اليوم العالمي للأسرة.. الاحتلال أباد عائلات وعصف بحياة آلاف الأطفال في غزة
غزة- “حضن ومقلوبة أمها الشهيدة”، و”اللعب مع أشقائها الشهداء الأربعة”.. تفاصيل صغيرة لا تزال عالقة في ذاكرة الطفلة الفلسطينية سوزي اشكنتنا، بعد 19 شهرًا على المجزرة الإسرائيلية المروعة التي قضت على أسرتها الوادعة، ونجت مع والدها منها بأعجوبة من تحت أنقاض منزلها الذي حوّلته غارة جوية إلى كومة من الركام.
ولا تغادر التفاصيل ذاكرة سوزي (8 أعوام)، التي وجدت نفسها في لمح البصر يتيمة وحيدة، بعدما كانت قبل لحظات من المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل في شارع الوحدة بمدينة غزة، خلال الحرب الأخيرة في مايو/أيار 2021، واحدة من 5 أشقاء كانوا شهودا على مجازر أخرى، يرقبون صواريخ الاحتلال عن بُعد عبر الشبابيك.
والكارثة التي حلت بأسرة سوزي نالت من أسر أخرى فقدت أكثر من فرد في هذه المجزرة التي تُعرف شعبيا بـ”مجزرة شارع الوحدة”، وراح ضحيتها عشرات الشهداء والجرحى.
اغتيال أسرة
ابتلع دمار المنزل المكون من 4 طوابق أسرة اشكنتنا جراء غارة شنتها طائرة حربية إسرائيلية خلال إحدى ليالي الحرب على غزة، لم ينجُ منها إلا سوزي ووالدها رياض، بعد ساعات من الرعب قضياها تحت الأنقاض.
عاد رياض إلى الحياة قبل سوزي بقليل. وقال للجزيرة نت “إنها جريمة بشعة من احتلال مجرم دمر حياة أسرة بالكامل..”. وفقد الأب في هذه الغارة كلا من دانا (9 أعوام) ولانا (6 أعوام) ويحيى (5 أعوام) وزين (عامان) وأمهم عبير (29 عاما). وقال “كنا أسرة مسالمة، وبقينا أنا وسوزي وحدنا على قيد الحياة نكابد مرارة الفقد”.
ومنذ المجزرة، لا تميل سوزي للحديث مع الغرباء، وتجد نفسها أكثر اندماجا مع أبناء خالتها الوحيدة، وتجد فيهم “بعضا” مما افتقدته باستشهاد والدتها وإخوتها الأربعة، وهو ما يدفع والدها للاستجابة لطلبها بالبقاء في منزل خالتها، وهي في الوقت نفسه زوجة عمها، لعدة أيام كل أسبوع.
ولا يوفر رياض جهدا في سعيه لإخراج طفلته من صدمة الحدث، ومساعدتها للمضي قدما في حياتها وتحقيق حلمها بأن تصبح طبيبة، لكنه يقر بصعوبة مهمته. ويقول “كانت سوزي حلقة الوصل بين والدتها وأشقائها، رغم أنها ليست أكبرهم أو أصغرهم، لكنها ذكية وتجيد الحديث، وليس سهلاً عليها أن تنسى كل هذه التفاصيل”.
وقبل أيام كانت سوزي برفقة خالتها وأبنائها، وفاجأت الجميع بكتابة أسماء والدتها وأشقائها على زجاج السيارة، وبحسب رياض فإن ذاكرتها لم تغادر حياتها السابقة، وما تزال متعلقة بأشياء كثيرة تذكرها بمن رحلوا حتى في الطعام و”أكلة المقلوبة” المفضلة لديها.
تدخلات علاجية نفسية
فضلاً عن جهود والدها الذاتية، وسعيه لدمجها مع أقرانها، خضعت سوزي لجلسات علاج نفسي، في إطار مشروع خاص بالأطفال من ذوي الشهداء ومتضرري الحرب الإسرائيلية.
وتصف الأخصائية النفسية منار سلمي -للجزيرة نت- حالة سوزي في أول جلسة فردية بأنها “كانت تعاني من صدمة عميقة، وإنكار وقوع الحدث”.
جرّبت منار مع سوزي تمارين الاسترخاء لمساعدتها على البكاء والتعبير عن النفس والتركيز والتخلص من الشرود الذهني، وبعد محاولات مضنية بدأت ببناء الثقة مع توفير بيئة آمنة، بدأت في الاستجابة المحدودة.
وتفسّر منار انجذاب سوزي نحو بيت خالتها، بأنها تبحث عن الأمان لدى أشخاص كانوا على ارتباط وثيق بأسرتها، والخالة في حالتها هي أقرب هؤلاء، ومع وجود أطفال لديها فإنها تجد أجواء الأسرة التي افتقدتها باستشهاد أسرتها.
ورغم مرور شهور طويلة على المجزرة، تقول الأخصائية النفسية إن ذاكرة سوزي ما تزال حية بكثير من التفاصيل المؤلمة، وتربط أحداثا حالية بما حل بها؛ فمثلاً تفسر كل صوت مرتفع أو انفجار على أنه مجزرة، وتسترجع ما حدث مع أسرتها، وفي أيام التصعيد الأخيرة على غزة في أغسطس/آب الماضي رفضت بالمطلق التواصل مع الجميع، وعاشت أياما من الرعب.
عائلات مُسحت من السجل المدني
وخلال الحرب ذاتها التي يسميها الفلسطينيون “سيف القدس” واستمرت 11 يوما في مايو/أيار 2021، وثقت وزارة الصحة في غزة ارتكاب الاحتلال 19 مجزرة بحق عائلات أبيدت بالكامل، ولم يعد لها وجود في السجل المدني، أبرزها أسرة الطناني المكونة من الأب والأم الحامل وأطفالهما الأربعة.
وفي حينه، قالت منظمة العفو الدولية إن هناك “نمطا مروعا” يظهر من شن إسرائيل غارات جوية تستهدف المنازل، ما أدى في بعض الحالات إلى دفن عائلات بأكملها تحت الأنقاض.
هذا النمط من الجرائم عايشه الغزيون خلال الحروب الإسرائيلية الأربع، وفي جولات تصعيد متكررة تحولت فيها عشرات الأسر الفلسطينية إلى “أثر من بعد عين”، بقتلها كاملة أو فقدان غالبية أفرادها.
وأعنف هذه الجرائم ما وثقته منظمة “بتسيلم” الإسرائيلية لحقوق الإنسان في الحرب الثالثة عام 2014 بإبادة إسرائيل 70 أسرة بالكامل، أبرزها في مجزرة راح ضحيتها 18 فردا من عائلة البطش بينهم نساء وأطفال.
وآخر هذه الجرائم بحق العائلات وقعت خلال جولة التصعيد الأخيرة في أغسطس/آب 2022، وأسفرت عن استشهاد الأب ياسر النباهين و3 من أطفاله.
وعادة ما تتنصل إسرائيل من تحمّل المسؤولية عن استهداف العائلات، مثلما فعلت بردها دعوى منظمة حقوقية فلسطينية بشأن مجزرة عائلة الدلو التي ارتكبتها في الحرب الثانية عام 2012، بقصف منزلها بقنبلة كبيرة أسفرت عن استشهاد 12 فردا، هم 5 أطفال و5 نساء، وشابان.
الأسرة هي عالم الطفل
وإذا كانت الأسرة هي نواة المجتمع، فإنها بالنسبة للطفل العالم كله، فهي من توفر له الحماية والرعاية والاحتياجات الأساسية، وتفتح له بابا نحو المستقبل. لذا، يقول رئيس “برنامج غزة للصحة النفسية” الدكتور ياسر أبو جامع إن هناك شعورا عاما لدى أطفال غزة، وخاصة أبناء الشهداء، بفقدان الأمان.
وتشير دراسات البرنامج النفسي إلى أن 8 من بين كل 10 أطفال في غزة، والذين يشكلون 48% من مجموع السكان (2.3 مليون نسمة)، يعانون من تحديات نفسية كانعكاس لما تواجهه الأسرة.
وحدد أبو جامع في حديث للجزيرة نت، آثارا نفسية قاسية طويلة وقصيرة الأمد مرتبطة بفقدان الطفل لأسرته، أبرزها ما يعرف بأعراض ما بعد الصدمة. وفيها يتجنب الطفل المكان والزمان والأشخاص، ويلازمه الشعور الدائم بأن الحدث يتكرر، فضلاً عن أعراض انشقاقية وفيها يشعر الطفل أنه لا يعيش الحياة التي يعرفها، أو أنه يعيش حياة أخرى أو أنه نفسه شخص آخر.
وإضافة لذلك، بحسب أبو جامع، يصاب الطفل بالاكتئاب وفقدان اللذة والمتعة وعدم الاهتمام بالتعليم والحياة عموما، مع آلام جسدية نتيجة الخوف المستمر. ويقول إن بعض هذه الأعراض يتم التعافي منها إذا كانت البيئة داعمة، “لكن للأسف لا تساعد البيئة في غزة على ذلك بفعل الحصار والعدوان المتواصلين”.
ونتيجة لذلك، فإن هناك تغييرات تطرأ على شخصية الطفل قد تستمر معه إلى الأبد، ويقول أبو جامع إن كل صدمة يتعرض لها الطفل تترك أثرا ظاهرا أو خفيا قد لا يمحوه الزمن.