزامي، بل هو ضرورة حتمية تفتّقت فيه مرتكزات النهضة التنموية عن مكامن اكتنزتها السعودية، وحان الوقت للانطلاق بها نحو عنان السماء.
تستند كل أمة ودولة، إلى مرتكزات أساسية، لتحقيق مستهدفاتها وفق خطط وإستراتيجيات واضحة، وهو ما خطط له ورسمه وأتقن تنفيذه صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، حين أطلق «برنامج التحول الوطني» و«رؤية السعودية 2030» ليكونا خارطة طريق، ومنهج حياة نحو «مجتمع حيوي» و«اقتصاد مزدهر» و«وطن طموح».
وتعزيزاً للسباق الذي تخوضه مشاريع السعودية نحو جودة الحياة، ستحتضن مدينة المستقبل «نيوم» أكبر مصنع لإنتاج الهيدروجين الأخضر في العالم، بمنشأة سيتم تشغيلها بالطاقة المتجددة بنسبة 100% وستباشر العمل في عام 2026. وسيعمل المصنع على إنتاج 1.2 مليون طن من الهيدروجين سنويا، وإنتاج 650 طنا من الهيدروجين الخالي من الكربون يوميا، ما سيقلل 3 ملايين طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم، إضافة إلى تقليل انبعاثات الضباب الدخاني بما يعادل ما تنتجه 70 ألف مركبة، وتبلغ قيمة اتفاقية هذا المشروع 5 مليارات دولار، إذ تم توقيعها من قبل «نيوم» و«إير بروداكتس» و«أكوا باور».
«الرؤية» الثاقبة لولي العهد ارتبطت بالمستقبل، ولن يقتصر هذا المستقبل على عام 2030، بل إن هذا العام هو المرحلة التي رُسمت فيه الخطوط العريضة لتحقيق المستهدفات، والانطلاق بقوة نحو آفاق أرحب من النهضة والتنمية لعقود قادمة، وهو ما أكده الأمير محمد بن سلمان في اللقاء التلفزيوني حين سأله الإعلامي عبدالله المديفر: ماذا بعد 2030؟ ليأتي الرد الواثق من ولي العهد بقوله: «2040.. رؤية 2030 تضعنا في موقع متقدم جدا في العالم، لكن 2040 ستكون مرحلة المنافسة عالميا»، ولا عجب في ذلك، حيث إن رؤية 2030 تسعى لاستثمار مكامن القوة السعودية من موقع إستراتيجي متميز، وقوة استثمارية رائدة، وعمق عربي وإسلامي، لتحقيق الطموحات، وفق ما أكدته الرؤية.
ولأن كل تنمية ونهضة شاملة لا تتحقق إلا بالاستمرار والديمومة، فقد نصت الرؤية السعودية الثاقبة على بناء المستقبل المستدام، إذ وُضعت «الاستدامة» ضمن أهم جهود الرؤية، لإرساء أساس قوي للازدهار في كافة مرتكزات الاستدامة وجوانبها مثل: الاستدامة البيئية، الاستدامة المجتمعية، الاستدامة الاقتصادية، وغيرها، لذلك أسست رؤية 2030 عدة مبادرات تكرّس ضرورة تحقيق الكفاءة والجودة من خلال نهج متطور يحقق أعلى مستويات الفعالية، ويطور فرصا مبتكرة لمستقبل وطن طموح، وهو ما أكده وزير المالية محمد الجدعان في إحدى جلسات منتدى مبادرة «السعودية الخضراء» في أكتوبر 2021 بأن «رؤية السعودية 2030 بنيت على الاستدامة».
وتوافقا مع التوجه العالمي والاهتمام الكبير بالقضايا التي تخص المناخ والبيئة والحفاظ عليها، والاستدامة في كافة مناشط الحياة، شهد العام الحالي 2022 إصدار السعودية لسندات خضراء، وهو ما سيلقى صدى واسعا في ظل إستراتيجيات المملكة التي تستهدف الاستدامة والطاقة المتجددة وكفاءة استهلاك الطاقة، إذ بدأ صندوق الاستثمارات العامة تلقي أوامر بيع سندات خضراء لأول مرة، على ثلاث شرائح لأجل 5 و10 و100 عام، وتقوم فكرة السندات الخضراء على حماية البيئة من خلال الاستثمار مع شركات أو صناديق أو كيانات تجارية تهتم بالطاقة المستدامة وتجنب الاستثمار في الملوثات أو منتجات الكربون.
وتأكيدا على سعي المملكة في الاستدامة والحفاظ على البيئة، تعدّ شركة «أكوا باور» مطوّرًا ومستثمرًا ومشغلًا لمحطات تحلية المياه وتوليد الكهرباء والهيدروجين الأخضر، حيث تأسست في الرياض عام 2004، وامتدت نجاحاتها وتوسعاتها لتكون الشركة السعودية الرائدة في مجالها في السعودية و13 دولة أخرى في الشرق الأوسط وأفريقيا ووسط آسيا وجنوب شرق آسيا، وتأخذ على عاتقها إنتاج الكهرباء والمياه المحلاة والهيدروجين الأخضر، بشكل موثوق وبتكلفة منخفضة، مع الإسهام بفعالية في التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة للمجتمعات والدول.
كما تستهدف السعودية الوصول إلى الحياد الصفري عام 2060 من خلال نهج الاقتصاد الدائري للكربون، وذلك وفقا لما أعلنه الأمير محمد بن سلمان، في حين أعلنت وزارة الطاقة في أبريل 2021 انضمام المملكة إلى الولايات المتحدة وكندا والنرويج وقطر لتأسيس منتدى جديد هو «منتدى الحياد الصفري للمنتجين»، وهو منصة تناقش من خلالها الدول المنتجة للبترول والغاز كيفية دعم تطبيق اتفاقية باريس للتغير المناخي، والتي يمثل الوصول بالانبعاثات إلى مستوى الحياد الصفري أحد أهدافها.
وتستمر المملكة في نهج المحافظة على البيئة؛ كون ذلك من مرتكزات رؤية 2030، إذ صرح وزير الطاقة صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن سلمان بمناسبة مشاركة المملكة في قمة مجموعة دول العشرين في إيطاليا (2021) بأن مبادرة الشرق الأوسط الأخضر تضمنت إنشاء منصة تعاون لتطبيق مفهوم الاقتصاد الدائري للكربون، وتأسيس صندوق للاستثمار في حلول تقنيات الاقتصاد الدائري للكربون في المنطقة، كما أكد أن مبادرة «السعودية الخضراء» تستهدف مضاعفة الإسهامات الطوعية لتخفيض الانبعاثات الكربونية من 130 مليون طن إلى 278 مليون طن بحلول 2030م، ومبادرة مزيج الطاقة الأمثل لإنتاج الكهرباء التي تستهدف إزاحة الوقود السائل وإحلال الغاز والطاقة المتجددة بديلا عنه، وإنتاج 4 ملايين طن من الهيدروجين الأزرق والأخضر، وإنشاء مجمع لالتقاط واستخدام الكربون وتخزينه.
وتعزيزا لمبدأ الاستدامة في الغازات الدفيئة، وتحويل التحديات البيئية إلى فرص لإنتاج مواد مفيدة، لجأت الشركة السعودية للصناعات الأساسية «سابك» إلى إنشاء مصنع ضخم لجمع ثاني أكسيد الكربون (CO2) وتنقيته وإعادة استخدام ما يصل إلى نصف مليون طن من انبعاثات المخلفات التي كانت ستُطلق في الغلاف الجوي. إذ يتم استخدام مقدار كبير من ثاني أكسيد الكربون (CO2) في إنتاج اليوريا، وهو عنصر غذائي زراعي شائع قائم على النيتروجين يعمل على زيادة المحاصيل.
وفي سياق الاستدامة، يساعد إطار عمل الاستدامة في شركة “أرامكو السعودية”، على التخطيط للمستقبل، إذ تقدم الشركة جاهزيتها وإسهاماتها في إطار عمل الاستدامة بما يتماشى مع طموح المملكة التي تجسدها مبادرة السعودية الخضراء ورؤية المملكة 2030، وذلك حيال التغير المناخي والتحول في قطاع الطاقة، وسلامة الأعمال وتطوير الأفراد، وتعظيم القيمة المجتمعية، والحد من الآثار البيئية.
«الرؤية السعودية الثاقبة» لم تعترف بحدود الوقت والزمن، فهي تسير بمنجزاتها بوتيرة متسارعة لا تعرف التوقف، ولن تتوانى عن الاستمرار في التسارع حتى تتحقق أهدافها عيانا وواقعا، وهذه الإنجازات، لن تكون السعودية وحدها في ركب المستقبل، بل ستقود معها جاراتها من الدول العربية خصوصا والشرق الأوسطية عموما، وهو ما أعلنه الأمير محمد بن سلمان صراحة بقوله إن «الشرق الأوسط هو أوروبا الجديدة، وأعتقد أن هذا الهدف سيتحقق 100%».
إن الإنجازات لم تأتِ لتتحقق فحسب، بل لن يكتب لها النجاح إلا إذا استمرت واستدامت، وهذا يتطلب تغيرا نوعيا في نمط الحياة المجتمعية، أساسه وهدفه الأساسي «جودة الحياة» التي تفي بمتطلبات الحياة المستقبلية وحماية الأجيال المقبلة، ومن أبرز مشاريعها ضمن الرؤية «مبادرة السعودية الخضراء» التي تعمل على زيادة اعتماد السعودية على الطاقة النظيفة وتقليل الانبعاثات الكربونية وحماية البيئة.
وفيما أكد ولي العهد أن مبادرة السعودية الخضراء ستوفر فرصاً استثمارية ضخمة للقطاع الخاص، وفرص عمل نوعية للجيل المقبل من القادة في المملكة، إضافة إلى تعزيز العلاقات الدولية التي ستترك تأثيراً إيجابياً في المنطقة والعالم، بصفتها من أهم الدول المنتجة للطاقة في العالم، فإن السعودية تلتزم بالمساهمة الفعالة في الكفاح العالمي ضد تغير المناخ، كما تعمل على تصميم حلول مبتكرة للمساعدة في التصدي لأزمة المناخ، ومبادرات خلاقة في مجال الاستثمار ومنها إطلاق صندوق الاستثمارات العامة لأول إصدار سندات خضراء في العالم بقيمة 3 مليار دولار، كل تلك المبادرات ستدعم طموح السعودية في أن تصبح رائدة في الاستدامة على المستوى العالمي، كل ذلك يسير جنباً إلى جنب مع المبادارات السعودية الخلاقة التي تعرف قيمة الكوكب ولا تعرف المستحيل.
- مشعل بن عميرة
الرئيس التنفيذي لشركة عبدالله العثيم للاستثمار
