في ذكرى المولد النبوي.. الأقصى يتطهر من اقتحامات المستوطنين
القدس المحتلة- من مدينة أم الفحم في الداخل الفلسطيني، شدّ جابر الحاج عوض الرحال نحو المسجد الأقصى ليستمتع بالأجواء الاستثنائية احتفالا بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقف عوض على إحدى المصاطب المقابلة للمصلى القبلي، وصدحت حنجرته بالإنشاد “طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع”.
ردد معه الأناشيد المصلون من حوله، وهو يقول لهم “هذا أعظم يوم في العام على الإطلاق، ففيه ولد الهدى.. ونحن نحيي المكان الذي تعطر بصلاته وبمعراجه إلى السماوات العلى”.
لم يكن عوض والمرددون معه وحدهم هناك، فمنذ ساعات الصباح الباكر اليوم الأربعاء، اكتظت أبواب البلدة القديمة في القدس -خاصة باب العامود والساهرة والأسباط- بالمصلين الوافدين إلى المسجد الأقصى المبارك، لإحياء ذكرى المولد النبوي الشريف في الرحاب الطاهرة.
داخل السور التاريخي، انتعشت أسواق العتيقة ومعها التجار الذي يجدون في المناسبات الدينية فرصة لتحريك الحركة الشرائية، فارتفعت أصوات الباعة لجذب أنظار المارة، خاصة أولئك الذين نصبوا بسطاتهم في الأزقة المؤدية إلى أولى القبلتين.
داخل باحات الأقصى انتشر عشرات آلاف المصلين، وجلب معظمهم ما لذ وطاب من الطعام والشراب لتوزيعه على المصلين، والجميع يطلب ترديد جملة واحد هي “الصلاة على رسول الله”.
روحانيات واحتفالات
كان ممن التف حول عوض، اللاجئ الفلسطيني محمود ضمرة الذي وصل القدس قادما من مخيم الجلزون شمال رام الله.
عن هذه الرحلة، قال ضمرة “لستُ غريبا هنا، فأنا أواظب منذ عقدين على الصلاة أسبوعيا في المسجد الأقصى، أتكئ على عكازي وأصر على الوصول لأن قلبي تعلق في المكان وجسدي ارتبط به”.
توافدُ المصلين فرادى وجماعات، مشهد أثلج صدر هذا المسن وصدور كل من يتمنون أن تمتلئ الساحات بالمصلين على مدار العام، ومن بين هؤلاء ميسون جبارين التي يعرف كرمها كل روّاد المسجد، فهي التي لا يمكن أن تدخل ساحات الأقصى فارغة اليدين.
منذ 15 عاما تتجه جبارين إلى مهوى قلبها 3 مرات أسبوعيا، وعن هذه الرحلة تقول “أسهر الليالي لأعد ما لذ وطاب لمحبي الأقصى، ولا أشعر بالراحة سوى عندما أنتهي من توزيع الطعام والقهوة، وبمناسبة مولد رسولنا الكريم قررتُ اليوم توزيع الحلويات على الكبار والسكاكر على الصغار”.
تطلب ميسون الصلاة على رسول الله من كل من يتذوق أطباقها، وتتبادل مع المصلين الابتسامة والتحايا، فهم الذين حفظوا ملامح وجهها ولذة مخبوزاتها عن ظهر قلب.
احتفالات رسمية
من الضفة الغربية ومدن الداخل الفلسطيني وأحياء القدس المختلفة، تجمع المصلون للإنصات لسيرة الرسول الكريم في احتفال مركزي نظمته دائرة الأوقاف الإسلامية تخللته كلمات ومدائح نبوية.
وخلال الحفل، التقت الجزيرة نت بمحمود عصفور القادم من غزة، الذي لم تسعفه الكلمات في وصف زيارته الأولى للمسجد الأقصى، فاكتفى بالقول “شعرت أنني خرجت من سجن كبير.. كأنني عصفور سجين فُتح القفص له وتمكن من التحليق لأول مرة”.
تضرع محمود في مصلى قبة الصخرة كثيرا، وقال إنه شعر للمرة الأولى في حياته بقرب شديد من الله في الرحاب المباركة.
ذكريات مؤلمة
المقدسية الثمانينية مريم البنّا تتجول ببصرها بين المصلين، الذين التفتوا لحرصها على إدخال مفتاح العودة وعلم فلسطين في كل قطعة ارتدتها، بما فيها حجاب الرأس.
نبشت الجزيرة نت مع هذه المسنة ذكرياتها مع اقتحام رئيس الوزارء الإسرائيلي السابق أرييل شارون المسجد الأقصى في مثل هذا اليوم قبل 23 عاما، عندما كان وقتها زعيما للمعارضة.
تقول مريم “كان يوم أسود في القدس، فيه سالت دماء المصلين”، وشاركت هي في نجدتهم وفي حمل بعضهم ونقلهم لعيادة المسجد وسيارات الإسعاف، مضيفة “كنت أسير بين المصلين وأسكب المياه على وجوههم دون وعي.. حاولتُ مساعدتهم لكن الحدث كان عظيما والمصاب جللا”.
وتحل هذا العام ذكرى انطلاقة شرارة الانتفاضة الثانية المعروفة بـ “انتفاضة الأقصى”، بالتزامن مع الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في المسجد الأقصى.
ففي صبيحة يوم الخميس 27 سبتمبر/أيلول عام 2000، اقتحم شارون المسجد الأقصى بحماية نحو 2000 من الجنود والقوات الخاصة، وبموافقة من رئيس الوزراء حينها إيهود باراك.
وأدى هذا الانتهاك الخطير لاندلاع انتفاضة استمرت 5 أعوام قتلت إسرائيل خلالها 4412 فلسطينيا، وأصيب نحو 49 ألفا، بينما قُتل 1100 إسرائيلي، بينهم 300 جندي، وجُرح نحو 4500 آخرين.
ابتهاج رغم المخاوف
أُسدل الستار عن الانتفاضة الثانية وكذلك عن الاحتفال بذكرى مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم لهذا العام، والذي أخذ خلاله المسجد فسحة من المستوطنين المقتحمين مع إغلاق باب المغاربة أمامهم اليوم.
لكنه لم يُسدل بعد عن موسم الأعياد اليهودية الأطول الذي انطلق في 17 سبتمبر/أيلول الجاري، وسيستمر حتى 7 أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
وتتجه العيون الآن نحو عيد العُرش (المظلة) الذي يسعى المتطرفون لإدخال القرابين النباتية خلال الاحتفال فيه إلى ساحات المسجد الأقصى.
لكن تلك المخاوف لم تمنع أطفال فلسطين عن الابتهاج بالمناسبة الكريمة، وكأنهم يعلنون بالفرحة مواصلة النضال والتمسك بالمقدسات.