أجهزة أمن السلطة الفلسطينية.. النشأة والواقع والمستقبل
مع اندلاع معركة طوفان الأقصى، تبلورت رؤية أمريكية تدعو إلى تسليم حكم قطاع غزة لسلطة فلسطينية مجددة، وهو ما ناقشه مستشار الأمن القومي جيك سوليفان ، و وزير الخارجية أنتوني بلينكن، و مستشار الأمن القومي لنائبة الرئيس الأمريكي فيليب غوردون، في اجتماعات منفصلة، مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.
في مطلع العام الجاري أعلن رئيس الوزراء الفلسطيني السابق محمد أشتية إطلاق مشروع لإعادة هيكلة قوى الأمن التي يبلغ عددها ثمانية أجهزة، وتشمل: الأمن الوطني، والشرطة المدنية، والمخابرات العامة، والأمن الوقائي، والاستخبارات العسـكرية، والحرس الرئاسي، والدفاع المدني، والضابطة الجمركية. وفي فبراير/شباط 2024 أعلن أشتية استقالة حكومته، وعُيّن اللواء عبد القادر التعمري في منصب مدير الأمن الوقائي ضمن مؤشرات على انطلاق مرحلة جديدة في مسيرة أجهزة أمن السلطة الفلسطينية التي يناهز عدد المنتسبين إليها حاليا 50 ألف فرد في الضفة الغربية وحدها فضلا عن 30 ألفا يتقاضون رواتبهم في غزة دون عمل منذ سيطرة حماس على القطاع، وهو ما يتطلب قراءة مسيرة تلك الأجهزة منذ تأسيسها عام 1994، ومدى قدرتها على ضمان الأمن الفلسطيني، والعقبات التي تعترض طريقها.
معضلة التأسيس بعد أوسلو
تأسس جيش التحرير الفلسطيني عام 1964 ليكُون جناحًا عسكريًّا لمنظمة التحرير، وتوزع كوادره إثر أحداث أيلول الأسود في الأردن عام 1970 ثم خروج ياسر عرفات ومقاتليه من لبنان عقب حرب 1982، بين عدة دول، من أبرزها الأردن ولبنان وتونس واليمن والسودان والجزائر والعراق.
تضمنت اتفاقية “أوسلو 1″ عام 1993 بين منظمة التحرير وإسرائيل، الاتفاق على بناء قوة شرطة فلسطينية لحفظ النظام العام والأمن الداخلي للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، على أن يتولى الجيش الإسرائيلي مسؤولية الدفاع ضد التهديدات الخارجية. ثم وُقّع اتفاق القاهرة عام 1994، ونص على انسحاب الاحتلال من عدة مناطق في قطاع غزة ومن مدينة أريحا لتبدأ المرحلة الأولى من الحكم الذاتي، كما حدد الاتفاق حجم قوات الأمن الفلسطينية بتسعة آلاف فرد من بينهم سبعة آلاف فرد مسموح بعودتهم من الخارج رفقة عائلاتهم. وتشكلت تلك القوات من أربعة فروع تشمل الشرطة المدنية، والأمن العام، والاستخبارات، والدفاع المدني. ثم قسّم اتفاق “أوسلو 2” عام 1995 الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق:
المنطقة “أ”، وتتمتع فيها السلطة الفلسطينية بمسؤوليات إدارية وأمنية، وتشمل مدن الضفة الثماني الكبرى، وقطاع غزة بأكمله باستثناء المستوطنات والمواقع العسكرية الإسرائيلية. المنطقة “ب”، وتتمتع فيها السلطة الفلسطينية بمسؤوليات إدارية فقط، وتشمل 450 بلدة وقرية. المنطقة “ج”، وتمثل 61 في المائة من مساحة الضفة، وتسيطر عليها إسرائيل أمنيا وإداريا.
وسمح الاتفاق بتشكيل جهازي الأمن الوقائي والأمن الرئاسي، وزيادة عدد أفراد قوات الأمن إلى 30 ألف فرد، يُوزع منهم 12 ألفا في الضفة الغربية، و18 ألفا في قطاع غزة.
وضعت تلك التطورات كوادر حركة فتح التي تمثل ركيزة منظمة التحرير، والتي شكل عناصرها أغلب أجهزة الأمن، أمام أزمة هوية كبرى. ففتح التي تأسست منظمةً سياسية ثورية عسكرية وقاتلت الاحتلال مدة ثلاثة عقود، أصبحت مطالبة بالعمل تحت لافتة “نبذ العنف ومكافحة الإرهاب”، وبالتنسيق الأمني مع الاحتلال في مواجهة الجماعات الفلسطينية الرافضة لاتفاق أوسلو، وذلك بحجة العمل على بناء مؤسسات تمهد لإقامة دولة فلسطينية معترف بها دوليا.
وأيضا برزت معضلة الداخل والخارج، فآلاف المقاتلين العائدين من الخارج رفقة عائلاتهم، سيحتاجون إلى رواتب وتأهيل وتوظيف ضمن هيكل يراعي أقدمية مشاركتهم في النضال المسلح، وذلك في مواجهة جيل جديد من أبناء الداخل انخرط في الانتفاضة الأولى، ويحتاج إلى مسارات عمل تكفل له الاستقرار والترقي الوظيفي ضمن السلطة الفلسطينية الوليدة.
أدى عرفات بشخصيته الكاريزمية دور المفصل الرابط بين كوادر السلطة، وأسس أجهزة الأمن وفق النهج الذي اعتاده في حقبة العمل الفدائي، فجعل مسؤولياتها متداخلة دون تسلل هرمي واضح، بحيث يتنافس بعضها مع بعض في تنفيذ المهام التي يكلفها بها، ولينشغل قادتها بالتنافس البيني. وتولى مساعدوه العائدون من الخارج قيادة الشرطة المدنية وقوات الأمن الوطني والأمن الرئاسي والاستخبارات العسكرية، في حين تركز كوادر الداخل في جهاز الأمن الوقائي، الذي قاده فرعه في غزة العقيد محمد دحلان، وقاد فرعه في الضفة الغربية العقيد جبريل الرجوب.
بحلول أواخر عام 2000، تضخم عدد الأجهزة الأمنية حتى وصل إلى 17 جهازا مختلفا بحجم 50 ألف فرد؛ مما جعل قائد حركة الجهاد الإسلامي رمضان شلح يقول “إذا فتحت نافذتك فإن الأمن الوقائي سيطل عليك؛ وإذا فتحت بابك فستجد جهاز الأمن الرئاسي؛ وإذا خرجت إلى حديقتك فستصطدم بالمخابرات العسكرية، وإذا خرجت إلى الشارع فستصادف المخابرات العامة”.
التنسيق الأمني وبداية الصدام مع حماس
عقب اتفاق أوسلو، تأسست لجنة مشتركة للتنسيق من ممثلين من الأجهزة الأمنية المعنية، بقيادة ضابط إسرائيلي برتبة عميد وآخر فلسطيني برتبة لواء، كما نُظمت دوريات مشتركة في مناطق التماس بين الجانبين. وهو ما ساهم في الحد من أنشطة المقاومة، فبحسب تصريح لرئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك شهد عام 1992 نحو 2400 هجوم في الضفة الغربية، ثم انخفض العدد إلى 140 هجوما عام 1999.
انعكس التعاون الأمني سلبا على علاقة السلطة الفلسطينية بفصائل المقاومة، وفي مقدمتها حركة حماس، وهو ما وصل إلى ذروته بإطلاق الشرطة النار على مظاهرة نظمتها حماس انطلاقا من أحد مساجد غزة في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1994؛ مما أسفر عن مقتل 13 متظاهرا، كذلك نفذ الأمن الوقائي حملة اعتقالات لعناصر حماس عام 1996 إثر شنّ كتائب القسام لهجمات انتقامية ردا على اغتيال قائدها يحيى عياش. لكن عرفات تجنب وصول الأزمة مع حماس إلى عتبة الاقتتال الأهلي، فمزج بين الضغط وغض الطرف، وسمح لمؤسسات حماس السياسية والاجتماعية والدعوية بالعمل في عهده.
من جهتها، حثت واشنطن السلطة الفلسطينية على إعطاء الأولوية لملف مكافحة الإرهاب، وهو ما أثّر في الطابع المؤسسي لعملها. وقدمت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية منذ عام 1996 عشرات ملايين الدولارات سنويًّا بشكل مباشر إلى الأجهزة الأمنية المختصة بمواجهة المقاومة الفلسطينية بحسب دراسة نشرها مركز أبحاث الكونغرس.
رغم التنسيق الأمني، لم تخل علاقة الأجهزة الأمنية الفلسطينية مع جيش الاحتلال من احتكاكات بسبب التجاوزات الإسرائيلية، وقد وصلت تلك الاحتكاكات إلى ذروتها عام 1996 إثر افتتاح نفق سياحي أسفل المسجد الأقصى، وهو ما أدى إلى احتجاجات عارمة تخللتها اشتباكات بين ضباط فلسطينيين وجيش الاحتلال أسفرت عن مقتل تسعة وستين فلسطينيًّا وأربعة عشر ضابطًا وجنديًّا إسرائيليًّا.
الانتفاضة الثانية وتدمير الأجهزة الأمنية الفلسطينية
عقب فشل قمة كامب ديفيد بمشاركة بيل كلينتون وإيهود باراك وياسر عرفات في التوصل إلى اتفاق سلام دائم، اقتحم زعيم المعارضة الإسرائيلية آنذاك آرييل شارون المسجد الأقصى في 28 سبتمبر 2000، فاندلعت احتجاجات عارمة تطورت إلى انتفاضة ثانية استمرت نحو خمس سنوات.
شهد اليوم التالي لزيارة شارون، مقتل الشرطي الإسرائيلي يوسف طباجة على يد شرطي فلسطيني أثناء دورية مشتركة بالقرب من قلقيلية، وتعثر التنسيق الأمني إثر انخراط العديد من أفراد قوات الأمن الفلسطينية في هجمات ضد الاحتلال، كما ساهموا في تأسيس كتائب شهداء الأقصى.
وفي المقابل برهنت إسرائيل على أن ما سمحت بتقديمه لأجهزة الأمن الفلسطينية من أسلحة وثكنات ومعدات يمكن تدميره بسهولة، فقصفت مقراتها بالطائرات، وتوغل جيش الاحتلال في المنطقة “أ”، ودمر كافة مركباتها وعتادها، واحتجز الآلاف من كوادرها للتحقيق معهم، وحاصر عرفات في جزء صغير من مقره الرئاسي في رام الله.
تعرض عرفات لضغوط أمريكية وأوروبية لتخويل جزء من صلاحياته لمساعديه، فأصدر عام 2002 مرسوما يقضي بإلحاق الشرطة والأمن الوقائي والدفاع المدني بوزارة الداخلية، كما عدّل القانون الأساسي الذي يعد بمثابة دستور للسلطة الفلسطينية عام 2003 لاستحداث منصب رئيس الوزراء، الذي شغله محمود عباس، لكن عرفات استمر في التواصل مع قادة الأجهزة الأمنية بشكل مباشر دون الرجوع إلى وزير الداخلية أو رئيس الوزراء، كما احتفظ لنفسه بتبعية المخابرات العامة وأمن الرئاسة والعديد من الأجهزة الأخرى.
مع وفاة عرفات عام 2004، خلفه محمود عباس (أبو مازن) الذي تبنى خريطة الطريق التي طرحتها الرباعية الدولية، الداعية إلى إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وتفكيك البنية التحتية لفصائل المقاومة، فأصدر عام 2005 قانونا ينظم عمل المخابرات العامة، وأعاد تشكيل مجلس الأمن القومي، وأصدر قانونا بتنظيم أجهزة الأمن لتعمل ضمن ثلاث مكونات أساسية تشمل قوات الأمن الوطني الخاضعة لوزير الأمن الوطني، وقوى الأمن الداخلي الخاضعة لوزير الداخلية، والمخابرات العامة الخاضعة للرئيس، كما ألحق جهاز الأمن الوقائي بقوى الأمن الداخلي. كذلك أحال عددا كبيرا من قادة الأجهزة الأمنية المرتبطين بعرفات إلى التقاعد، وعمل على تفكيك كتائب شهداء الأقصى عبر تعيين أفرادها في الأجهزة الأمنية، وحصل على عفو لهم من إسرائيل مقابل تسليم أسلحتهم، وقبولهم الاحتجاز فترة مؤقتة في مقرات فلسطينية.
دعمت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي محمود عباس، فاستحدثت واشنطن منصب “المنسق الأمني الأمريكي لإسرائيل والسلطة الفلسطينية”، وعينت الفريق ويليام وارد في مارس/آذار 2005 منسقًا لمجموعة ضمت 45 ضابطا من تسعة دول أعضاء في حلف الناتو، على أن يقدم المنسق تقاريره إلى وزير الخارجية الأمريكي بالتنسيق مع وزارة الدفاع، وتركزت مهمته على تنسيق الانسحاب الإسرائيلي الوشيك من غزة. وتولى الفريق كيث دايتون مهمة المنسق بدلا من وارد في ديسمبر/كانون الأول 2005، ومُد تفويضه بعد الانسحاب الإسرائيلي ليعمل على مساعدة الأجهزة الأمنية الفلسطينية عبر تصميم وتنفيذ خطط تحدد حجمها المطلوب وتسليحها وتدريبها بما يتوافق مع المخاوف الأمنية الإسرائيلية.
استمر دايتون في منصبه مدة خمس سنوات، وحصل على تمويل سنوي أمريكي متوسطه 100 مليون دولار. كما أرسل الاتحاد الأوروبي عام 2005 بعثة تدريب دائمة للشرطة، لكن بميزانية سنوية محدودة تراوحت بين ستة وعشرة ملايين يورو، وعملت على تدريب ستمئة شرطي فلسطيني سنويًّا، كما استقدمت بعض المتدربين لحضور دورات وورش عمل في أوروبا.
التركيز على الضفة بعد فقدان غزة
جرت الانتخابات التشريعية عام 2006، وحصلت حماس على أغلبية برلمانية أتاحت لها تشكيل الحكومة بما فيها وزارة الداخلية التي تشرف رسميا على أغلب أجهزة الأمن، فعلق المانحون الدوليون مساعداتهم للسلطة الفلسطينية، وقطع المنسق الأمني الأمريكي كافة الاتصالات مع الحكومة، واقتصر تعامله مع مكتب الرئيس، وركز أنشطته على تعزيز الحرس الرئاسي ليجعله قوة موازنة لحماس، في حين أصدر عباس مجموعة قرارات نقلت تبعية الأجهزة الأمنية إليه، فعلى سبيل المثال ألحق أفراد القوة البحرية بصفوف جهاز المخابرات العامة الخاضع لإشرافه المباشر، وعين محمد دحلان مستشارا للأمن القومي عام 2007 ليشرف على كافة الأجهزة الأمنية، وهو ما ردت عليه الحكومة بتشكيل “القوة التنفيذية” في غزة لتكُون هيئة تابعة لوزير الداخلية نظرا لرفض قوات الأمن تقديم تقاريرها إلى الوزير أو الالتزام بتعليماته.
أدت تلك الأجواء إلى تصاعد التوتر بين حماس وفتح، واشتداد التنافس بين الأجهزة الأمنية التي تحولت إلى إقطاعيات متنافسة، وهو ما قاد إلى مشهد الحسم العسكري الحمساوي في غزة بتاريخ 10 يونيو/حزيران 2007، الذي استهدف بالدرجة الأولى جهازي الأمن الوقائي والمخابرات العامة المحسوبين على محمد دحلان؛ مما دفع بقية قادة الأجهزة الأمنية إلى تجنب المشاركة في القتال. وإثر ذلك، أعلن أبو مازن تشكيل حكومة جديدة بقيادة سلام فياض، وخوله إعادة بناء قوات الأمن وفرض القانون والنظام في الضفة الغربية، فرفع فياض شعار “بندقية واحدة، قانون واحد، سلطة واحدة”، وأطلق عام 2008 برنامجًا تحفيزيًّا للتقاعد المبكر من أجهزة الأمن لتشجيع العناصر غير المرغوب فيها على التقاعد، وبالفعل تقاعد 6000 شرطي في ذات العام؛ مما سمح بتجنيد أفراد جدد ليس لديهم ماض سياسي أو نضالي.
صعود دايتون
تغيرت مهمة دايتون مجددا عام 2007 إثر سيطرة حماس على غزة لتركز على تحويل قوات الأمن الوطني إلى قوة درك متخصصة في مكافحة الشغب، في حين بقي جهاز الأمن الوقائي وجهاز المخابرات العامة خارج نطاق صلاحياته لاتصالهما مباشرة بالسي أي إيه، وخصصت واشنطن فيما بين 2007 و2010 مبلغ 392 مليون دولار لتمويل برنامج المساعدة الأمنية لقوات الأمن الفلسطينية، وساد تصور بأن بقاء السلطة الفلسطينية يتطلب القضاء على حماس في الضفة الغربية، فاعتقلت أجهزة الأمن المئات من كوادر حماس وأغلقت أو سيطرت على كافة المؤسسات والجمعيات التابعة لها.
أعد دايتون خطة تمتد من عام 2008 إلى 2012 لتدريب تسع كتائب من قوات الأمن الوطني الفلسطيني في الأردن تحت إشراف متعاقدين من شركة دينكورب الأمريكية، وواصل خلفاؤه تنفيذها، وذلك لنشر كتيبة في كل محافظة من محافظات الضفة الغربية باستثناء القدس، وتأهيل كتيبة من الحرس الرئاسي لتعمل احتياطيًّا عند الطوارئ. وكانت المحصلة تدريب 19 ألف شرطي خلال عشر سنوات، فضلا عن تدريب 10 آلاف آخرين على يد “مكتب التنسيق التابع للاتحاد الأوروبي لدعم الشرطة الفلسطينية” في مركز تدريب بأريحا موّلت بناءَه الأممُ المتحدة، وذلك قبل تدشين جامعة الاستقلال عام 2013 لتخريج ضباط الشرطة.
أنتجت تلك التدريبات حسب تعبير دايتون في خطاب ألقاه عام 2009 في معهد واشنطن التابع لإيباك “قوات تتعلم حفظ القانون والنظام لا محاربة إسرائيل، وأعدت شبابا جديدا تتراوح أعماره بين عشرين واثنين وعشرين سنة بدلا من جيل المناضلين القديم الذي أسس الأجهزة الأمنية”.
أثبتت تلك القوات الجديدة فاعليتها من المنظور الأمريكي بداية من حرب 2009 ضد غزة، حيث نجحت في السيطرة على التظاهرات في الضفة الغربية؛ مما سمح للجيش الإسرائيلي بنقل كتائب من قواته المنتشرة في الضفة إلى غلاف غزة بعد أن زالت مخاوفه من اندلاع انتفاضة ثالثة، واستمر الوضع على هذا المنوال في جولات الصراع اللاحقة. وخلال انتفاضة السكاكين 2015-2017 أرسلت أجهزة الأمن عناصرها إلى المدارس للبحث عن السكاكين في حقائب ظهور الطلاب، وطلبت من المعلمين إرسال تنبيهات بشأن الطلاب المتغيبين.
العقبات وآفاق المستقبل
ظل أبو مازن يمثل مركز ثقل السلطة الفلسطينية مع بقائه في منصبه لعقدين رغم انتهاء ولايته عام 2009، فاحتكر إصدار قرارات تنظم عمل أجهزة الأمن في ظل عدم انعقاد المجلس التشريعي منذ عام 2007. ولكن ساهم توقف مفاوضات السلام منذ عام 2014، ورفض حكومات الاحتلال المتعاقبة لمبدأ حل الدولتين، وإصرارها على السيطرة الأمنية الإسرائيلية على غرب نهر الأردن كله، في تلاشي الآمال التي واكبت تأسيس أجهزة أمن السلطة الفلسطينية باعتبارها خطوة على طريق بناء الدولة المستقلة، ثم جاءت إجراءات إدارة ترامب المتمثلة في الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ووقف تمويل الأونروا، وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن لتمثل ضربة جديدة لطموحات السلطة الفلسطينية.
ينظر الاحتلال إلى العلاقة مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية من منظور أمنه فقط؛ ولذا لا يسمح بتسليحها بعتاد متطور، ويهين أفرادها على حواجزه وخلال عمليات التوغل في المدن والمخيمات بالضفة، ويتعامل معها ضمن التنسيق الأمني الذي يحدث عمليا من جانب واحد، ويرتبط بتبادل المعلومات حول أنشطة المقاومة والاحتجاجات، وتجنب الاشتباك خلال توغلات جيش الاحتلال في المنطقة (أ)؛ وإعادة الإسرائيليين الذين يدخلون خطأً مناطق السلطة الفلسطينية، وهو ما يصنع مشهدا يقوض مشروعية أجهزة الأمن الفلسطينية في نظر المواطنين.
كذلك تساهم حوادث القمع المحلية من قبيل اعتقال ومقتل الناشط نزار بنات ضربًا على يد أفراد الأمن عام 2021، وفض اعتصامات المعلمين المتكررة، والاعتداء على طلبة الجامعات خلال انتخابات اتحاد الطلبة، في زيادة حجم الغضب الشعبي تجاه أجهزة الأمن. وهو ما يتواكب مع عجز السلطة عن حماية المواطنين من اعتداءات الاحتلال في أنحاء الضفة، ومن هدم المنازل ومصادرة الأراضي والتوسع في الاستيطان.
إن تلك الأوضاع دفعت بعض عناصر الأجهزة الأمنية مؤخرا إلى تنفيذ هجمات ضد جيش الاحتلال، كما في هجوم ضابط شرطة فلسطيني في 29 فبراير/شباط 2024 على محطة وقود بمستوطنة عيلي جنوب نابلس؛ مما أسفر عن مقتل جنديين إسرائيليين.
إن المعطيات السابقة تضع مستقبل السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية على المحك، وخاصة في ظل غموض مرحلة ما بعد أبي مازن، والصراع المحتمل على خلافته بين قادة حركة فتح، وانحدار شعبية السلطة الفلسطينية، والتعنت الإسرائيلي في التعامل معها.