لبنان على حافة السقوط الحر لعملته.. خلفيات عديدة وسيناريوهات مقلقة
بيروت– سئم اللبنانيون تداول عبارات على غرار “انهيار تاريخي وغير مسبوق لليرة أمام الدولار” بعدما أضحت يومياتهم أشبه بتمرين قسري على التكيّف مع تداعيات السقوط الحرّ لعملتهم الوطنية.
يقول مواطنون “هل كنا نصدق قبل أشهر فقط أن يبلغ سعر صرف الدولار 50 ألف ليرة؟” وها هو بغضون أيام يكسر عتبة 60 ألفا للدولار، في انفلات يعجز خبراء اقتصاديون عن توقع مآلاته مستقبلا في ظل الاستمرار بالسياسات النقدية عينها، وإطباق أفق الحلول السياسية والقضائية والخارجية كمعبر للجم هذا الانهيار.
وفي مشهد يومي أيضا، تدخل شريحة واسعة من اللبنانيين إلى المتاجر وفي جيبها رزمة كبيرة من أوراق الليرة لشراء القليل من حاجاتها الغذائية التي تشهد تضخما هائلا بالأسعار، وبعدما كانت ورقة 100 ألف ليرة مثلا تساوي قبل الأزمة نحو 66 دولارا وفق سعر صرف الرسمي 1500 ليرة، أصبحت قيمتها اليوم أقل من دولارين.
هذا الواقع المرير، يشكل -وفق خبراء- تهديدا خطيرا للأمن الغذائي والاجتماعي، نتيجة موجة الدولرة الواسعة لأسعار السلع والخدمات مقابل التآكل المستمر في قيمة مداخيل الأسر واتساع رقعة البطالة والفقر المتعدد الأبعاد الذي يطال نحو 85% من الشعب اللبناني.
أسباب الانهيار المتواصل
يستيقظ اللبنانيون كل يوم على تقلبات سعر صرف الدولار، تنقله لهم تطبيقات إلكترونية غير شرعية تدير دفة السوق السوداء لعملتهم، وتتصاعد الأصوات من تداعيات ذلك، ويؤثر تلقائيا على سعر المحروقات المدولرة، إذ تجاوز سعر صفيحة البنزين (20 لترا) مليون ليرة (نحو 19 دولارا) ويدفع التجار إلى مضاعفة أسعارهم عشوائيا نتيجة غياب الرقابة الفاعلة من قبل مؤسسات الدولة.
ويأتي هذا الارتفاع المضطرب لسعر صرف الدولار بعد أسابيع من تعليق المصرف المركزي تعميمه الذي قضى ببيع الدولارات من دون سقف للمؤسسات والأفراد، بعدما رفع سعر صرف الدولار على منصة صيرفة إلى 38 ألف ليرة.
وتذكر الصحفية المتخصصة بالشأن الاقتصادي عزة الحاج حسن أن هذا التدهور المستجد، بقيمة الليرة، يؤكد مرة جديدة عدم فاعلية واستدامة إجراءات “المركزي” التي تشكل نوعا من المضاربات واللعب بالعامل النفسي للسوق والناس بمواجهة أسوأ حالة تضخم.
وتقول للجزيرة نت إن المعطيات المالية والاقتصادية لا تبشر بتراجع حقيقي لسعر صرف الدولار، بل تؤشر إلى ارتفاعه المستمر من دون سقف. وتفيد أن تدخلات المركزي السابقة بالسوق السوداء كانت تبطئ وتيرة تدهور الليرة عبر ضخه للدولار بالسوق وإن بمبالغ متواضعة.
أما ما يشهده لبنان اليوم من انفلات سريع لسعر صرف الدولار، فهو بحسب الخبيرة، نتيجة تضافر عوامل مالية واقتصادية وسياسية وقضائية وخارجية.
وترى الصحفية أن أحد أبرز هذه العوامل هو فشل غير معلن لمسار اتفاق لبنان مع صندوق النقد الدولي، أو على الأقل طي صفحته حاليا، بالتوازي مع فتح ملف الفساد المالي في البلد.
وقبل نحو أسبوعين، غادر وفد قضائي أوروبي من ألمانيا وفرنسا ولوكسمبورغ لبنان بعدما أجرى تحقيقات بإدارة وإشراف من القضاء اللبناني بقضايا مالية ومصرفية واستجوب مصرفيين ومسؤولين ماليين سابقين وحاليين، ومن المفترض أن يعود ثانية منتصف فبراير/شباط المقبل لاستكمال ملفات تحقيقاته.
وتعتبر الصحفية أن ذلك يسبب قلقا كبيرا للسلطة المالية والنقدية، وينعكس سلبا على واقع السوق والليرة. وتقول “يضاف إلى ذلك حراك أميركي على خط فرض عقوبات حملت رسالة للسلطة السياسية والنقدية والمالية في لبنان، مفادها: تحذير من استمرار العلاقة بين السلطة النقدية وحزب الله، لأن الشركة التي وقعت عليها عقوبات هي الرابط المباشر بين طرفين: مصرف لبنان وحزب الله”.
وقد فرضت الخزانة الأميركية، الثلاثاء، عقوبات جديدة على أفراد وكيانات، على خلفية اتهامهم بوجود صلات مالية بينهم وحزب الله، وطالت العقوبات كلا من حسن مقلد ونجليه ريان وراني، وشركة الصرافة التي يملكها بسبب علاقاتهم المالية مع حزب الله.
وتجد الصحفية أن هذه العقوبات ساهمت في هزة إضافية للسوق النقدي الذي يرزح تحت وطأة العوامل النفسية والسياسية للسوق، إضافة إلى التطورات المتسارعة قضائيا بملف انفجار مرفأ بيروت.
لذا، تجد أن سحب كميات كبيرة من الدولار من السوق متعمد من قبل المضاربين والتجار والمستوردين تحسبا لمزيد من التدهور والتأزم في البلد الذي يشكو من الشغور الرئاسي وشلل بأداء حكومة تصريف الأعمال.
“المركزي” يقف عاجزا
وأمام هذا الواقع، يقف المصرف المركزي عاجزا عن ضبط السوق، لأنه يتحرك وحده من دون مواكبة من قبل السلطة السياسية بإجراءات مالية واقتصادية وإصلاحية، وفقها.
من جانبه، يتوقع رئيس لجنة الرقابة على المصارف السابق سمير حمود أن تواصل الليرة انهيارها إلى هاوية لا قعر لها، لكنه يعتبر أن الإشكالية لم تعد بالمستوى الذي سيسجله سعر الدولار مستقبلا، بل بانعكاسات الوضع السياسي وانحلال الدولة، مقابل الاتكال على أموال المودعين في “المركزي” التي تتحكم بها سلة تعاميم وقرارات تحدد آلية استخدامها.
ويقول للجزيرة نت إن تدخلات “المركزي” بالسوق النقدي تكبده مع المودعين الكثير من الخسائر. ومع ذلك، يجد أن حاكم المصرف رياض سلامة سيواصل تدخلاته بالسوق حتى نهاية عهده في مايو/أيار المقبل، ويعبر عن قلقه مما يسميه الضغوط الأوروبية والأميركية التي تنعكس سلبا على السوق النقدي في البلد وتعجل من انهيار الليرة، الأمر الذي سيزيد -برأيه- الأزمات المعيشية.
وفي ظل استمرار انهيار الليرة، يسأل كثيرون عن مصير قيمة الودائع بالمصارف والمحتجزة على نحو غير قانوني منذ اندلاع الأزمة خريف 2019.
ويتفق حمود مع الحاج حسن لجهة اعتبار أن الودائع تواجه حالة من التآكل الكبير في قيمتها، وتقول الصحفية: كلما ارتفع سعر صرف الدولار الحقيقي بالسوق الأسود تتآكل الودائع، لأنها اليوم تصرف وفق سعر 8 آلاف ليرة للدولار، بينما ابتداء من أول فبراير/شباط ستصرف على 15 ألف ليرة لقيمة الدولار المصرفي، ومع ذلك “ستبقى نسبة الاقتطاع المصرفي من الودائع لا تقل عن 75% لأن سعر الدولار الحقيقي بالسوق يرتفع”.
المستهلك يدفع الثمن
وتتأثر مختلف القطاعات والخدمات بارتفاع سعر صرف الدولار، خصوصا أن لبنان يقوم على استيراد أكثر من 90% من حاجاته الاستهلاكية والصناعية والغذائية والصحية.
ويعتبر رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برو أن المستهلك النهائي، أي المواطن، هو من يدفع الثمن من جيبه لكل هذا الانهيار، مشيرا إلى أن حجم التضخم بالأسعار لمختلف السلع بلغ تراكميا منذ بدء الأزمة أكثر من 3000%، ويصف ذلك بالمؤشر الخطير، في ظل تعطيل مختلف مؤسسات الدولة الدستورية.
ويقول للجزيرة نت إن تدهور الليرة يعكس حالة الانهيار الشامل، ويتوقع أن تتصاعد في لبنان سيناريوهات الفوضى، بسبب غياب السياسات الاقتصادية المنتجة واستمرار نفس السياسات التي تعتمد على الاستيراد والاستهلاك.
ويؤكد برو أنه من خلال تتبع الجمعيات أن التجار والمستوردين يستغلون الفوضى لامتصاص جيوب الناس برفع الأسعار في سبيل مضاعفة أرباحهم وبناء ثرواتهم، مستفيدين من غياب منظومة الرقابة والعقاب، كما يحمل السلطات السياسية والنقدية والقضائية كل التداعيات الخطيرة التي تهدد لقمة عيش اللبنانيين وتزعزع أمنهم الاجتماعي.