مُسنان يهبان حياتهما للأقصى ويتحملان في سبيله صنوف العذاب
القدس المحتلة- غزا الشيب شعر رأسه وذقنه، واقتربت ملامحه من الشيخوخة أكثر، ليس بسبب الأمراض المزمنة أو هموم الحياة اليومية فحسب، بل بسبب استمرار بُعده القسري عن المسجد الأقصى المبارك أيضا.
في رحلة رباطه الممتدة منذ 13 عاما في هذا المكان المقدس وحوله، ذاق المسن خير شيمي (65 عاما) والمعروف بـ “أبو بكر شيمي” صنوف العذاب، لكن كلما ضاقت فسحة حريته أكثر، تعمّق تمسّكه بأولى القبلتين لأنه يرى في الدفاع عنها واجبا مقدسا على كل مسلم اختاره الله ليكون ضمن من يمكنهم الوصول والصلاة في هذا المكان.
كل من يقصد البلدة القديمة للقدس، لا بد أن يلتقي بهذا الرجل المبعد في معظم أيام السنة عن المسجد الأقصى، لكنه يرابط يوميا عند أبوابه وفي محيطه.
قبيل استئناف حديثه للجزيرة نت كان أبو بكر يساعد أحد أصحاب الباعة المتجولين على حمل بضاعته وترتيبها أمام باب الأسباط، أحد أبواب البلدة القديمة من القدس.
وبادر لمساعدة الفتى البائع الذي يصغره بعقود، ثم عاد للتجوال حاملا مسبحته مسترقا النظر بين الفينة والأخرى إلى ساحات المسجد التي لا يمكنه دخولها ويعجز عن أداء ركعة واحدة في رحابها بقوة الاحتلال.
رحلة رباط
ينحدر أبو بكر من قرية المَكر قضاء عكّا في الداخل الفلسطيني، ويقول إن الشرطة الإسرائيلية تعتبره “أكبر محرّض” بين المرابطين المبعدين عن المسجد الأقصى، ويرد على ذلك بالقول “سبحان الله.. أنا عنيد في هذه القضية، ولا أتنازل عن حقي في هذا المكان قيد أنملة، وهم يعتبرون ذلك تحريضا”.
وعن روتين حياته، قال إن يومه يبدأ قبل أذان الفجر بساعتين، وسواء كان مبعدا عن الأقصى أو لا، يخرج من منزله قبل موعد الصلاة بساعة كاملة.
يركن سيارته في موقف قريب ثم يكون أمامه 3 خيارات: الأول المكوث خارج أسوار البلدة القديمة في حال كان يخضع لعقوبة الإبعاد عنها كما هو حاله الآن، أو الصلاة قرب باب الأسباط أو باب “حطّة” في حال كان مبعدا عن المسجد الأقصى، أو محاولة الدخول إلى المسجد في حال كان مسموحا له بذلك.
“قد لا أنجح في دخول الأقصى وإن لم أكن مبعدا عنه بقرار قضائي، لأن دخولي إليه يخضع لمزاج الشرطة التي تتمركز على الأبواب والتي تحفظ ملامحي جيدا.. وبكل الأحوال لي شرف الصلاة على عتباته”.
وعن استهدافه مرارا بالضرب في منطقة الرأس، أضاف الشيمي أنه يلاحظ تآمر ضابط الشرطة مع الجنود قبيل الانقضاض عليه، وأنه بات يحفظ عن ظهر قلب الطريقة التي يتبعها هؤلاء في دفع وإسقاط وتثبيت المرابطين، معتقدين أن ذلك سيردعهم أو يثنيهم عن العودة في اليوم التالي، وهو ما لم يتحقق يوما.
“في موسم الأعياد اليهودية الأخير كان آلاف المستوطنين يجوبون القدس العتيقة ولم يتجاوز عدد المرابطين أمام باب السلسلة عدد 7، لكنني أشعر رغم ذلك بقوة غريبة وأنا لا أملك بارودة (سلاحا) ولا مدفعا.. سلاحي الوحيد هو عبارة الله أكبر”.
قبل أن يختتم حديثه للجزيرة نت أصرّ الرجل على القول “على أبواب الأقصى وفي كل زقاق بالبلدة القديمة أنا موجود.. سيرونني يوميا لأنني عنيد في الدفاع عن الأقصى ولن أملّ”.
المرابطة المقدسية نفيسة خويص: “مرابطة وثابتة على أبواب المسجد الأقصى، وأفديه بالروح والدم”. pic.twitter.com/sfvg2OUhza
— وكالة شهاب للأنباء (@ShehabAgency) October 1, 2023
الأقصى جنّتي
أمّ هذا الشيخ بالمصلين المبعدين عن المسجد الأقصى، وأولئك الذين منعوا من دخوله لتوفير اقتحامات “هادئة” للمستوطنين عدة مرات. ومن بين المبعدين المسنة المقدسية نفيسة خويص (70 عاما) التي لم تملّ هي الأخرى من مقارعة المستوطنين وشرطة وجيش الاحتلال.
“من شو بدي أخاف يمّا؟ عندما أتواجه معهم أنسى أنني أمام حكومة.. أشعر أنني شابة في العشرينيات وأنهم أقزام أمامي”، هكذا بدأت حديثها للجزيرة نت ثم أتبعت هذه الكلمات بهتاف “بالروح بالدم نفديك يا أقصى”.
ولنفيسة قصة مع هذا الهتاف وأحد المحققين الذي سألها يوما: أتفدين روحك لحجارة؟ فأجابته “أنت ترى الأقصى حجارة وأنا أراه روحا وجنّة”.
لذلك تصرُّ على إجابة كل من يهاتفها ويسألها عن مكانها في حال كانت داخل الأقصى بالقول “أنا في جنّتي، هل يخرج أحد من الجنّة؟ من يريد لقائي فليأتِ ويقابلني هنا”.
أكرم الله المرابطة المقدسية بمنزل يطلُّ على “جنّتها” أيضا، وبعربتها الكهربائية تصله خلال 3 دقائق، وبمجرد ترجلها منها يبدأ الكرُّ والفرُّ اليومي بينها وبين قوات الاحتلال التي تمنعها من الاقتراب من الأروقة المؤدية إلى أبواب المسجد.
“يعتدون عليّ بالدفع والضرب والسحل والشتائم النابية، لكنني أصر على الحضور خاصة عند باب السلسلة في مواسم الأعياد اليهودية، لأنني أريد أن أقهر المستوطن أثناء خروجه من المسجد الأقصى بالتكبير والقرآن.. هذا ما بوسعي فعله”.
لا تتغير نبرة التحدي في صوتها أبدا عندما تتحدث عن أهمية الرباط والدفاع عن أولى القبلتين، لكن صوتها يضعف ويخفت عندما تعبر عن حزنها في البعد القسري عن المسجد الأقصى، فتقول “يمّا أنا مش زعلانة على حالي فليفعلوا ما يشاؤون، كلّه يهون فداء للأقصى.. أنا همّي ووجعي يتلخصان في البعد عن هذا المسجد فقط”.
يعود أبو بكر الشيمي ونفيسة خويص إلى منزليهما ليس قبل أن يسدل الليل ستاره وتُغلق أبواب الأقصى، فيخلدان إلى النوم لساعات قليلة ثم يتجدد اللقاء الروحاني مع هذا المكان.
وهكذا تتوالى الأيام والفصول وتتبدل وجوه المصلين وملامحهم، وهما لا يبرحان حتى يبلغا الحلم بمكوث أبدي في الرحاب المباركة.