مُكفّن غزة يروي مشاهد صادمة: أشلاء الأطفال تطارد منامي
غزة- بعد أن جهّز أكفانا ضخمة تحتوي أشلاء متحللة لشهداء مفقودين، مكدسة بعضها فوق بعض، نادى على الناس لصلاة الجنازة عليها تمهيدا لدفنها في قبر جماعي. يسأله أحدهم “أين أدفن ابني، أنا من غزة، وقالوا لي إن المقبرة ممتلئة” فيجيب مشيرا إلى رجل آخر جاء لاستسلام جثمان ولده “اتبع هذا، وادفن معه”.
هكذا -بهدوء ظاهر- يجيب عن تساؤلات ذوي الشهداء الفلسطينيين، إنه الدكتور ياسر المُكنى بـ “أبو عمار” مُشرف مغسلة وثلاجات الشهداء في مستشفى شهداء الأقصى وسط قطاع غزة.
في حوار خاص للجزيرة نت، يقول “أبو عمار” بينما يدوّن كلمة مجهول على أحد الأكفان، إنه عاصر حروبا كثيرة، لكنه لم يرَ فظائع كتلك التي يراها الآن، مضيفا “لولا أن الله يُصبّرنا، ما صبرنا”.
-
العناوين الجانبية اخفاء
منذ متى وأنت تعمل في هذا المجال؟
أعمل منذ عام 2014، ضمن جمعية “قيراطان” الخيرية التطوعية، المتخصصة في تكريم الأموات، حِسبة لوجه الله.
-
بعد مرور أكثر من 35 يوما على الحرب الإسرائيلية حدثنا عن طبيعة عملك؟ وكم شهيدا تستقبلون يوميا؟
نعمل هنا منذ اليوم الأول للحرب، ونستقبل كميات كبيرة من الشهداء، عددهم الذي يصلنا في يوم واحد يفوق عدد الجثامين التي كانت تصلنا في شهر قبل الحرب. يوميا نستقبل من 70 إلى 100 شهيد، وأحيانا في بعض الأيام التي يكون فيها غارات شديدة نستقبل 200 إلى 250 شهيدا.
-
هل المغسلة وثلاجات الموتى جاهزة لاستقبال هذا العدد الكبير، وكيف تتدبرون أمركم؟
لا، الثلاجات لدينا مجهزة لاستقبال 10 جثث فقط، ولك أن تتخيل حينما تصلك 100 جثة معا. وأحيانا تأتينا جثامين في الليل، ويجب حفظها حتى الصباح، وكثيرا ما تأتي جثث مجهولة يتوجب حفظها عدة أيام حتى يتم التعرّف عليها. لذلك يتم الاستعانة بثلاجات آيس كريم، وثلاجات تجميد، ومع ذلك هذه الثلاجات طاقتها قليلة، ولا تستوعب الكم المطلوب.
حسب الشريعة الإسلامية، الأصل أن يتم تغسيل وتكفين الجثامين، ولكن في مثل هذه الظروف، وهذه الأعداد الكبيرة، وطبيعة الأجساد الممزقة والمقطعة، والجماجم المهشمة، يتعذر التغسيل، ونقوم بالتكفين فقط.
أنا مُقيم في المشفى، لا أغادره إلا لحاجة، ونحن نعمل على وتيرة واحدة، صباحا ومساءً، ونقوم بالواجب الشرعي تجاه الشهداء.
-
كم نسبة النساء والأطفال من مجمل الشهداء الذين تستقبلهم الثلاجات وكم نسب الجثامين السليمة؟
نسبة الأطفال والنساء لا تقل عن 60 إلى 65%، أغلب الشهداء من النساء والأطفال.
ونسبة الجثث السليمة 10% فقط، معظم الأجساد مقطعة وممزقة، و20% منها يصعُب التعرف عليه أساسا من كثرة التمزق والتقطيع، وضياع معالم الأشخاص.
-
كيف تتعاملون مع الجثامين الممزقة التي عادة ما تكون مجهولة الهوية؟ وهل هناك حالات غريبة؟
نحتفظ بالجثامين الممزقة بالثلاجات، ونحاول العثور على علامات مميزة فيها مثل لباس معين، أو رمز معين أو ماركة لباس معينة، أسورة مثلا أو معلم في الجسد، وأحيانا يتعرف الأهالي من خلال هذه الإشارات على أبنائهم. وفي الغالب لا يتم التعرف على هذه الأجساد، ويتم دفنهم في مقابر جماعية للمجهولين.
كل الجثامين غريبة، لم نعهد رؤية هذه المشاهد من قبل، لم نعهد رؤية هذه الأشلاء المقطعة، وهذه الجماجم المُفرّغة، أحيانا تأتي جماجم مُفرغة من الداخل، الرأس مكسور ومفرغ من الداخل تماما، لا يوجد به شيء، جماجم مُهشمة، أطفال مقطعو الأوصال، الذي رأيناه في هذا الحرب، كله غريب.
لم نتوقع يوما ما أن نرى مثل هذه المشاهد. يوما ما أتاني كيس أشلاء، وجدت به أكباد وبنكرياس وطحال، أول مرة في حياتي أرى هذه الأشلاء. أنا عاصرت حروبا سابقا، وهناك اختلاف كبير في إصابات الجثامين، وهذه المرة أعنف. التقطيع والأثر على الأجساد يختلف تماما عن سابقه، هناك تمزيق شديد وفتك شديد بالأجساد.
-
حدثنا عن روتين عملك اليومي؟ وكيف تتعامل مع سؤال الأهالي عن ذويهم؟
منذ الصباح الباكر، أبدأ باستقبال الأهالي الذين يتوافدون للتعرف على أبنائهم الشهداء، والجثامين التي يتعرف عليها يتم التعامل مباشرة معها وتكفينها وتجهيزها وتسليمها لذويهم لدفنها، وندوّن أسماءها في الكشوفات. ومن لا يتم التعرف عليه، يبقى في الثلاجات تمهيدا لدفنهم مع المجهولين.
سؤال الأهالي شيء يومي ومؤلم جدا، الناس لا يعرفون أين أبناؤهم ولا يستطيعون التعرف على الجثامين.
لدينا في دير البلح مقبرة رئيسية، وقد امتلأت عن بكرة أبيها، ولجأ الناس إلى حفر قبور جماعية لكن حاليا لا يوجد مساحة لقبر واحد، لذلك نوجّه الناس للبحث عن مقابر في المناطق الأخرى، مثل مخيمات البريج والمغازي وغيرها.
-
نلاحظ خياما خاصة لاستقبال جثامين الشهداء إلى جانب الثلاجات لماذا؟
لأن الطاقة الاستيعابية للمشفى ضعيفة جدا لاستيعاب هذا الكم الهائل من جثامين الشهداء، والجرحى معا، لذلك تم وضع هذه الخيمة الخارجية لوضع الجثامين فيه أولا، ليتعرف عليها الأهالي، حتى لا يُشكّل ضغطا داخل المستشفى، ثم في مرحلة ثانية يتم نقلها للثلاجات، أما الجرحى الذين ما زالوا على قيد الحياة فيتم إدخالهم للمستشفى للعلاج.
-
هل تعتقد أن جيش الاحتلال يستخدم أسلحة جديدة وخطيرة تترك آثارا على الجثامين؟
هذا صحيح، الأسلحة المستخدمة فتاكة وغير مسبوقة، الجثامين تصلنا مُقطعة، رائحة البارود والكبريت والغازات، وهناك غازات سامة تصدر عن الجثث. أحيانا نصاب بأمراض صدرية بسبب استنشاق الغازات المنبعثة من الجثث. وأنا شخصيا أصبت بأمراض بسبب هذا الأمر 3 مرات، وتعاطيت مضادات حيوية وعلاجات ومسكنات حتى أستطيع مواصلة العمل، لأنه تنبعث من الجثامين روائح وغازات خانقة، وحتى أن الكمامة لا تفيد في حجب هذه الروائح.
-
رائحة الجثث المتحللة تملأ المكان، كيف تتعاملون مع هذا الأمر؟
جراء قصف المنازل على رؤوس الناس، وعدم وجود معدات لرفع الأنقاض، تبقى الجثث أياما طويلة تحت المنازل المهدومة، وتأتينا أشلاء متحللة، ويتم التعامل معها وفق الشريعة الإسلامية، بما يحفظ كرامة الميت.
-
كيف تتدبرون توفير الكميات الكبيرة من الأكفان؟
الأصل في الشريعة الإسلامية أن يُكفن الميت بثلاث طبقات من القماش الأبيض، لكن الآن نُكفّن بطبقة واحدة، عملا بالعذر، لأن الكميات الاحتياطية من الأكفان بدأت في النفاد، وهذا دفعنا إلى هذا الإجراء الاضطراري. ولكي نستر الميت، نضع قطعة بلاستيكية لستر الكفن من الدماء، حتى يكفي الكفن الواحد لثلاثة أشخاص.
-
هل تخشون أيضا نفاد الوقود الذي يشغل مولدات المستشفى؟
طبعا، لأنه كارثة، فانقطاع الكهرباء سيؤثر على كل أقسام المستشفى بما فيه ثلاجات الموتى.
-
ما أكثر المشاهد التي آلمتك خلال الأسابيع الماضية؟
مشاهد الأطفال الشهداء، إنها شيء مؤلم جدا يُقطّع القلب، رؤية أجساد الأطفال الصغار ممزقة شيء مؤلم، وهذه المشاهد تتكرر أمام أعيننا، وأحلُم بها في الليل، وكأنها شريط فيديو يتكرر أمام عينيْ، نبكي عليهم ونبكي على حالنا، لكن لا نعرف ماذا نفعل.
-
هل لديكم مُغسلات ومُكفنات من النساء؟
نعم، لدينا طاقم من الرجال وآخر من النساء.
-
ما الذي يدفعك لتحمّل هذه الظروف القاسية من العمل؟
الحقيقة أننا نرى يوميا مشاهد أليمة، ولولا أن صبّرنا الله ما صبَرنا على رؤية هذه المشاهد، ولولا أن صبّرنا الله ما صبَرنا على تحمّل هذه الروائح، الأمر مؤلم جدا، نسأل الله أن يوقف هذه الحرب وأن يحفظ أهالي قطاع غزة. وردا على سؤالك، نحن فريق “قيراطان” نعمل حِسبة لوجه الله تعالى، لسنا موظفين ولسنا تابعين لأي جهة تنظيمية أو حزبية أو غيره، نعمل لوجه الله، نكرّم الموتى حسب تعاليم الشريعة الإسلامية، ولا نبتغي سوى الأجر من الله سبحانه.