جنرال فرنسي سابق للجزيرة نت: الانسحاب من النيجر هزيمة لماكرون
باريس – بعد شهرين من لعبة عض الأصابع، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مساء الأحد، إجلاء سفير بلاده من النيجر وسحب القوات العسكرية من البلاد قبل نهاية العام.
واعتبر الجنرال السابق في الجيش الفرنسي فرانسوا شوفانسي الخطوة انعكاسا لفشل سياسي وخلل في الحسابات الخارجية من قبل رئيس الجمهورية، وأن باريس فقدت مصداقيتها فيما يتعلق بالسياسة الخارجية.
وفي مقابلة خاصة للجزيرة نت، يتوقع شوفانسي إرسال الجنود الفرنسيين إلى القاعدة العسكرية الدائمة في تشاد حتى تضمن فرنسا حضورها، وتستنفد كل الخيارات التي لا تزال متاحة أمامها في أفريقيا.
وأشار إلى سعادة الدول الأوروبية بخروج فرنسا من النيجر، لكي تركز عسكريا على أوروبا الشرقية وتهتم بقضايا مثل الهجرة غير النظامية، موضحا أن ذلك يعني نهاية النفوذ الاستعماري الفرنسي وفتح الأسواق أمام الصين وتركيا والمغرب.
-
بعد فترة طويلة من الأخذ والرد، ما أسباب قرار سحب القوات من النيجر؟
أعتقد أن فرنسا لم ترغب منذ البداية باستخدام القوة لفرض العودة إلى الحياة الطبيعية في النيجر، مما جعلها ترفض التدخل لإطلاق سراح الرئيس محمد بازوم وفك الارتباط بالسفارة.
وكانت النتيجة أن كل النقاشات لم تفض إلى النتيجة التي تأملها باريس، فوجدت نفسها أمام خيار سياسي يقتضي سحب 1500 من جنودها ونقل معداتها العسكرية تدريجيا خارج البلاد. ورغم محاولة فرنسا إظهار عضلاتها فإنها لم ترغب في استخدامها، فكان الحل الوحيد هو حزم أمتعتها والرحيل.
-
هل تعتقد أن الرئيس الفرنسي سيستمر في الدفاع عن محمد بازوم المنتخب ديمقراطيا في النيجر؟
اكتشفنا في تصريحات ماكرون الأحد أنه على اتصال هاتفي مع الرئيس المعزول بازوم، إلا أن الواقع السياسي لا يمكن بناؤه على الأقوال فقط، إذ لا يزال محتجزا من قبل قادة الانقلاب.
سيستمر رئيس الجمهورية في القول إنه يدعم بازوم في معركته السياسية، وهو ما أراه من دون معنى أو قيمة لأنه لم يفعل شيئا لإخراجه من السجن أو لترسيخ سلطة الدولة الشرعية في البلاد. وعلى العكس من ذلك، اختار ماكرون سحب جنوده وإجلاء سفيره بعد خطابات مغرورة كان يرددها في بعض الأحيان. ويؤسفني أن أصف نهاية الأمر بـ “الهزيمة السياسية”.
-
قال الرئيس ماكرون إنه لا يريد أن تكون فرنسا “رهينة للانقلابيين”، ما قراءتكم لهذه التصريحات؟
أعتبر أنه فشل وضعف سياسي وليس عسكريا، فبمجرد أن سمحت باريس للانقلاب بالسيطرة على زمام الأمور ولم تجعل جيشها يتدخل خلال الساعات الـ 24 الأولى، فقد مهدت الطريق أمام كل ما نشهده الآن رغم محاولتها “تخويف” الانقلابيين.
من جهة أخرى، يوجد عامل السكان المدنيين الذين استغلهم الانقلابيون لصالحهم. وهنا، أستذكر ما حدث في مقديشو في عام 1992 عندما قام الجنرال هايدي -الذي كان آنذاك منشقا مسلحا- بوضع النساء والأطفال في مراكز احتجاز أمام الجيش الفرنسي، حتى يتمكن رجال مليشياته من التوغل وسط المدنيين لإطلاق النار على الجنود، مما دفعهم إلى الانسحاب في الأخير.
-
هل سيعاد الجنود إلى فرنسا أم يعاد تمركزهم في أرجاء القارة الأفريقية؟
لا يمكن التنبؤ حتى الآن بقرار رئيس الجمهورية، والوضع الآن يشبه المعادلة التي يصعب فهمها، لكن القواعد العسكرية الأخرى في أفريقيا -بما في ذلك تشاد- ستستوعب بلا شك جزءا من القوات.
وعلى عكس الاتجاه السائد اليوم، لا أظن أن القوات الفرنسية ستنسحب من أفريقيا بشكل نهائي بل سيتم تقليص القواعد غير الدائمة -أي التي تجري فيها العمليات- وينتشر الجنود في دول أخرى، حيث يوجد المئات منهم في الغابون وساحل العاج، وألف جندي في تشاد ثم ألفين في جيبوتي.
-
ماذا سيتبقى لفرنسا بعد سلسلة الانسحابات من عدة دول أفريقية؟ وما إستراتيجيها المستقبلية تجاه هذه المستعمرات السابقة؟
بداية، لا يزال لدينا قواعد عسكرية حتى اليوم في السنغال وساحل العاج والغابون وتشاد وجيبوتي. وبالتالي، أعتقد أن باريس ستعتمد إدارة مشتركة لهذه القواعد الدائمة من خلال خلط القوات المحلية مع الفرنسية حتى لا تظهر في صورة “قوات احتلال”، بالاتفاق مع الحكومات المحلية.
ويتمحور السؤال الحقيقي هنا حول مكانة فرنسا في أفريقيا. وفي هذه الحالة، أشير إلى ما يردده عدد من السياسيين في فرنسا عند قولهم إن على الأفارقة اليوم إدارة شؤونهم الداخلية بأنفسهم وحلّ مشاكلهم الاقتصادية وحتى الأمنية دون مساعدة أي أطراف خارجية.
وفي آخر المطاف، أعتقد أن فرنسا فهمت جدية الموضوع وبدأت في الانسحاب شيئا فشيئا من المنطقة.
-
عندما انسحبت القوات الفرنسية من مالي قبل عامين، قيل آنذاك إنه من المستحيل أن تتفشى عدوى الدومينو إلى باقي دول المنطقة، فتوجهت قواتها نحو النيجر. فهل سنشهد السيناريو نفسه في دول أفريقية أخرى؟
لا أتوقع ذلك، لأننا نتحدث اليوم عن القواعد الفرنسية الدائمة في أفريقيا بموجب اتفاقيات قديمة -التي أعيد التفاوض بشأنها خلال رئاسة نيكولا ساركوزي- وهي على عكس القواعد الخاصة بالعمليات في مالي والنيجر.
وتملك فرنسا في داكار وأبيدجان والغابون وجيبوتي ثكنات قوية وقواعد أسست بموجب اتفاقيات منذ نحو 70 عاما مع الحكومات هناك، كما أن باريس تدفع الإيجار لهذه الدول، حتى أن جيبوتي طلبت منها الكثير من الأموال.
وبالتالي، لا أرى أن هذه القواعد ستختفي يوما ما، لكنني لا أستبعد أن تقل أهميتها مع مرور الوقت، كما هو الحال في السنغال على سبيل المثال، إذ لم يتبق هناك سوى 400 جندي يعملون في قاعدة بحرية مخصصة للاتصال.
وفيما يتعلق بساحل العاج وبنين، لا يمكننا التخلي عن القواعد هناك أو التقليل من قوتها، لأن التهديد الجهادي في شمال كوت ديفوار وخليج غينيا لا يزال مستمرا.
ورغم انقلاب الغابون، لا تزال القوات الفرنسية تقوم بمهامها في مركز تدريب كوماندوز والأمور تسير على ما يرام بالتعاون مع القوات المسلحة الغابونية.
ولا ننسى المصالح الاقتصادية الفرنسية أيضا في دولة نفطية كهذه وضرورة حماية باريس لمواطنيها في هذه البلدان.
أما بالنسبة لقاعدة تشاد، التي تأسست منذ عام 1986، فستبذل فرنسا كل ما في وسعها للحفاظ عليها لأنها تقع في قلب أفريقيا، سواء في منطقة الساحل أو جنوب الصحراء الكبرى.
-
عند التطرق إلى الحرب الأوكرانية، نرى أن خطاب الرئيس الفرنسي يتسم بالحزم والصرامة مع روسيا. لكن بعد قرار الانسحاب من النيجر، كيف ستحكم الدول الأوروبية على سياسة ماكرون الخارجية وقوة فرنسا العسكرية؟
أكاد أجزم أن فرنسا فقدت مصداقيتها عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية، لكن لا يمكن التشكيك بالقوة العسكرية، لأن الجيش الفرنسي ينشر عشرات الآلاف من رجاله ويقاتل مع حلف شمال الأطلسي.
وتجدر الإشارة إلى أن الدول الأوروبية لم تعر أي اهتمام لما يحدث في أفريقيا، مما جعل فرنسا تطالب أوروبا منذ سنوات بالمساعدة التي اقتصرت على المتعاونين العسكريين لتدريب الجيش المالي وإرسال بعض الطائرات. ونتيجة لذلك، وجدت باريس نفسها تلعب دور “شرطي أفريقيا” وحدها.
بالإضافة إلى ذلك، يتم تدريب الجيوش المحلية منذ الستينيات حتى تتمكن من خدمة الدولة التي ينتمون إليها. إلا أنه في نهاية المطاف، لا يوجد جيش أفريقي -منذ 80 عاما وحتى اليوم- قادر على إنجاز مهمة حماية الدولة، ربما باستثناء الجيش السنغالي.
في المقابل، أعتقد أن الأوروبيين سيكونون سعداء جدا بخروج فرنسا من النيجر، لكي تركز جهودها على الشأن الأوروبي وتعزز وجودها العسكري في أوروبا الشرقية وتهتم بقضايا مثل الهجرة غير النظامية. في حين سيعني ذلك أيضا نهاية النفوذ الاستعماري الفرنسي وفتح الأسواق أمام الصين وتركيا والمغرب.
والأهم من كل هذا هو ضرورة الاهتمام بمسألة تجديد سياسة فرنسا الأفريقية التي ظلت حبيسة الرفوف منذ عشرات السنوات.