بها دير عمواس التاريخي.. الجزيرة نت تزور آخر عائلة مسيحية ببلدة القبيبة المقدسية
رام الله- يستذكر الفلسطيني نافز حمودة فترة أعياد الميلاد في قريته “القبيبة” الواقعة إلى الشمال الغربي من مدينة القدس المحتلة، خلال طفولته. ويقول “كانت تعجّ بالمسيحيين الفلسطينيين وبالسياح الأجانب، بينما تصطفّ الفرق الكشفية والموسيقية في موكب طويل من بداية القرية وحتى دير عمواس، وتنتشر بسطات الباعة المتجولين في كل مكان”.
ورغم التغيرات السياسية والاجتماعية التي أثّرت على احتفالات الأعياد في القبيبة، التي تضم واحدا من أهم الأديرة في فلسطين، ورغم وهجرة معظم المسيحيين من أبناء القرية، فإن الأهالي فيها يحافظون على الحد الأدنى من الاحتفالات، من خلال إضاءة شجرة الميلاد في الدير وتوزيع الحلوى واستقبال رجال الدين الذين يقصدونها في فترة الأعياد.
ويذكر حمودة، وهو رئيس بلدية القرية، كيف أثر حصارها بالجدار الإسرائيلي الذي أقيم من الجهتين الغربية والجنوبية والتهم أكثر من 100 دونم من أراضيها، على احتفالاتها وعلى وجود المسيحيين، وأدى إلى انقطاع أهلها عن مدينة القدس التي لا تبعد سوى 11 كيلومترا، وأصبحت بعد بناء الجدار تحتاج لساعات للوصول إليها.
أكثر من 40 ألف حاج غابوا
وفي السنوات ما قبل بناء جدار الفصل العنصري (بدأ بناؤه عام 2002)، يقول حمودة “كان يزور القرية أكثر من 40 ألفا من الحجاج المسيحيين من داخل فلسطين وخارجها في وقت واحد، ولكن بعد بناء الجدار أصبحت هذه الاحتفالات تقتصر على أهالي القرية والقرى القريبة”.
وسُميت القبيبة بهذا الاسم نسبة إلى نمط بناء بيوتها قديما والتي كانت تتميز بالقِباب. وهي تتوسط قرى شمال غرب القدس (عددها 16 قرية) والتي عزلها الجدار الفاصل عن امتدادها الطبيعي مع مدينة القدس منذ عام 2002.
ويسكنها الآن 4500 نسمة، 15% منهم فقط يحملون بطاقات الهوية المقدسية، ورفضت إسرائيل منح البقية هوية القدس بعد احتلال القرية في عام 1967. ويبلغ عدد عائلاتها 9، من بينهم عائلة “واكيم” المسيحية الوحيدة المتبقية في القرية.
محطة في طريق المسيح
ولكن ما أهمية هذه القرية وديرها المسمى “دير عمواس” تاريخيا لتكون محطة رئيسية في الأعياد المسيحية؟ يجيب عن ذلك الأب فرانشيسكو باتّون الفرنسيسكاني، حارس الأراضي المقدسة، في خطبته في “دير عمواس” خلال أعياد 2021 قائلا “جئنا هنا إلى عمواس القبيبة، وهي أحد الأماكن المحتملة للمكان الذي رواه القديس لوقا في فصل 24”.
وبحسب هذا الفصل من الإنجيل، فإن المسيح وقبل “قيامته الأخيرة” اجتمع مع اثنين من تلاميذه الذين كانوا يسيرون في الطريق إلى “عمواس” والتي تبعد 11 كيلومترا عن مدينة القدس.
ومن بين العديد من المواقع المفترضة لمكان اللقاء، قدّر الباحثون لاحقا أنه القبيبة، لأنها تبعد عن القدس نفس المسافة المذكورة في النّصوص الإنجيلية.
وبُنيت في هذا المكان كنيسة بيزنطية تعرضت للتدمير، فأعيد بناؤها من جديد -البناء الحالي- في القرن الـ14 الميلادي، وحملت نفس الاسم الإنجيلي “عمواس”، وهو المكان الذي بات يضم كل الاحتفالات المسيحية الرسمية والدينية في القرية.
جزء من هوية القرية
يقول ممثل حركة فتح في القرية “حازم حمودة” إن هذا الدير له مكانته لدى كل أبناء القبيبة وليس فقط للمسيحيين القلائل الذين تبقوا فيها، ويعتبر مكانا يتمثل فيه التعايش المسيحي الإسلامي، حيث يشارك راعي الدير في كل المناسبات الإسلامية ويقيم فيه إفطارات رمضانية للصائمين المسلمين، ويفتح أبوابه لكل سكان القرية.
ومن جهة أخرى، تحولت الأعياد المسيحية إلى أعياد وطنية لكل سكان القرية، إذ تقوم البلدية ومؤسسات القرية ونشطاؤها بالتحضير لها وإضاءة شجرة عيد الميلاد ومشاركة العائلة المسيحية المتبقية احتفالاتها كل عام.
ويقول حازم حمودة للجزيرة نت “هذه الاحتفالات جزء من هويتنا الثقافية والجمعية في القرية، كبرنا وكانت الكنيسة أهم معالمها”.
هجرة معظم المسيحيين
يُعتبر فيكتور واكيم الآن أكبر أفراد العائلة المسيحية الأخيرة في القرية، ومعه زوجته وأبناؤه الأربعة وشقيقته. ويقول إن عائلته رفضت الهجرة وتمسّكت بالعيش في القبيبة التي لجأ جده إليها من بلدة عين كارم -غربي القدس- والتي هجرتها العصابات الصهيونية في نكبة 1948.
التقينا واكيم حيث يعمل في مركز لكبار السن يحتضنه دير “راهبات المخلّص” القريب من دير عمواس. وفي حديث سريع تطرق بحسرة إلى هجرة العائلات المسيحية الأخرى من القرية. وقال ” لم يتبقّ غيرنا، وعائلتنا الكبيرة متفرقة الآن في كل العالم، وهذا هو حال العائلات المسيحية في كل فلسطين بسبب الهجرة”.
وحال القبيبة مثل حال كثير من القرى الفلسطينية التي هجرتها العائلات المسيحية في ظل موجة هجرة واسعة من فلسطين إلى الخارج بسبب الأوضاع الصعبة تحت الاحتلال الإسرائيلي، أو لتوجههم للعيش في المدن الرئيسية التي يتمركز بها المسيحيون مثل بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور ورام الله.
وباتت بعض المناطق المسيحية التاريخية خالية من العائلات المسيحية بالكامل. كما هو الحال في بلدة نصف جبيل شمالي الضفة الغربية وجارتها بلدة سبسطية التي تعتبر واحدة من أهم البلدات المسيحية التاريخية في فلسطين، ولم يتبقَ فيها سوى عائلة من 3 أفراد.
ورغم عدم وجود إحصاءات جديدة، فإن أحدث ما نشر من بيانات رسمية يؤكد تراجع نسبة المسيحيين في فلسطين من قرابة 12% من عدد السكان الإجمالي إلى أقل من 1%، وفق ما جاء في دراسة لجامعة دار الكلمة في بيت لحم عام 2017.
بهجة ناقصة
ورغم الحسرة الكبيرة التي يتحدث بها فيكتور واكيم (68 عاما)، فإنه ما يزال يبث شعوره بجمالية الاحتفال بالأعياد وذكرياتها قبل حصار البلدة وبناء الجدار حولها وهجرة المسيحيين منها.
ويقول “كانت تنظم هنا احتفالات كبيرة ويتم التحضير لاستقبال السياح والحجاج على مدار أيام، ولم تكن محصورة على أبناء القرية فقط”.
لكن أكثر ما يتذكره واكيم هو تحضير والدته للعيد، وهي التي اعتادت ارتداء الثوب الفلاحي المطرّز المميز لنساء القرية كافة، وهي تنشغل مع جاراتها في صناعة الكعك لتوزيعه على المهنئين من الأهالي ومن الخارج. ويقول “نحاول الحفاظ على هذه الطقوس، ولكن نشعر أن بهجة العيد ناقصة”.