اقتصاد

تعديل قانون السرية المصرفية في لبنان.. عقبات وشوائب شروط صندوق النقد الدولي

 بيروت- بعد 66 عاما من السرية التي حولت المصارف اللبنانية إلى ملجأ آمن لرؤوس الأموال، أقر البرلمان قانون تعديل أحكام السرية المصرفية، وأصبح نافذا مع صدوره مؤخرا بالجريدة الرسمية.

وإذا كان الهدف من وراء التعديل الاستجابة للمطالب الدولية بطي عهد التهرب الضريبي وجذب الأموال الباحثة عن ملاذ بعيد عن أعين السلطات؛ يطرح كثيرون تساؤلات عن مدى قدرة القضاء اللبناني على الاستفادة من توسيع صلاحياته في ظل النفوذ السياسي على الجهاز القضائي.

وهكذا، أصدر لبنان حتى الآن قانونين من بين 4 قوانين أساسية أخرى يشترطها صندوق النقد الدولي مقابل منحه قروضا مالية تقدر بما بين 3 و4 مليارات دولار ضمن برنامج مساعدات يسعى لانتشال البلاد من أزمة اقتصادية ومالية حادة تعصف بها منذ أواخر عام 2019.

وإضافة إلى تعديل أحكام السرية المصرفية، أصدر لبنان قانون موازنة 2022، علما بأن الصندوق عاد وطالب بضرورة الإسراع والعمل على إصدار قانون موازنة 2023.

أما القانونان اللذان لم يقرا بعد، فهما: قانون تنظيم وتقييد التحويلات المالية (الكابيتال كونترول) وقانون إعادة هيكلة المصارف، وأمامهما عقبات كبيرة، نظرا للخلافات الحادة حولهما بين الكتل البرلمانية ومع القوى السياسية والنقدية، ناهيك عن أن البرلمان يعجز عن إقرار أي قانون في ظل الشغور الرئاسي بعد انتهاء ولاية الرئيس اللبناني ميشال عون.

ما قصة تعديل قانون السرية المصرفية؟

انفجرت أزمة المودعين المقيمين وغير المقيمين بعد المظاهرات الشعبية في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، وترافقت مع تقارير محلية ودولية تتحدث عن تحويل ملايين الدولارات من لبنان إلى الخارج، واستفاد جميع أصحابها من قانون السرية المصرفية المطلق.

ومن حينها، تفرض المصارف قيودا مشددة على السحب بالعملات الأجنبية، وتعددت أسعار الصرف فيها وجميعها دون سعر الصرف الحقيقي للدولار بالسوق السوداء، البالغ مؤخرا نحو 40 ألفا، ومنذ 3 سنوات تتصدر أزمة المصارف والمودعين المشهد اللبناني، وخرجت من رحمها مطالب كثيرة؛ على رأسها الدعوة لرفع السرية المصرفية كأداة لملاحقة المتورطين فيها، والتي تسببت في خسارة عشرات الآلاف أموالهم وحجز ودائعهم.

وهنا يصف الصحفي الاقتصادي في “المفكرة القانونية” إيلي الفرزلي إقرار القانون بالإنجاز، رغم شوائبه، “لكنه أتى بعد عقود كانت السرية المصرفية بمثابة بئر تخفي جرائم الفساد وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع، قبل الحرب الأهلية وبعدها”.

ويتحدث للجزيرة نت عن 3 محطات أساسية مرّ بها القانون قبل إقراره نهائيا بالبرلمان في 18 أكتوبر/تشرين الأول 2022:

  • في مايو/أيار 2020: كانت المرة الأولى التي يقر فيها البرلمان اقتراح قانون “تعديل أحكام السرية المصرفية”، وحصر صلاحية رفع السرية في “هيئة التحقيق الخاصة” لدى مصرف لبنان المركزي، التي يرأسها حاكم المصرف رياض سلامة.
  • وفي يونيو/حزيران 2020: رفض رئيس الجمهورية السابق ميشال عون التوقيع على مرسوم القانون، فأعاده للجنة المال والموازنة بالبرلمان، طالبا منح النيابات العامة والقضاء صلاحية رفع السرية المصرفية أيضا.
  • وفي يوليو/تموز 2022: أُقر القانون للمرة الثانية، بعدما طرأت عليه تعديلات كثيرة استجابة لمشروع قانون قدمته حكومة نجيب ميقاتي في مارس/آذار 2022 في إطار التفاوض مع صندوق النقد الدولي، فمنح القضاء صلاحية الولوج إلى السرية المصرفية بقضايا الإثراء غير المشروع والغش الانتخابي، لكنه -حسب مراقبين- كان مليئا بثغرات يمكن أن تكون مهربا من رفع السرية.

وعقب إقرار القانون في يوليو/تموز الماضي، تسربت ملاحظات من صندوق النقد عليه، وأبرزها تكريس احتكار هيئة التحقيق الخاصة، وتجاهل مرجعية النيابات العامة برفع السرية، وتجاهل مرجعية الهيئات القضائية بالحصول على المعلومات من دون المرور بهيئة التحقيق الخاصة، وحينها رد الرئيس عون القانون، طالبا تعديله.

ثم أقره البرلمان للمرة الثالثة وبصيغته النهائية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وكان مطابقا بنسبة عالية لما طلبه الصندوق، وإثر ذلك أصبحت للقضاء -بما في ذلك النيابة العامة المالية والهيئات الضريبية- صلاحية الطلب مباشرة رفع السرية المصرفية.   

ما الحالات التي يشملها رفع السرية المصرفية؟

عمليا، أخرج لبنان أحكام السرية المصرفية المطلقة، لكن النتائج الفعلية لن تظهر إلا بالممارسة الجدية، وفق ما يقوله الخبير المالي والضرائبي المحامي كريم ضاهر للجزيرة نت.

اقرأ ايضاً
الإبراهيم يلتقي وزير الاقتصاد والتنمية المستدامة في جمهورية جورجيا

وكان ضاهر مشاركا في دراسة قانون تعديل أحكام السرية المصرفية على مدار عامين، ممثلا عن نقابة المحامين، ويصف مخاضه “بالعسير جدا”؛ لأن معظم القوى السياسية “كانت تخلق العقبات لعرقلته” لأنها كانت تحظى بحماية بالغة في مراكمة الثروات.

وعليه، أصبحت صلاحية القانون بمفعول رجعي حتى سنة 1988، ويشمل فئات كثيرة، مثل: رؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصارف ومديريها التنفيذيين ومدققي الحسابات الحاليين والسابقين، ورؤساء وأعضاء مجالس إدارة الشركات التي تدير أو تملك الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمكتوبة والإلكترونية، والموظفين العامين والقائمين بمسؤوليات وخدمات عامة، ورؤساء ومديري الجمعيات وهيئات المجتمع المدني، وعائلات الموظفين ورؤساء الجمعيات والمديرين والأسماء المستعارة عنهم وأصحاب الحق الاقتصادي.

القضاء وعقبات السرية

لكن ورغم إعطاء القضاء صلاحيات أوسع بتعديل أحكام السرية المصرفية، ثمة شكوك كبيرة حول مدى قدرته على التحرك، سواء بسبب سطوة السلطة السياسية عليه، أو بسبب حالة التعطيل التي يشهدها، إذ ينفذ أكثر من ثلث قضاة لبنان اعتصاما غير مسبوق منذ نحو 4 أشهر للمطالبة بتحسين أوضاعهم المادية.

ويقول ضاهر إن الأزمة الكبرى تكمن في النيابات العامة والقضاء الجزائي، “إذ يتم تعيين رؤسائها وقضاتها من قبل السلطة التنفيذية، وثمة دعاوى كثيرة حول قضايا مالية ومصرفية كبرى لم تصل لنتيجة بفعل السطوة السياسية على القرار القضائي وتطويق استقلاليته”. ويضيف أن “تحرك القضاة المستقلين والنزيهين ستواجهه عقبات كبرى بالنيابات العامة إذا طلبوا التحرك لرفع السرية المصرفية عن جهات نافذة”.

ويذكر ضاهر أن كلا من لجنة الرقابة على المصارف والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تحتاج لمرسوم موقع من الحكومة بعد اقتراح وزير المالية للسماح برفع السرية المصرفية عن الملفات التي بحوزتها.

والمقلق في القانون -حسب ضاهر- أنه يحصر مثلا صلاحيات القضاء المختص في طلب المعلومات المصرفية بالجرائم المالية في حال وجود دعوى قائمة؛ مما يعني حرمان النيابات العامة من طلب معلومات مصرفية في إطار التحقيق وتكوين الملف قبل إقامة دعوى قضائية، كما لم يسمح القانون للهيئات الناظمة والرقابية للمصارف بكشف معلومات عن حساب أو عميل معين.

ويشير ضاهر إلى أن سبل الحد من فعالية القانون كثيرة، لأنه لم يسمح للمراجع القضائية بطلب معلومات بشأن أشخاص يتمتعون بحصانة من دون الحصول على إذن مسبق بالملاحقة.

تحول تاريخي

ظهر نظام السرية المصرفية في لبنان عام 1956، وجذب الرساميل العربية والأجنبية، وترافق مع إغراء بفوائد مرتفعة للغاية، وبلغت بداية التسعينيات نحو 40% على سندات خزينة الدولة، وفي 2008 مثلا ومع انفجار الأزمة المالية والمصرفية العالمية، وتقديم دول كبرى كسويسرا ولوكسمبورغ والنمسا تنازلات عن السرية المصرفية، هرب كثيرون إلى مصارف لبنان لإيداع أموالهم.

لكن بعد أزمة 2019، اضطر المركزي مع المصارف إلى خفض معدلات الفوائد على الودائع بالدولار من نحو 6.5 إلى 0.97%، وعلى ودائع الليرة من نحو 9.5% إلى 2.91%، وذلك مقابل تراجع كبير في الحسابات الخارجية للقطاع المصرفي وتفاقم العجز بميزان المدفوعات؛ وهكذا تحولت “نعمة” السرية إلى نقمة مدمرة.

شوائب الصندوق

يقلل رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية والمستشار السابق لدى صندوق النقد الدولي منير راشد من أهمية تعديل أحكام السرية المصرفية، بوصفه ليس عاملا إصلاحيا ضخما في المرحلة الراهنة.

ويقول راشد للجزيرة نت إن طلبات صندوق النقد الدولي من لبنان معظمها غير منطقية، وهو ما تجلى في خطة حكومة ميقاتي المالية؛ إذ تعتمد الخطة على شطب ودائع المصارف التجارية وشطب ديون الدولة لدى المركزي، واستنفاد أصول المصارف التجارية للتعويض عن الخسائر المفترضة، وعليه “سيشطب نحو 84 مليار دولار من أصل الودائع البالغة 99 مليار دولار. وتحتفظ فقط بـ14 مليار دولار منها كودائع ويفترض سحبها خلال 7 سنوات”، وذلك “بدل إعادة جدولة الودائع والالتزامات بالقطاع المصرفي وتوفير السيولة اللازمة لإنعاش الاقتصاد.

ويضيف أن الكساد والتضخم والانكماش ستعم جميع المرافق إذا طبقت خطة حكومة ميقاتي بالتوافق مع بعثة صندوق النقد الدولي، “التي تتسم بالغموض المتعمد، وستقضي على القدرة الشرائية للمواطنين أكثر من وضعها المتدهور حاليا”.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى