نبش القمامة وتفحّص شواهد القبور.. بشير بركات يحكي للجزيرة نت رحلة 26 عاما من التأريخ للقدس
القدس المحتلة– كتب عن مقرئي القدس وأطبائها ومكتباتها وكوارثها ومائها، وألّف 45 كتابا عنها خلال 26 عاما، ويسأل الله أن يمد في عمره حتى لا يبقى شيء في المدينة المقدسة إلا وثقه وأرّخ له باحثا في أمهات الكتب وشواهد القبور والمخطوطات القديمة.
يخصص المؤرخ المقدسي بشير عبد الغني بركات 12 ساعة من يومه للقراءة والتأليف، وخص الجزيرة نت باللقاء الإعلامي الأول في مكتبه داخل مركز أبحاث مؤسسة دار الطفل العربي في المتحف الفلسطيني بالقدس، والذي يترأسه منذ نحو 10 سنوات أصدر خلالها 16 كتابا.
صداع في البعد عن التاريخ
ولد بركات في حي الثوري جنوب المسجد الأقصى عام 1958، ليكون الـ11 بين 12 شقيقا، ودرس الابتدائية حتى الثانوية في مدارس القدس متنقلا بين الشميدت ودار الأيتام والأمة، ليتخرج بتفوق من القسم العلمي ويسافر إلى ألمانيا لدراسة الطب تحت ضغوط مجتمعية رغم ميله الكبير إلى التاريخ، وقضى 6 سنوات هناك، 3 منها للدراسة و3 للتداوي من الصداع الشديد الذي أصابه بسبب “إقحام معلومات لا يرغب بها في رأسه” كما قال.
كانت تلك رسالة من جسد بركات ألا ينهمك إلا في دارسة التاريخ، لكن ظروفا عديدة آنذاك اضطرته لدراسة تخصص علمي، فتخرج في جامعة القدس بفلسطين في تخصص الحاسوب والرياضيات عام 1986، ثم نال درجة الماجستير في نظم المعلومات الإدارية من لندن عام 1989، ثم الدبلوم العالي في الرقابة الإدارية من هولندا عام 1992، وعمل خلال دراسته مترجما وكاتبا في صحيفة القدس ومحاضرا في جامعة القدس، قبل أن يسافر إلى برلين ليدرس الدكتوراه في نظم المعلومات.
انكباب على القراءة
وفي برلين قرر بركات أن يلتفت نحو شغفه، وبدل أن يبدأ رسالة الدكتوراه انهمك في قراءة مكثفة داخل مكتبة ألمانيا الوطنية، ويقول للجزيرة نت إنه كان يقرأ 13 ساعة يوميا حتى تغلق المكتبة، واستمر كذلك 3 سنوات عاد بعدها إلى القدس بعد أن حملت زوجته طفلتهم الثالثة، وألّف باكورة كتبه عام 1997، بينها كتاب “المستشرقون والصحوة الإسلامية”.
عام 1997 انطلقت رحلة بركات داخل مؤسسة دار الطفل العربي في القدس، فعمل مدرسا لعامين، واستطاع تأسيس وتنظيم أرشيف المؤسسة المتناثر بعد وفاة الراحلة هند الحسيني، ويقول إنه اكتشف “سدة” في شقة الحسيني بعد وفاتها احتوت آلاف الأوراق والوثائق التي خزنتها منذ عام 1946 وأمست لاحقا أرشيفا مهما للمؤسسة.
كنز عمره 5 قرون
تولى بركات عام 1999 إدارة دار إسعاف النشاشيبي في حي الشيخ جراح بالقدس، وتمكن من فهرسة وأرشفة مخطوطات الدار القديمة، وقام بعدها بفهرسة مخطوطات المكتبة البديرية والأوزبكية ومكتبة جامعة القدس.
وبين رفوف مكتبة الدار وقع بركات على ما وصفه بالكنز الذي أسس لمرحلة فاصلة في حياته، والذي دفعه إلى التخصص في تاريخ القدس.
كان ذلك الكنز 80 شريطا مصورا لسجلات المحكمة الشرعية في القدس منذ عام 1537 بواقع 400 ألف صفحة، وخلال أيام معدودة اشترى بركات جهازا قارئا للأشرطة وبدأ يقرأ السجلات ليلا ونهارا في أوقات الدوام والعطلات، ويقول للجزيرة نت إنه لم ينته من قراءتها حتى اليوم، وإنها باتت مرجعا ثمينا لتاريخ القدس، ويمكن أن تبنى عليها أكثر من 200 رسالة دكتوراه بحثية.
عندما يعلم بنية أحدهم إتلاف كتب أو وثائق ورقية ما كان يهرع بركات إليه ليحفظها من الضياع ويضمها إلى مكتبة دار إسعاف النشاشيبي ويفهرسها لتسهيل مهمة الباحثين، وخلال رحلة حفظ الكتب تلك وقع على كنز مقروء جديد عام 2003 استغرق فرزه وحفظه 6 أشهر.
في المقابر والمزابل
لم يُخفِ بركات أنه اضطر يوما لنبش القمامة في الشارع إنقاذا لكتب ثمينة رماها أحدهم قرب بيته، ويقول إنه لم يأبه لنظرات المارة المستغربة واستخرج الكتب جميعها قبل إتلافها.
كما أنه لم يأبه للنظرات ذاتها حين اهتم منذ صباه بقراءة وتفحّص شواهد القبور في القدس، ليعتمدها لاحقا مصدرا تأريخيا كما حدث حين حفر بيديه بحثا عن قبر مرمّم قناة السبيل إبان العهد العثماني في مقبرة باب الرحمة.
وإلى جانب المكتبات وسجلات المحكمة الشرعية وشواهد القبور اعتمد بركات البحث والمقابلات الميدانية مصدرا لمؤلفاته، إضافة إلى أمهات الكتب التي ألفها الرحالة عن تاريخ البلدان المختلفة، حيث تعد تلك الكتب مصادر غير مطروقة للباحثين في تاريخ القدس، لكنه بحث بين ثناياها لينقل مشاهدات كاتبيها حين زاروا المدينة ويستنبط منها معلومات قيمة مهمشة.
موسوعات سترى النور
حين سألناه عن أحب مؤلفاته إليه أجاب “المقرؤون المقدسيون، أدمع حين أذكره، كتبت فيه عن تاريخ 406 مقرئين مقدسيين، وبلغني أن بعض الجامعات قسّمت فصوله إلى رسائل دكتوراه، وأن باحثين عربا أوصوا باقتفاء أثره للكتابة عن تاريخ مقرئي العواصم العربية بشكل تفصيلي”.
ويوقع بركات مقدمات كتبه بجملة “حامدا مصليّا في بيت المقدس”، ويقول إنه يستغل صحته ووقته لإطلاق موسوعة عن مشاهير بيت المقدس يعمل عليها منذ 25 عاما، إلى جانب موسوعتين شاملتين علميتين عن المسجد الأقصى والقدس و15 كتابا.
واجه المؤرخ المقدسي بعض المشاكل خلال رحلته البحثية، منها عدم الاهتمام الجدي المنهجي بتاريخ القدس من قبل المثقفين عامة، وضعف تمويل النشر غير المشروط، والسرقات الأدبية لجهده الفكري.
ورغم تلك العوائق فإن بركات ينسب عطاءه إلى زوجته المعلمة أسماء قائلا “لدينا 4 أبناء، كنت أتأخر ليلا، وأجلب كميات كبيرة من الكتب إلى البيت، وأتفرغ ساعات طويلة للتأليف، بدون صبرها ودعمها لم أكن لأنتج شيئا”.
التأليف للتثبيت
يقول بركات إن الهدف الرئيس من مؤلفاته هو تثبيت الناشئة في بيت المقدس، ويوضح “عندما أكتب مثلا عن مجالس الحديث في الأقصى وروادها قديما ويقرأ أحد الناشئة أن جده كان محدثا أو حضر مجلس علم سيزداد تمسكه بالقدس وحبه لها، كما أنني أحرص على تنظيم جولات ميدانية في القدس لنخبة من الشبان”.
سألناه ختاما عما تعني القدس بالنسبة إليه، فصمت طويلا وبكى ثم أجاب “لا أعرف ماذا أقول، إذا خيّرت بين العيش في غرفة مظلمة داخل القدس أو قصر في جنيف فسأختار القدس طبعا، لا يغيب عني مشهد بكاء الصحابة الفاتحين مع عمر بن الخطاب بعد أذان بلال بن رباح في المسجد الأقصى، ربع ساعة بينهم آنذاك أحب إليّ من كل شيء”.