الاخبار العاجلةسياسة

من شروقها لغروبها.. سرد محطات عمليات حفظ السلام الأممية

تشهد عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة تراجعا شديدا لأسباب عديدة من بينها عدم فعاليتها في علاج المهمات الموكلة إليها، والمصالح المتباينة بين القوى العظمى.

ويعتبر مجلس الأمن الدولي -طبقا لميثاق الأمم المتحدة- الجهة المنوط بها صون السلام والأمن الدوليين. وللنهوض بهذه المسؤولية، مُنح هذا المجلس صلاحيات واسعة لفرض العقوبات والتفويض باستخدام القوة العسكرية.

ومع ذلك، فإن هذا التصور الأساسي للأمم المتحدة باعتبارها أداة رئيسية للحفاظ على السلام والأمن الدوليين غالبًا ما سقط في مستنقع صراعات القوى العظمى خلال الحرب الباردة.

ولعل ندرة بعثات حفظ السلام -خلال العقود الأولى من عمر الأمم المتحدة- توضح كيف أثرت الحرب الباردة بين القطبين الأميركي والسوفياتي في مجلس الأمن بالسلب على نهوض الأمم المتحدة بمسؤوليتها لحفظ الأمن والسلم الدوليين، والذي أحد تجلياتها بعثات حفظ السلام.

غير أنه منذ نهاية الحرب الباردة، تعددت عمليات حفظ السلام حيث وصل عددها أكثر من 50، وقد شهدت مدا وجزرا من حيث عددها وطموحها.

ففي السنوات الأولى، كانت هذه العمليات متواضعة، وأعقبتها أخرى ضخمة ذات طموحات كبيرة، بعضها كان ناجحا، والآخر لم يكن كذلك، في حين بدت أخرى راكدة لدرجة أن البعض منها انهار انهيارا مروعا إما بسبب قرارات سيئة أو لظروف خارجية.

ولكن في الوقت الحالي يبدو أن المرحلة -التي اتسمت بنشاط ملحوظ منذ منتصف العقد الأول من القرن الـ 21- تقترب من نهايتها. ويبقي السؤال: ما الذي يمكن أن يسد هذه الفراغ؟

حقائق وأرقام

منذ بدء العملية الأولى عام 1948، قامت الأمم المتحدة بأكثر من 70 عملية لحفظ السلام في 50 دولة وإقليمًا، وشارك فيها أكثر من مليون من العسكريين والمدنيين، لقي 4300 مصرعهم أثناء الخدمة.

وفي فترة ما بعد الحرب الباردة، كان يوجد في المتوسط 15 عملية حفظ سلام نشطة سنويا، ووصلت إلى الذروة بـ20 بعثة حفظ سلام منتصف التسعينيات. وخلال هذه الفترة، تم نشر ما يقرب من 70 ألفا من العسكريين كل عام.

وبدأت فترة التخفيض أواخر التسعينيات، لكنها عادت للصعود في العقد الأول من القرن الـ21 عندما تمت الموافقة على العديد من العمليات الضخمة والطموحة، والتي وصلت إلى حدها الأقصى عام 2015 بنشر أكثر من 106 آلاف عسكري في 16 عملية حفظ سلام أممية.

والوقت الحالي، توجد 12 عملية حفظ سلام نشطة من بينها 6 عمليات في أفريقيا، وثلاث في الشرق الأوسط، واثنتان في أوروبا، وواحدة في آسيا، يقوم عليها أكثر من 75 ألف عسكري وأكثر من 13 ألف مدني.

وتبلغ ميزانية عمليات حفظ السلام الحالية العام المالي الحالي (2023/2024) 6.05 مليارات دولار.

وكثيراً ما أصاب الشلل مجلس الأمن الدولي بسبب خلافات القوى العظمى في العقود الأولى من عمر المنظمة، فمنذ العام 1945 إلى 1990 تم إقرار 18 عملية لحفظ السلام فقط.

وفي هذه الحقبة، لا سيما في سنواتها الأولى، كانت العمليات متواضعة بشكل عام من حيث الحجم والتفويض، حيث شملت مشاركة الدول الأعضاء بعسكريين لإنجاز مهام محدودة، مثل المراقبة والإبلاغ عن وقف إطلاق النار، مع استبعاد احتمالات لجوء هذه القوات لاستخدام القوة.

وهذه النوعية من العمليات ذات التفويض المحدود لم تكن مكلفة نسبيًا كما تطلبت عددًا قليلًا نسبيًا من الموظفين. مثال على ذلك هيئة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة “يو إن تي إس أو” (UNTSO) التي أنشئت عام 1948 ومجموعة مراقبي الأمم المتحدة العسكريين بالهند وباكستان “يو إن إم أو جي آي بي” (UNMOGIP) التي أنشئت عام 1949.

عمليات خطيرة

فيما بعد، بدأت الأمم المتحدة تتجه نحو عمليات أكثر خطورة، حيث تم نشر أول عملية مسلحة لحفظ السلام لمعالجة أزمة السويس “يو إن إي إف آي” (UNEFI) في مصر خمسينيات القرن العشرين، وتلاها بعد بضع سنوات عملية ضخمة بجمهورية الكونغو “أو إن يو سي” (ONUC) لضمان انسحاب القوات البلجيكية وإحلال السلام والاستقرار.

وأظهرت عملية الكونغو مخاطر تفويض قوات حفظ السلام الأممية لفرض السلام. ورغم أنها استمرت 4 سنوات فقط، فقد قُتل خلالها حوالي 250 من قوات حفظ السلام، مما يجعلها خامس أكثر العمليات دموية بتاريخ الأمم المتحدة.

وقد توجت خسائر المنظمة الدولية بمقتل أمينها العام آنذاك داغ همرشولد في حادث تحطم طائرة أثناء زيارته للكونغو لتفقد البعثة الأممية.

وترتب على خسائر المنظمة الدولية بالكونغو تقليص عمليات حفظ السلام لعقود. إلى أن تم إطلاق عمليات لحفظ السلام أواخر الستينيات والسبعينيات في مناطق مثل جمهورية الدومينيكان “دي أو إم آر إي بي” (DOMREP) واليمن “يو إن واي أو إم” (UNYOM).

ورغم تواضع تفويض عمليات حفظ السلام التقليدية، فإنها طالما اتسمت بالصبر والمثابرة. وعلى سبيل المثال، تستمر هيئة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة وفريق المراقبين الأمميين العسكريين بالهند وباكستان، وهما أقدم عمليتين لحفظ السلام تابعتين للأمم المتحدة.

ولعل هذه الميزة من الصبر والمثابرة تعكس قصورا في نفس الوقت، فاستمرارهم يقلل من الحوافز التي تدفع أطراف النزاع إلى التفاوض على حل دائم.

وفي هذا السياق، نجد أن أقدم 6 بعثات لحفظ السلام هي عمليات حفظ سلام تقليدية لنزاعات ظلت عقودا من دون حل، وهي: هيئة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة، وفريق مراقبي الأمم المتحدة العسكريين بالهند وباكستان، وقوة الأمم المتحدة لحفظ السلام في قبرص، وقوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك بالجولان، وقوة (يونيفيل) بلبنان، وبعثة الأممية الصحراء الغربية (مينورسو).

وبنهاية الحرب الباردة، انعكس تراجع حدة الصراع داخل مجلس الأمن على إنشاء العديد من العمليات. ففي عام 1989 كانت هناك 10 عمليات سلام أممية نشطة لحفظ السلام بجميع أنحاء العالم، وهو ضعف متوسط عددها في العقود السابقة. ومنذ عام 1990 كانت هناك 15 عملية حفظ سلام نشطة في وقت واحد.

اقرأ ايضاً
صحيفة إسرائيل اليوم: صراع أردني سعودي على الوصاية بالقدس

وقبل عام 1992 لم تكن الأمم المتحدة قد نشرت أكثر من 30 ألف جندي لحفظ السلام في وقت واحد. ومنذ ذلك الحين، تم نشر أكثر من 65 ألف جندي نظامي في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة سنويًا.

مهام معقدة وإخفاقات

في الوقت ذاته، تحولت طبيعة عمليات حفظ السلام الأممية من المهام التقليدية، مثل مراقبة وقف إطلاق النار، إلى مهام أكثر تعقيداً، مثل فرض السلام في بيئات غير مستقرة، ووقف الحروب داخل الدول، وبناء المؤسسات، وتعزيز حقوق الإنسان، ونزع سلاح المقاتلين. وأدى ذلك إلى زيادة كبيرة في العمليات وقوات حفظ السلام والنفقات.

وبالإضافة إلى ذلك، أدى الاستعداد لنشر العمليات في مواقف خطيرة -حيث لا يوجد سلام للحفاظ عليه من الأساس- إلى إنهاك قوات حفظ السلام الدولية كما حدث بالصومال عام 1993، أو أن تكون غير قادرة على حماية المدنيين مما أدى إلى الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994 “يو إن أو إم يو آر” (UNOMUR) وفي يوغسلافيا السابقة عام 1995.

وقد دفعت هذه الإخفاقات الدامية مجلس الأمن إلى تقييم الأخطاء التي حدثت وتقديم توصيات بشأن كيفية تجنبها بمزيد من التخطيط وتفويض أكثر واقعية، بناء على الإقرار بأن قوات حفظ السلام ليست مقاتلة بالدرجة الأولي.

ومع ذلك، دفعت الأوضاع غير المستقرة مرة أخرى مجلس الأمن إلى تكثيف عمليات حفظ السلام، بإنشاء بعثات في جمهورية أفريقيا الوسطى، والكونغو الديمقراطية، وهاييتي، ومالي، وجنوب السودان، والسودان وأماكن أخرى. مما رفع عدد العمليات ليصل في المتوسط إلى 15 عملية نشطة سنويا، كما ارتفع عدد العاملين بهذه العمليات إلى أكثر من 106 ألف عسكري في 16 عملية عام 2015.

لكن سجل عمليات حفظ السلام الأممية يتضمن قليلا من النجاحات في بلدان مثل ساحل العاج وليبيريا، والعديد من الإخفاقات في الصومال ورواندا ويوغسلافيا وجنوب السودان. وقد ظلت هاييتي دولة فاشلة حتى بعد نشر 6 عمليات لحفظ السلام منذ ما يقرب من ربع قرن، والتي كانت مهمتها الأساسية استعادة الاستقرار، وتأسيس الحكم الديمقراطي، وتعزيز حقوق الإنسان.

حفظ السلام في تراجع

منذ عام 2015، تراجع الاهتمام بعمليات حفظ السلام، حيث توجد حاليا 12 عملية نشطة لحفظ السلام تضم حوالي 75 ألف عسكري. وسيشهد هذا العدد تراجعا كبيرا بعد أن أنهى مجلس الأمن العملية التي استمرت عقدًا من الزمن في مالي بناء على طلب حكومتها، كما يتوقع أن تنتهي عملية حفظ السلام بالكونغو الديمقراطية عام 2024 بناءً على طلب الحكومة. وتعد المهمتان من بين أكبر مهمات الأمم المتحدة، إذ تضمان أكثر من 27 ألف عسكري.

وتمكن مجلس الأمن من تمديد ولايات عمليات حفظ سلام على الرغم من التوترات الجيوسياسية المتزايدة بين الأعضاء الدائمين في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا.

ومن المرجح أن تستمر العمليات طويلة الأجل مثل بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء بالصحراء الغربية، وقوة الأمم المتحدة لحفظ السلام في قبرص، وفريق مراقبي الأمم المتحدة العسكريين بالهند وباكستان، وهيئة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة.

وعلى نحو مماثل، تحظى المهمة في كوسوفو بدعم روسي، كما أن التوترات الأخيرة بين كوسوفو وصربيا تجعل من غير المرجح أن يضغط الأعضاء الآخرون بمجلس الأمن من أجل إنهائها. ولكن تظل هذه العمليات صغيرة الحجم نسبيا، غير مثيرة للجدل سياسيا، وغير مكلفة ماليا، وبالتالي لا تصلح للقياس عليها.

وقد أدى تصاعد الصراع السياسي داخل مجلس الأمن مؤخرا بين الولايات المتحدة من جانب وروسيا والصين من جانب آخر إلى فشل مجلس الأمن في تمديد العملية الإنسانية لسوريا بسبب الفيتو الروسي.

وبالإضافة إلى ذلك، أدت العلاقات الروسية مع الحكومات الأفريقية من خلال مجموعة فاغنر إلى تعقيد البيئة التي تعمل فيها بعثات حفظ السلام الأممية بما أسفر (ضمن ما أسفر) عن طلب مالي لإنهاء بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما).

وتواجه عمليات حفظ السلام الأممية بجمهورية أفريقيا الوسطى “إم آي إن يو إس سي إيه” (MINUSCA) وجنوب السودان “يو إن إم آي إس إس” (UNMISS) صعوبات متزايدة هي الأخرى، فقد تم اتهام قوات حفظ السلام بالفشل في حماية المدنيين في جمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب السودان بفشلها في منع الفوضى والعنف في أيً من البلدين.

وفي نفس السياق، فإن المظاهرات المناهضة للأمم المتحدة في جمهورية أفريقيا الوسطي و”التي من المرجح أنها بتحريض من مجموعة فاغنر قد تؤدي إلى دعوات مماثلة من بانغي لإنهاء العملية”.

وفي حال تدهور الموقف في الجنوب اللبناني، فمن المرجح أن تطالب إسرائيل أو الولايات المتحدة بتقليص حجم مهمة اليونيفيل أو إنهائها في المستقبل القريب، خاصة إذا تعذر زيادة تفويضها لمعالجة المخاوف الأمنية الحالية بسبب معارضة روسيا أو الصين.

ومن الواضح تراجع الرغبة في الموافقة على عمليات جديدة للأمم المتحدة، على الرغم من الصراعات والأوضاع غير المستقرة في إثيوبيا والسودان وهايتي وغيرها من الأماكن.

بدائل إقليمية

ومع ذلك، فإنه توجد بدائل لسد هذه الفراغ المتنامي لقوات حفظ السلام. فعلى سبيل المثال، ضغطت الولايات المتحدة على كينيا لحملها على قيادة قوة متعددة الجنسيات غير تابعة للأمم المتحدة للمساعدة في تحقيق الاستقرار في هايتي.

وصيف 2023، ناقش مجلس الأمن خيارات دعم الأمم المتحدة لبعثات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي.

وبعيدا عن توافر الإرادة السياسية للقوي الدولية الفاعلة لإقرار هذا التوجه، فإن التوصل إلى اتفاق بشأن توزيع التكلفة وإنشاء آليات رقابية للتدريب والانضباط سيكون بالغ الصعوبة.

والوقت الحالي، يبدو من المرجح أن عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة ستتراجع إلى مستويات لم نشهدها منذ الحرب الباردة لتنحصر مهمتها في الإشراف على عمليات طويلة الأمد قليلة المخاطر منخفضة التكاليف، غير محفوفة بجدل سياسيي، ولكنها لا تساهم في حل الصراعات التي أنشئت من أجلها.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى