أكثرها تواضعا وأشدها خطورة.. كيف أرخت الحرب الأوكرانية بظلالها على “أم الأعياد” في روسيا؟
موسكو- إجراءات أمنية غير مسبوقة ميّزت إحياء روسيا لعيد النصر على النازية الموافق للتاسع من مايو/أيار، وهو العيد الأهم والأبرز والذي يحتفل به تقليديا في الساحة الحمراء منذ عام 1945 حين سيطر الجيش الأحمر على العاصمة الألمانية برلين ورفع العلم السوفياتي هناك.
وتفيد قراءات مراقبين روس، بأن الأوضاع الأمنية المرتبطة بالحرب في أوكرانيا، قد أرخت بظلالها بشكل واضح على العرض العسكري والاحتياطات الأمنية المشددة التي أحاطت به، خاصة أنه يأتي بعد إسقاط طائرات مسيّرة فوق الكرملين قبل أيام.
لم يكن لمن شاهد موكب النصر على شاشات التلفزيون أو من مدرجات الضيوف، إلا أن يلاحظ أن العرض العسكري الرئيسي هذا العام في الميدان الأحمر كان مختلفًا بشكل ملحوظ عن سابقيه، حيث كان الأكثر تواضعًا ولكنه الأكثر تشددًا.
جرى إلغاء مسيرات “الفوج الخالد” وتظاهرات عيد العمال، والإبقاء على مستوى عالٍ من “التهديد الإرهابي” في مناطق عدة، كما تم تشديد الإجراءات الأمنية في الرحلات الجوية، مثل منع السيدات من حمل مبردات الأظافر أو زجاجات العطور في حقائب اليد.
في المقابل، حرصت الجهات المسؤولة على إفهام الناس أن مثل هذه الدقة في التفتيش كانت من أجل سلامتهم.
حرب مقدسة
شكّل الاحتفال مناسبة للرئيس فلاديمير بوتين لإطلاق مواقف أخذت في بعض جوانبها بعدا فكريا جديدا، مثل قوله إن “الحضارة باتت مرة أخرى على مفارق تحولات حاسمة، فقد اندلعت حرب حقيقية مرة أخرى ضد وطننا، لكننا واجهنا الإرهاب الدولي، وسنواصل حماية سكان دونباس وضمان أمن بلادنا”.
كما حرص الرئيس الروسي في خطابه على التأكيد أنه “بالنسبة لروسيا، لا توجد شعوب غير صديقة أو معادية سواء في الغرب أو في الشرق. وكمثل الغالبية العظمى من الناس على هذا الكوكب، نريد أن نرى مستقبلا يسوده السلام والحرية والاستقرار”، مؤكدًا أن “هذا هو بالضبط سبب الكارثة التي يعيشها الشعب الأوكراني، الذي أصبح رهينة سلطة انقلابية ونظام إجرامي تابع لأسياده الغربيين، وتحول لورقة مساومة لتنفيذ خططهم القاسية والأنانية”، حسب تعبيره.
هواجس أمنية
في هذا السياق، يقول الخبير العسكري فيكتور بارانتسيف، “إذا كان إلغاء الجزء الجوي من العرض في العام الماضي قد تم تفسيره حينها بحالة الطقس، فهذا العام كانت الرؤية مثالية، لكن منظمي العرض أخذوا هجوم الطائرات دون طيار الأخير على الكرملين في الحسبان، وقرروا عدم المخاطرة، حتى لو كان مستوى التهديد ضئيلا جدًا”.
وفي حديثه للجزيرة نت، أضاف بارانتسيف أن ظروف الجبهة، واستعداد القوات الأوكرانية بشكل متزايد للهجوم المضاد بنحو 80 ألف مقاتل، تتطلب تركيزًا أكبر على العمل الميداني والاستعداد للمواجهة، وليس على الاحتفالات.
وهي ما يفسر -حسب المتحدث- ارتفاع منسوب العمليات العسكرية الروسية في الأيام الأخيرة ضد القوات الأوكرانية ومعداتها ومستودعات الذخيرة ومحطات الوقود التابعة لها، وأبرزها سيطرة القوات الروسية على مداخل جميع الجزر الواقعة عند مصب نهر الدنيبر في منطقة خيرسون.
ولفت الخبير الروسي إلى عدم مشاهدة الدبابات الحديثة أو عربات المشاة القتالية أو أنظمة إطلاق الصواريخ البعيدة والمتوسطة المدى بعد إدخال التعديلات عليها، وكذلك أنظمة الصواريخ العملياتية التكتيكية في العرض هذه المرة، معتبرا ذلك يدخل في نفس السياق المشار إليه، كون وجودها مطلوبا وأكثر إلحاحًا في ساحات المعارك وعلى خطوط التماس.
رسائل سياسية
من جانبه، يرى الكاتب السياسي سيرغي بيرسانوف، أن الأوضاع المتوترة لم تسمح بالاحتفال بيوم النصر بالشكل المعتاد، مشيرا إلى المناطق الروسية المتاخمة لأوكرانيا، والأحداث الأمنية التي حصلت مؤخرًا لا سيما محاولة مهاجمة قصر الكرملين بمسيّرتين.
وحسب رأيه، فإن العرض العسكري المركزي في موسكو جاء هذا العام في ظروف تواصل الحرب في أوكرانيا وانهيار العلاقات مع المنظومة الغربية، ليوجه رسائل سياسية بالدرجة الأولى، وهو ما تضمنه خطاب بوتين الذي حمل رزمة مواقف تفيد بأن روسيا تخوض معركة دفاع عن النفس، وأنها مصرة على تحقيق أهدافها.
ويلفت بيرسانوف إلى أن الانقسام الحاصل في العالم اليوم ألقى بظلاله حتى على منصة ضيوف الشرف، التي خلت -على غير العادة- من سفراء البلدان الغربية، خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، ما كرّس من جديد أجواء حقبة الحرب الباردة حتى في جوانبها الشكلية.
وأضاف أن “التواريخ المهمة في روسيا تفتح شهية كييف لتنفيذ أعمال إرهابية، تؤدي من جهة لرفع الحالة المعنوية لدى القوات الأوكرانية، وعكس ذلك للقوات الروسية والرأي العام في روسيا، وهو ما لم يتحقق خلال الاحتفالات في أي مكان بالبلاد”.