تهجير وتطهير.. ماذا وراء هدم الاحتلال المنازل القديمة بقرية فروش؟
نابلس- فوق أنقاض منزله المهدم في قرية فروش شرق مدينة نابلس شمال الضفة الغربية جلس المواطن الفلسطيني غسان أبو جيش يراقب بألم ما حل به من دمار على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي وجرّافاتها العسكرية.
وحوَّلت قوات الاحتلال بيت غسان لركام وسوَّته بالأرض بذريعة “البناء المخالف” لإجراءاتها العسكرية وقوانينها التي لا تعرف حدودا في تكدير عيش الفلسطينيين وملاحقتهم لتهجيرهم من أرضهم وتطهيرها بالكامل.
ورغم عمليات هدم كثيرة طالت مباني ومنشآت عديدة في قرية فروش بيت دجن قرب مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، إلا أن الهدم الأخير قبل أيام وُصف بأنه الأعنف والأكثر خطرا، كونه استهدف منازل مبنية قبل احتلال إسرائيل للضفة الغربية عام 1967، والتي تعد أوتاد الفلسطينيين التي تربطهم بأرضهم وممتلكاتهم، وبهدمها انتقلت إسرائيل من التهجير القسري للسكان إلى مرحلة التطهير الكامل للقرية الواقعة في الأغوار الوسطى.
منزل الطفولة والعمر
ومنزل أبو جيش (64عاما) واحد من 7 منازل هدمها الاحتلال إضافة لـ3 برك ماء زراعية، تنفيذا لإخطار “وقف بناء” إسرائيلي، كان الاحتلال قد أنذر به أهالي القرية في يوليو/تموز الماضي، ونفذه بدون أن يسمح للأهالي بمتابعة إجراءاتهم القانونية لمنع الهدم، مستغلا حالة الحرب على غزة وقانون الطوارئ الذي بات يعتمده لتنفيذ سياساته العدوانية.
بالنسبة لـ”أبو جيش” ليس البيت مجرد حيطان، ففيه ولد ونشأ مع أشقائه وشقيقاته وأبنائهم وقضوا طفولتهم وأيام حياتهم بحلوها ومرها، “ليقوم الاحتلال بطرفة عين بهدم كل ذلك وبدون مبرر، ويقول أبو جيش: “هذا ظلم كبير”؛ بينما يتحسس حجارة المنزل ويستمد منها صبرا وتخفيفا من هول المشهد.
ويضيف أبو جيش في السياق ذاته أن منزله بني عام 1958 أثناء الحكم الأردني للضفة الغربية، وكان وعائلته يدفعون ضرائب “مسقفات” للحكومة الأردنية، ويملكون إثبات ملكية (طابو) فيه من زمن الأردن، ومن جديد أضافوا بناء صغيرا من الطوب عند مدخل المنزل، وفورا أخطرهم الاحتلال بوقف البناء.
والأدهى أن الاحتلال -ووفق أبو جيش- لم يوقف البناء الحديث، بل هدمه وهدم معه المنزل القديم، وادعى أن البناء مخالف وواقع في أرض تصنَّف بأنها “خزينة دولة” وضمن مناطق “سي” الخاضعة للسيطرة العسكرية الإسرائيلية وفق اتفاق أوسلو، ولم يُمهلهم لمتابعة إجراءاتهم القانونية لإثبات ملكيتهم للمنزل.
تهجير متدرج
ويتساءل أبو جيش بقلق عن سر وتيرة الهدم المتصاعد في قريته التي يقطنها الآن حوالي ألف نسمة من أكثر من 6 آلاف مواطن كانوا يسكنون الفروش عام 1966، إذ شن الاحتلال خلال العامين 2022 و2023 فقط 5 عمليات هدم، طالت 18 منزلا ومسكنا والعديد من المنشآت الزراعية.
ولا يعتبر هذا الهدم مجرد إجراء للاحتلال برأي الشاب عدلي أبو جيش، بل “اجتثاث وتطهير للمنطقة من سكانها”، فهو يعتبر أن أي بناء أسمنتي يثبِّت المواطنين أكثر بأرضهم، وإلا كان اكتفى بهدم البناء الجديد الزائد ولم يهدمه مع القديم، “لكنه اتخذ ذلك ذريعة، بأنْ ترك الناس يضيفون البناء وهدم الكل”.
وفي وقت لا يسمح فيه الاحتلال بإضافة بناء جديد أو تطوير القديم يمنع أيضا وضع الكرفانات (البيوت المتنقلة) ويصادرها، وقد فعل ذلك، وأكثر ما يسمح به هو البناء الطيني المسقوف بالصفيح (الزينكو) وذلك ليسهل هدمه.
وتحوي القرية الآن حوالي 35 منزلا، طال الهدم الأخير 7 منها، إضافة لمنازل طينية قديمة اندثرت بفعل عوامل الطبيعة ولا يسمح الاحتلال بإعادة بنائها، ويحرم السكان من مياه قريتهم ويجفف الينابيع ويسرق المياه الجوفية، ويضع يده على الأرض؛ حيث تقلصت المساحات الزراعية المخصصة للرعي، وتراجعت الثروة الحيوانية أكثر من 80%، حسب الأهالي.
ومن نحو 14 ألف دونم (الدونم= ألف متر مربع) هي أراضي القرية، يمنع الاحتلال السكان من الوصول إلى 11 ألف، ويصنفها تحت مسميات “مناطق عسكرية وإطلاق نار” و”خزينة دولة” و”محميات طبيعية مغلقة”.
اقتلاع السكان
ويقول “عازم الحج محمد” رئيس مجلس “قروي فروش بيت دجن” إن القرية مغلقة على الفلسطينيين فقط، أما المستوطنون الذين يقيمون مستوطناتهم “مخورا” و”الحمرا” إضافة لمعسكر الجيش على أراضي القرية فيدخلونها ويباح لهم كل شيء.
وحفرت إسرائيل بأرض القرية بعد احتلالها 3 آبار ارتوازية عميقة تضخ بقدرة إنتاجية هائلة للبئر الواحد، تصل لحوالي 800 كوب بالساعة، بينما تنتج 5 آبار ارتوازية تملكها القرية قبل عام 1967 مجتمعة 250 كوبا في الساعة، أما الكهرباء فيأخذها السكان من مدرسة القرية؛ المبنى الوحيد المرخص إسرائيليا.
وحسب الحج محمد فكل ما يُحدثه الاحتلال في الفروش هو “سياسة منسجمة مع مشاريع إسرائيل بالتهجير واقتلاع السكان وتطبيق خطة آلون تمهيدا لمرحلة الضم النهائي”.
وتقوم خطة “إيغال آلون” وزير الزراعة الإسرائيلي الأسبق والمقرَّة منذ ستينيات القرن الماضي على عزل كامل الأغوار الفلسطينية (تشكل الأغوار ثلث مساحة الضفة الغربية المقدرة بـ5800 كيلومتر مربع) والتي تضم 88% منها الآن عبر عشرات المستوطنات ومعسكرات الجيش.
وتشير معطيات معهد البحوث التطبيقية (أريج) إلى أن الاحتلال بفعل عدوان جيشه ومستوطنيه هجَّر 28 تجمعا بدويا فلسطينيا، تضم أكثر من 2300 مواطن، وهدم نحو 950 منزلا ومنشأة تجارية وزراعية عام 2023.
تهجير قسري
ويعلق المسؤول القروي الحج محمد بأن الاحتلال يستهدف قريته الفروش بسبب موقعها الإستراتيجي الجغرافي وخصائصها الاقتصادية، حيث تربط شمال الضفة الغربية بجنوبها وتبعد عن نهر الأردن حوالي 10 كيلومترات، وتقع ضمن سلسلة جبال نابلس.
كما تعد تربتها خصبة جدا، كون القرية تتربع على أكبر خزان مائي للحوض الشرقي لفلسطين، والذي يعد ثاني أكبر حوض للمياه الجوفية بالضفة الغربية.
ويجمع سكان من فروش بيت دجن على أن عملية التهويد الكامل وضم القرية أضحت “مسألة وقت”، وذلك لتسارع عملية الاستيطان عبر المستوطنات المحيطة (مخورا والحمرا) ومشروع “كوكي” (مستوطن راعي) الذي بدأ قبل أقل من 3 سنوات وصادر حتى الآن ضعفي مساحة القرية، منها ومن المناطق المحيطة.
ويقول وليد عساف وزير هيئة الجدار والاستيطان السابق إن إسرائيل أرجأت عملية التهجير الكبير للفلسطينيين وتقوم بالتهجير القسري الداخلي، عبر إخلاء المواطنين من مناطق خلف الجدار ومن الأغوار (وهؤلاء يشكلون 40% من مساحة الضفة الغربية).
لكن كل ذلك لم يقف دون محاولة المواطن غسان أبو جيش وأهالي القرية إعادة بناء منازلهم مرات عدة، فلسان حالهم يقول “لن نبرح أرضا توارثناها عن الآباء والأجداد”.