أجبروا على النزوح.. أطباء غزة يواصلون مهمتهم الإنسانية في رفح
غزة- على الأرض وبأغطية متواضعة لا تقيهم البرد القارس، يعيش الطبيب محمد ماضي وأسرته، منذ نحو أسبوعين، في مركز للإيواء داخل مدرسة القدس الحكومية في مدينة رفح جنوب قطاع غزة.
لهذه المدرسة لجأ الطبيب محمد ماضي بأسرته، رفقة أطباء وممرضين من زملائه مع عائلاتهم، قبل 12 يوما، بعدما قضوا أياما عصيبة داخل مستشفى الرنتيسي في مدينة غزة، حيث أطبق الاحتلال حصاره المستشفى بالدبابات والآليات العسكرية.
وتزامن حصار المستشفى مع قصف جوي ومدفعي شكل أحزمة نارية حول أسواره، وتسبب في جروح جديدة لـ8 مصابين داخل غرفه وأقسامه.
3 أيام من الحصار والغارات الجوية والقصف المدفعي، وتهديدات إسرائيلية للطواقم الطبية والمرضى والجرحى، انتهت بإخلاء المستشفى بتدخل اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
ويقول أطباء وممرضون نازحون -للجزيرة نت-، “أُجبرنا على إخلاء المستشفى، بعدما رفضنا لأيام إخلاءه دون المرضى والجرحى، ونحو 2000 نازح من المدنيين يحتمون به”.
أيام عصيبة
“هي الأصعب في حياتي”، هكذا يصف محمد ماضي أيام الحصار الثلاثة داخل مستشفى الرنتيسي الذي لم يغادره منذ اليوم الأول للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ويقول للجزيرة نت “دخلت المستشفى في اليوم الأول للحرب، ولحقت بي أسرتي، وخرجنا منه مجبرين بعد توغل الدبابات وفرض حصار خانق حوله، بالتزامن مع قذائف تتساقط من حولنا وتنثر الموت والخوف”.
والتحقت بماضي أسرته المكونة من زوجته و6 أبناء بعدما دمرت غارات جوية إسرائيلية شقتين يمتلكهما في بناية سكنية شمال مدينة غزة، ويوضح “فضلت أن نبقى سويا بعدما استشعرت الخطر مبكرا بأن هذه الحرب مغايرة لكل حروب الاحتلال السابقة على غزة”.
قبيل حصار المستشفى تلقت إدارته وكغيرها من مستشفيات مدينة غزة وشمال القطاع، إنذارات إسرائيلية عبر الاتصالات الهاتفية وبإلقاء منشورات من الطائرات، بضرورة إخلائه.
ومع التوغل الإسرائيلي برا من شمال القطاع نحو مدينة غزة، كان المستشفى المجاور لمستشفيات أخرى في حي النصر، هدف الاحتلال بالحصار والاستهداف المباشر.
وأضاف ماضي أن الحركة من قسم لآخر ومن مبنى لآخر داخل أسوار المستشفى كانت مهمة صعبة ومحفوفة بمخاطر كثيرة، في ظل إطلاق نار من مسيرات إسرائيلية تحلق في أجواء المستشفى على مدار اللحظة، وتستهدف كل من يتحرك على الأرض.
تحديات ومعوقات
ومع أن مستشفى الرنتيسي متخصص بالأورام وسرطانات الأطفال، إلا أن تداعيات الحرب الإسرائيلية وأعداد الجرحى المهولة، جعلته يفتح أبوابه لتخفيف الضغط عن باقي المستشفيات العامة، خاصة مستشفى الشفاء الرئيسي، بحسب ماضي وهو مدير التمريض في المستشفى، وترأس قسما للجراحة تم افتتاحه للتعامل مع طوارئ الحرب.
ووفقا لماضي، اضطر المستشفى إلى وقف العمل بـ11 قسما تخصصيا، والإبقاء على 3 أقسام هي العناية المكثفة، وغسيل كلى الأطفال، والأورام، لمواكبة تداعيات الحرب على غزة، والتعامل مع حالة الطوارئ الناجمة عن شلال الدم الذي لا يتوقف، نتيجة الغارات الإسرائيلية جوا وبرا وبحرا.
ولأن المستشفى غير مؤهل للتعامل مع حالات الحروب، فقد واجه تحديات ومعوقات شديدة، ناجمة عن نقص الكوادر البشرية من الأطباء والتمريض، وعدم توفر الإمكانيات والمستلزمات الطبية اللازمة لتقديم الرعاية للجرحى، يقول محمد ماضي.
هذا الواقع دفع الممرضين محمود بردع وزوجته إلى التطوع في مستشفى الرنتيسي، حيث انتقلا إليه رفقة أطفالهما الستة، وخرجوا منه رفقة البقية، ونزحوا جنوبا نحو مدينة رفح، حيث يقيمون مع ماضي وأسرته وآخرين من طواقم المستشفى في مدرسة القدس الحكومية.
يقول بردع -للجزيرة نت- إن أياما من الرعب قضوها في مستشفى الرنتيسي، والموت كان قريبا منهم ليس فقط جراء الصواريخ والقذائف، وإنما جوعا وعطشا.
وأضاف أنهم اضطروا إلى خلط المياه المالحة بمياه طبية تُستخدم في عمليات غسيل الكلى للتخفيف من ملوحتها واستخدامها للشرب، بينما كانت حبات قليلة من التمر يوميا وجبتهم الأساسية.
تطوع ومساعدة
وبعد إجبارهم على إخلاء المستشفى، اختار بردع مرافقة صديقه ماضي نزوحا إلى مدينة رفح، ورغم هذه التجربة المريرة إلا أنهما وزملاء آخرين قرروا مواصلة أداء رسالتهم الطبية الإنسانية داخل مراكز الإيواء في مدارس حكومية بهذه المدينة، التي لجأ إليها أكثر من 300 ألف نازح، بحسب تقديرات رسمية.
وحوّل أطباء وممرضون في مدرسة القدس الحكومية غرفة صغيرة كانت تُستخدم مطبخا إلى عيادة، لتقديم خدمات رعاية طبية أولية لآلاف النازحين لها من منازلهم في مناطق خطرة في شرق مدينة رفح، أو من مدينة غزة وباقي مدن شمال القطاع.
وأوضح بردع أن أفراد طواقم مستشفى الرنتيسي الذين نزحوا إلى مدينة رفح، اتفقوا فيما بينهم على توزيع أنفسهم على مراكز إيواء داخل مدارس حكومية، لا تتلقى خدمات ومساعدات من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، والتخفيف عن كاهل مستشفى أبو يوسف النجار الوحيد في المدينة، عبر تقديم الرعاية الأولية للمرضى من النازحين.
وبأقل الإمكانيات يتعامل الأطباء يوميا مع عشرات الحالات، ويقول الدكتور ماضي إن الغرفة صغيرة للغاية وغير مؤهلة كعيادة طبية، ولا تحتوي إلا على القليل جدا من الأدوية والمستلزمات الطبية، وبحاجة إلى الكثير لتقديم رعاية أفضل للنازحين داخل المدرسة.
وبينما كان ماضي منشغلا في فحص طفل نازح مع أسرته من مناطق شرق مدينة رفح المتاخمة للسياج الأمني الإسرائيلي، أفاد بأن غالبية الحالات المرضية تعاني من النزلة المعوية والتهابات الصدر، والأمراض الجلدية كالجرب والجدري.
وأوضح أن كل هذه الأمراض ناجمة عن الازدحام الشديد، وتدني مستوى النظافة، وانعدام المياه الصالحة للشرب، وعدم توفر مرافق مؤهلة داخل مراكز الإيواء في المدارس لاستقبال هذه الأعداد الكبيرة من النازحين، وجلهم من الأطفال والنساء وكبار السن.
ويقول والد الطفل سليمان (3 أعوام)، صبحي عدوان -للجزيرة نت- إنه أنجبه وتوأمه بعد نحو 12 عاما من الزواج، ويخشى عليهما جراء الأوضاع الكارثية داخل مراكز الإيواء، بعدما اضطر إلى النزوح بأسرته من منزله شرق المدينة، بسبب الغارات الجوية والقصف المدفعي الإسرائيلي.