من الندرة إلى الوفرة.. هذه أسباب عدم ارتفاع أسعار الغاز في فرنسا
باريس- لأول مرة منذ يونيو/حزيران الماضي، انخفض سعر الغاز إلى أقل من 100 يورو لكل ميغاوات مقارنة مع 339 يورو في أغسطس/آب بحسب مقياس “تي تي إف” (TTF) الهولندي، حتى أن سعر مؤشر الأسهم القياسي للتسليم الفوري دخل المنطقة السلبية هذا الأسبوع (ناقص 15).
المؤشرات أربكت أسواق الطاقة في أوروبا، في وقت لا تزال فيه تصريحات السياسيين ووسائل الإعلام تصم آذان المواطنين بضرورة توفير الطاقة.
فهل يعني ذلك أن ساعة الوفرة قد اقتربت، وأن فواتير المستهلكين الأوروبيين لن تشهد انخفاضا على المدى القريب أو البعيد؟
إعادة تشكيل مشهد الطاقة
من بين 400 مليار متر مكعب يستهلكها سكان دول الاتحاد الأوروبي كل عام، اختفى 150 مليارا منها كان يأتي عبر خط أنابيب الغاز من روسيا.
وكبديل عن ذلك، تحول الأوروبيون إلى الغاز الطبيعي المسال “إل إن جي” (LNG) وهو مصدر أكثر تكلفة، لكنه أكثر تنوعا ويمكن نقله في صهاريج السفن بسهولة، مما يجعل عدم الاعتماد على دولة معينة لتصدير المادة الخام أمرا غير مستحيل.
وهكذا، زادت واردات الغاز الطبيعي المسال بنسبة 60% بالنصف الأول من عام 2022، مما سمح بملء الاحتياطيات من الغاز حدّ التشبع.
يذكر أن فرنسا تعتمد على روسيا في حوالي 17% من إمداداتها من الغاز، وكان معظمه يصل عن طريق خط أنابيب الغاز من خلال نقطة ترابطها الوحيدة مع ألمانيا، قبل أن تغلق موسكو صنبور الغاز عنها في سبتمبر/أيلول الماضي.
وبالإضافة إلى الولايات المتحدة ودول الخليج، تعتبر النرويج المورد الرئيسي للغاز بأوروبا والمستفيد الأول من أزمة الطاقة، فقد صدرت ما قيمته ملياري يورو عام 2020، و6 مليارات عام 2021، و10 مليارات بالنصف الأول من هذا العام، أي بزيادة قدرها 10 أضعاف، وفقا لبيانات “يوروستات”.
أمن التوريد
يمكن القول إن المخزونات باتت تفيض بالغاز نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لكن شتاء أوروبا لم يبدأ دورته بعد.
وتبدأ هذه الدورة غالبا في 15 أكتوبر/تشرين الأول من كل عام عندما تصبح درجات الحرارة أقل من 18 درجة مئوية، لذلك من المتوقع أن ترتفع أسعار الغاز مرة أخرى بمجرد انخفاض درجات الحرارة هذا الشتاء.
في المشهد الفرنسي، بدأت بالفعل عملية تشغيل التدفئة في المنازل والمؤسسات بسبب انخفاض درجات الحرارة لأقل من 9 درجات مئوية خلال اليومين الماضيين.
لكن رغم ذلك فإن استهلاك الغاز في هذا البلد تراجع بنسبة 14% منذ الصيف، بحسب تصريحات وزيرة انتقال الطاقة أنييس بانيه روناشيه.
وعادة ما يوازن التخزين بين العرض والطلب على المواد الخام، التي تنتظر في البحر أو تحت الأرض أو في الاحتياطيات، لكن -هذه المرة- انخفض الطلب في الأسواق بينما كانت مواقع التخزين في أوروبا ممتلئة تقريبا.
يأتي هذا، بينما أبدى عدد من المستثمرين مخاوفهم من استمرار الانخفاض الحاد في شحنات الغاز الروسي إلى أوروبا العام المقبل.
ففي أغسطس/آب الماضي، كانت حصة روسيا من واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز 17.2% فقط، وفق آخر بيانات المجلس الأوروبي.
تحذير وكالة الطاقة الدولية
حثت وكالة الطاقة الدولية -في تقرير نشرته الخميس- الدول الأوروبية على ضرورة التحرك بسرعة لمنع حدوث نقص في الغاز الطبيعي العام المقبل.
وقالت الوكالة التي تتخذ من باريس مقرا “النقص سيحدث إذا أوقفت روسيا شحنات خطوط الأنابيب بالكامل ردا على العقوبات الغربية بسبب حربها على أوكرانيا (في حين) عززت الصين وارداتها من الغاز الطبيعي المسال الذي تعتمد عليه أوروبا لتحل محل الإمدادات الروسية”.
وحذرت الوكالة من أن منطقة اليورو ستكون بحاجة إلى 30 مليار متر مربع لـ “تغذية اقتصادها وإعادة ملء مواقع التخزين خلال صيف 2023” وهو ما قد يضعها أمام تهديد استعداداتها لفصل شتاء 2023ـ2024.
يحدث هذا في وقت قد تمتص فيه الصين -ثاني أكبر اقتصاد في العالم- 85% من الزيادة المتوقعة بإمدادات الغاز الطبيعي المسال العالمية إذا تعافت مشتريات بكين العام المقبل، وذلك عقب انخفاض في وارداتها خلال الأشهر العشرة الأولى من هذا العام.
وكالة الطاقة الدولية قالت في تقريرها أيضا إن موسكو قد توقف عمليات التسليم بشكل كامل، مستبعدة إرسالها 60 مليار متر مكعب من الغاز إلى أوروبا عام 2023.
وقال المدير التنفيذي للوكالة الطاقة فاتح بيرول في بيان “رغم الطقس المعتدل الآونة الأخيرة وانخفاض أسعار الغاز، يتعين على الحكومات اتخاذ إجراءات فورية لتسريع التحسينات في كفاءة الطاقة وتعزيز مصادر الطاقة المتجددة والمضخات الحرارية، وخطوات أخرى لتقليل الطلب على الغاز هيكليا” مشيرا إلى أن الشتاء المقبل سيكون أكثر ضراوة.
وحذر من أن “مواقع تخزين الغاز في أوروبا قد تكون ممتلئة بنسبة 65% فقط عام 2023، مقارنة بـ 95% هذا العام”.
انخفاض مؤقت
يرجع الانخفاض الحالي في أسعار الغاز بشكل أساسي إلى الطقس المعتدل والتباطؤ في الصناعة الأوروبية، فضلا عن نمو المعروض من الغاز الطبيعي المسال وعدد غير مسبوق من ناقلات الغاز التي ترسو قبالة السواحل الأوروبية.
ففي نهاية أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، كانت ما لا تقل عن 7 سفن محملة بالغاز تنتظر قبالة سواحل إسبانيا، واثنتان أخريان بالقرب من محطة “ميلفورد هايفن” جنوب غرب ويلز.
ومع ذلك، فإن الأسواق تتوقع استمرار نقص المعروض من الطاقة على المدى الطويل.
وتجدر الإشارة إلى أن مخزونات الغاز بأوروبا تغطي فقط ما يعادل 3 أشهر من الاستهلاك، مما يزيد من احتمالية أن تجد القارة نفسها أمام احتياطيات فائضة، لكن مع توقعات بندرة وشيكة في الأسواق بسبب الاختلاف بين مستويات المخزون من جهة والتدفق من جهة أخرى.
كما يذكر أنه في النصف الأول من هذا العام، دفعت الأسر الأوروبية ما متوسطه 25.3 يورو مقابل 100 كيلووات من الكهرباء، بما في ذلك الضرائب، بينما دفعت 8.6 يوروهات مقابل 100 كيلووات من الغاز المستهلك، وفقا لتقارير الشبكة الإعلامية الأوروبية المتخصصة في سياسات الاتحاد الأوروبي “يوراكتف” (Euractiv) وهذا يعني زيادة متوسطها 3.3 يوروهات أكثر مقارنة بالنصف الأول من عام 2021.
درع التعريفة في فرنسا
يستفيد الأفراد والشركات الصغيرة، التي تستهلك أقل من 150 ميغاوات في الساعة، من درع التعريفة الجمركية منذ أكتوبر/تشرين الأول 2021 لحماية مستهلكي الغاز المنزلي، أو المنازل التي يتم تدفئتها بالغاز بالطرق الجماعية، أو عن طريق شبكة التدفئة المركزية، من تقلبات السوق وارتفاع الأسعار.
ويهدف المرسوم الحكومي إلى تجميد الأسعار الخاصة بشركة “إنجي” عند مستواها إلى غاية 30 يوليو/تموز 2023.
كما توسعت المادة 181 من قانون المالية لهذا العام ليشمل تجميد الأسعار شركات التوزيع المحلية “إي إل دي” (ELD) التي تكون أسعارها أعلى من أسعار “إنجي”.
واشتركت أكثر من 5 ملايين أسرة تقوم بالتدفئة أو الطهي بالغاز في عروض مجانية للسوق بسعر ثابت، كما اختارت أقل من ربع الأسر من عرض مجاني بسعر متغير، في حين اختار ربع آخر الاستفادة من التعريفة المنظمة.
ووفقا لحسابات الحكومة، يضمن درع التعريفة للأسر -التي تعتمد على الغاز للتسخين- متوسط زيادة في الفواتير بحوالي 25 يورو شهريا، بدلا من 200 يورو في الأوضاع العادية، إلا أنه من المتوقع أن ترتفع هذه الأسعار في حدود 15% اعتبارا من يناير/ كانون الثاني المقبل.
وكانت رئيسة الوزراء إليزابيث بورن قد صرحت خلال مؤتمر صحفي، في سبتمبر/أيلول الماضي، أن الحكومة ستوزع “شيكات طاقة” تتراوح قيمتها بين 100 و200 يورو على نحو 12 مليون أسرة محدودة الدخل لمساعدتها على تغطية فواتير التدفئة هذا الشتاء.