تقلبات سعر صرف الدولار في لبنان.. ما العوائق أمام تصحيح قيمة الليرة؟
بيروت – تتنقل خلود حائرة بين صراف وآخر بساحة “التل” في طرابلس شمالي لبنان، وفي يدها 200 دولار أرسلها شقيقها الذي يعمل بإحدى الدول الخليجية، وهي تسعى لتسديد فواتير منزل عائلتها المتراكمة التي لا يغطيها راتبها الضئيل بالليرة من متجر للخياطة.
وتقول قلقة للجزيرة نت “أحاول بيعها سريعا وبالسعر الأفضل، بعدما هبط سعر صرف الدولار فجأة أكثر من 5 آلاف ليرة، بينما أسعار السلع بارتفاع مستمر”.
وحال هذه السيدة كآلاف اللبنانيين الذين يواجهون تقلبات قيمة عملتهم، ويقضون ساعات بمتابعة منصات غير شرعية تحدد لهم قيمة سعر صرف الليرة بالسوق السوداء.
ويقول أبو محمود بائع خضار، إنه يئس من مراقبة سعر الصرف، “ليس لأنني لا أحمل الدولارات فحسب، بل لأن أوراق العملة اللبنانية -مهما تقلبت قيمتها- أصبحت تشبه أوراق لعبة المونوبولي، بلا قيمة”. ويتساءل ساخرا “ما الفرق إن كانت الـ100 دولار تساوي 4 ملايين ليرة أو أقل ما دام اقتصادنا مدولر ونحن مسحوقون فقرا؟”.
تقلبات على وقع البيانات
ومنذ مطلع هذا الأسبوع، تشهد سوق النقد اضطرابات كبيرة بقيمة الليرة، سبق أن اختبرتها طوال 3 سنوات من الأزمة عند أحداث سياسية مفصلية وإثر تعاميم وبيانات صادرة عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
وهذه المرة، ورغم حساسية المنعطف السياسي الذي يمر به لبنان، أدى بيان سلامة الأحد الماضي إلى تحسن ظاهري ووهمي ومؤقت لقيمة الليرة، وفق وصف خبراء اقتصاديين، وأعلن فيه أن المركزي سيبيع الدولار من خلال منصة “صيرفة” حصرا، ولن يكون شاريا له عبر المنصة حتى إشعار آخر.
وأمام تعددية أسعار الصرف، يندرج إجراء المركزي بسياق كبح التدهور المستمر لليرة بالسوق السوداء التي تتحكم بالقيمة الفعلية للعملة وتجاوزت قبل بيانه عتبة الـ40 ألفا للدولار.
ويعتبر اقتصاديون أن إجراءات المركزي لا تنطوي على أي مفاعيل جدية ومستدامة، ويذهب البعض لوصفها بالمضاربات، واللعب بالعامل النفسي للسوق والناس الذين يواجهون أسوأ حالة تضخم، وصنف البنك الدولي بأحدث تقاريره لبنان بالمرتبة الثانية على مستوى تضخم أسعار السلع بعد زيمبابوي.
خلفيات التقلبات الأخيرة لسعر صرف الليرة
في مطلع العام الحالي، تمكن المركزي من خفض سعر صرف الدولار نحو 10 آلاف ليرة بأقل من أسبوعين، فهبط من 33 إلى 23 ألفا للدولار، وذلك بعد بيان سمح للمصارف التجارية بشراء الدولارات منه من دون سقف بالسعر الذي تحدده منصة “صيرفة”. ولم تدم مفاعيل إجرائه طويلا ليسجل الدولار مجددا قفزات كبيرة.
وللتذكير، فإن منصة “صيرفة” أنشأها المركزي استثنائيا في مايو/أيار 2021، وبدأت بسعر صرف الدولار مقابل 12 ألفا، وهي اليوم تناهز 30 ألفا، مما يعني أن المركزي غير قادر على ضبط سعر الصرف بصورة مطلقة.
وهنا، يلفت الباحث الاقتصادي منير يونس إلى أنه قبل “صيرفة”، كان المركزي يبيع للتجار المستوردين دولارات مدعومة وفق سعر الصرف الرسمي 1507 ليرات لكل دولار، وحين قرر وقف الدعم قال إنه سيؤمن للتجار دولارات على سعر 12 ألفا، فاستحدث المنصة، “ثم تحول دورها من خدمة الاستيراد إلى خدمة دعم الليرة. وكلاهما دعم مشوه”.
ويشتري المركزي الدولارات التي يبيعها على المنصة من بعض شركات تحويل الأموال، وفق سعر صرف السوق الموازية (أي نحو 36 ألفا)، ويعرضها بـ30 ألفا. ويضيف يونس أن “عمليات المنصة غير شفافة والتداول فيها محصور فقط بالتجار المستوردين والموظفين العامين وأصحاب الحسابات الذين تشملهم تعاميم المركزي المتعلقة بسقف السحوبات”.
غير أن رئيس قسم البحث والتحليل الاقتصادي في بنك “بيبلوس” اللبناني نسيب غبريل يعتبر أن إجراء المركزي الذي خفض سعر صرف الدولار كسابقاته، هدفه ضبط السوق النقدية، خصوصا أنه مشتر رئيسي للدولار، فـ”أثبت أنه المؤسسة العامة المدنية الوحيدة التي تستطيع اتخاذ قرارات من ضمن صلاحياته والإمكانات المحدودة”.
ويقول للجزيرة نت “إن المركزي بمنتصف أكتوبر/تشرين الأول، بلغ الاحتياطي لديه 10 مليارات دولار، بتراجع مليارين و700 مليون دولار من بداية السنة، نظرا للإجراءات التي يتخذها لضبط الانهيار”.
علما أن الاحتياطي قبل الأزمة التي اندلعت خريف 2019 كان يبلغ 32 مليار دولار، ومنذ ذلك الحين يعيش لبنان سياقا من انهيار لم يهدأ على كافة الصعد.
ضبابية السوق
فلماذا لم يتدخل المركزي بالسوق النقدية منذ بدء انهيار الليرة، وحين كانت كلفتها أقل والكتلة النقدية لليرات لم تبلغ هذا الحجم المتضخم؟
يجيب غبريل أن المركزي لديه مصادر متعددة لتوفير الدولارات، كشركات تحويل الأموال والمؤسسات الدولية غير الحكومية وشركة طيران الشرق الأوسط، و”هو لا يدعي صناعة حل مستدام بل مؤقت وموضعي بظل غياب الدولة والسلطة السياسية عن تحمل مسؤولياتها”.
أما منير يونس، فيقلل من قيمة هذا التدخل على قاعدة أن مفاعيله قصيرة المدى ويتلقى لاحقا وفق التجارب السابقة، صدمات مضادة سلبية لغياب خطة متكاملة الأركان سياسيا ونقديا واقتصاديا واجتماعيا.
ويذكر أن 3 أطراف رئيسية تشتري الدولارات وتتحكم بالسوق النقدية، هي مصرف لبنان والمصارف التجارية والتجار.
وهنا ينبه يونس أن تحسن قيمة الليرة أمام الدولار مؤقت ولا يعني أن أسعار السلع ستنخفض في بلد يستورد أكثر من 90% من حاجاته، “لأن التجار اللبنانيين الذين يرفعون أسعارهم بالليرة كلما انهارت يشترون الدولارات لحماية أرباحهم تحسبا لتآكلها بالتضخم قبل أن تكون أولويتهم توفير رأس مالهم”.
فقبل الأزمة، كان لبنان يستورد نحو 21 مليار دولار سنويا، انخفض إلى 12 مليار في 2020، وقد يبلغ مع نهاية 2022 حدود 15 مليار دولار، وقال “لكن ميزان المدفوعات يبقي عاجزا، لأنه لا يحصل على إيرادات توازي نفقاته، ناهيك عن انكماش الاقتصاد”.
المستهلك يدفع الثمن
ويرى يونس أن إجراءات المركزي حولت “فئة من اللبنانيين إلى مضاربين على العملة للاستفادة من الفرق بين منصة صيرفة وسعر صرف السوق السوداء”.
ويتابع من يدفع الثمن الأكبر هو المستهلك، لا سيما أن الأزمة دفعت نحو 85% من السكان إلى الطبقات الفقيرة وفق تقديرات أممية. وقال “حتى تنخفض أسعار السلع، يجب أن يستقر تحسن قيمة الليرة على مدى شهر كامل أقله بلا تقلبات وهذا ما يصعب تحققه”.
من جانبه، يقول زهير برو رئيس جمعية المستهلك (غير حكومية) إن الأسواق التجارية والاستهلاكية اللبنانية تعيش فوضى شاملة غير مسبوقة ولا يوجد أي معيار منطقي واقتصادي للتسعير، وسط غياب كبير لأجهزة الرقابة الرسمية.
وبحسب دراسات الجمعية، فإن أسعار السلع ارتفعت قياسا لما قبل الأزمة 3000%، بينما الأجور لم تتحسن بما يوازي حجم التضخم، مقابل حصول شريحة من الموظفين والعمال على مساعدات نقدية وعينية من دون أي تصحيح جذري للرواتب.
ويرى أن اليد العاملة بلبنان تواجه عملية نهب يومية وبمختلف مرافق الحياة، والسلع الأساسية نفسها يمكن أن يختلف سعرها بفارق كبير بين منطقة وأخرى.
وختم أن “هناك استحالة في ضبط أسعار السلع نتيجة الخضات النقدية، ولأن القوانين اللبنانية لا تضبط أرباح التجار التي تستوجب ثبات سعر العملة”.