سونكو والسنغاليون.. كيف صنعوا التغيير رغم العراقيل؟
في محيط أفريقي يتبنى البندقية عنوانا للتغيير في الغالب، استطاع السنغاليون بإصرار وبطريقة سلمية الدفع بشاب إلى سدة الحكم في انتخابات تحمل الرقم 12 في تاريخ البلاد.
فقد أقر الائتلاف الحاكم في السنغال يوم الاثنين 25 مارس/آذار 2024 رسميا بفوز مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي (44 عاما) في انتخابات الرئاسة، ليكون الأصغر سنا بين 5 رؤساء حكموا السنغال منذ الاستقلال.
ولم تكن نتيجة الانتخابات عادية، إذ شهدت البلاد أجواء من التوتر بعد محاولات تأجيل من قبل الرئيس ماكي سال إلى أن قضت المحكمة الدستورية بتنظيم الانتخابات في أسرع وقت، وبدا مدهشا للمراقبين فوز مرشح المعارضة فوزا ساحقا من الجولة الأولى، رغم أنه لم يخرج من السجن إلا قبل موعد الاقتراع بعشرة أيام فقط.
مسيرة التغيير
مهندس هذا التغيير شاب قرر مواجهة السلطة في بداية طريقه السياسي ودفع الثمن غاليا، حيث اتهم وأدين وسجن في قضايا وصفها بالكيدية، وعندما أقصي من الترشح للرئاسة، قدم رفيقه في الطموح والسجن بديلا عنه لخوض الاستحقاقات.
سمحت ظروف الوظيفة لعثمان سونكو، بصفته خبيرا في مؤسسة الضرائب، بالاطلاع الواسع على ما يسميها التجاوزات والاختلالات المهنية والإدارية في مؤسسات الدولة، وحمل منذ ذلك الوقت لواء التغيير وفضح الفساد، وأصبح في مواجهة السلطة الحاكمة التي كافأته بتجريده من الوظيفة، فقرر حينها أن يخوض المعركة في أوسع ميادينها.
أسس سونكو حزب “الوطنيون الأفارقة في السنغال من أجل العمل والأخلاق والأخوة” المعروف اختصارا بـ”باستيف”، وكان الشباب هم عماد المجموعة المؤسسة، وركز خطابه على قضايا الشباب وفئات المجتمع المهمشة والفقيرة.
وجد ذلك تجاوبا كبيرا وتأييدا كاسحا لدرجة أن البعض أطلق على سونكو لقب شي غيفارا أفريقيا، أو توماس سانكارا السنغال، وهو ما لفت إليه أنظار قطاعات كبيرة من المتعطشين للتغيير والمتحمسين لقيادة الشباب، حسب تعليق أحد المحللين لظاهرة سونكو.
وأصبح سونكو عضوا في البرلمان عام 2017، ثم تقدّم بملف ترشحه للرئاسة ليصبح أصغر مرشح رئاسي في 2019، وحل ثالثا بنسبة 15.67%، وبعد تعيين الوصيف في موقع رسمي أصبح سونكو زعيما للمعارضة.
لم يكن الطريق مفروشا بطبيعة الحال أمام سونكو ورفاقة، بل بذلت السطات الحاكمة في السنغال جهودا جبارة لإعاقة سونكو وحزبه “باستيف” عن تحقيق تقدم على حساب الائتلاف الحاكم وحلفائه.
وبرزت مخاوف حقيقية لدى السلطات بعد إخفاق الائتلاف الحاكم وفقدانه الأغلبية المطلقة في البرلمان لأول مرة في تاريخ الانتخابات السنغالية، مما دفعها للبحث عن طرق أخرى لإيقاف زحف شباب التغيير وتقليص مساحات تمدد سونكو وحزبه الفتي.
محاولات الاغتيال السياسي
في 3 مارس/آذار 2021 وجد سونكو نفسه أمام المحكمة بتهمة اغتصاب عاملة في أحد مراكز التدليك الصحي، نفى الرجل التهم الموجهة إليه، وعلى إثرها خرجت مظاهرات حاشدة يقودها أنصاره وراح ضحيتها عدد من القتلى والجرحى.
وعلى وقع تلك الاحتجاجات الشعبية والوساطات تم إخلاء سبيله، لكنه منع من المشاركة في الانتخابات التشريعية في يوليو/تموز 2022.
اعتبر زعيم المعارضة هذا الأمر “عملا دبّر بليل، نعرف الهدف منه، وهو اغتيالي معنويا وإقصائي من المنافسة السياسية”.
وفي حادثة عدم تمكنه من الترشح في الانتخابات البرلمانية بسبب ما قالت الجهات المعنية إنها مشكلات تقنية، عبّر سونكو كذلك عن سخطه قائلا “كل هذه محاولات لإضعاف المعارضة واستهداف رمز رئيسي فيها”.
رفض سونكو المبررات التي ساقتها المؤسسات المشرفة على الانتخابات، خاصة أن هذه المشكلة لم يواجهها غيره، مما عدّه استهدافا شخصيا له، لتعود المحكمة في وقت لاحق وتبرئه من هذه التهم.
ومرة أخرى، في يونيو/حزيران 2023، اندلعت في العاصمة داكار أعمال عنف عقب صدور حكم بسجن سونكو عامين بتهمة “إفساد الشباب”.
وبحسب مراقبين، فإن حشد سونكو للشباب سرّب الشكوك إلى صفوف الائتلاف الحاكم خشية نزوح أعداد كبيرة من الشباب إلى معسكر المعارضة، وهي قراءة مبكرة من الائتلاف الحاكم لهذه المعضلة لكنه لم يفلح في اجتراح الحل المتوازن.
هذه الاتهامات لم تثن سونكو عن الإصرار على مواصلة السير في طريق التغيير، كما أنها أكسبته شعبية كبيرة لضعف التهم وضعف أدلتها وحبكتها.
حلّ حزب “باستيف”
وفي 7 يوليو/تموز 2023، أعلن وزير الداخلية السنغالي أنطوان ديوم حلّ حزب “باستيف” وذلك بعيد اتهام عثمان سونكو بـ”التآمر لإشعال تمرد”، وهي التهمة التي ستمنعه لاحقا من الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة.
ودعا وزير الداخلية إلى تصفية ممتلكات الحزب وفقا للأحكام القانونية. وأيدت محكمة العدل التابعة لمجموعة الإيكواس هذا الحكم. وحينها قال خوان برانكو محامي سونكو إن “محكمة عدل الإيكواس تمنح ماكي سال إذنا بتدمير خصمه”.
وقبيل صدور قرار الحل، أمر قاض في محكمة بالعاصمة دكار بحبس المعارض السنغالي، ووجّه له اتهامات تشمل الدعوة إلى التمرد، وتقويض أمن الدولة، والارتباط بجماعة إرهابية، والتآمر على سلطة الدولة، وارتكاب أعمال تهدف إلى الإضرار بالأمن العام، وإحداث اضطرابات سياسية خطيرة، والسرقة.
وصف محامو سونكو وأنصاره هذه الاتهامات بأنها ملفقة و”مهزلة” ولها دوافع سياسية.
من أجل ولاية ثالثة
حاول الائتلاف الحاكم بعد الانتخابات البرلمانية التي جرت في 2023 تمرير تفسير مفاده أن حساب الولايتين الرئاسيتين يبدأ من تعديلات الدستور في 2019، لكي يُسمح للرئيس سال بالترشح لولاية ثالثة.
هذه المحاولات أثارت المعارضة، وعلى رأسها رئيس “باستيف” والذي فجر احتجاجات واسعة راح ضحيتها عدد غير قليل من المتظاهرين.
واجهت الأجهزة الأمنية الشارع السنغالي الرافض لتوجهات السلطة واستخدامها بآلة القمع، وزاد نشاط المعارضة بمزيد من التظاهر رغم الخسائر المادية والبشرية.
وفي ظل المنطقة المضطربة وحالة عدم اليقين التي ضربت السنغال، صمت الرئيس عن الإجابة على سؤال الترشح لولاية ثالثة، مما فُهم منه أنه ينوي الترشح، وبالتالي يذهب باتجاه ليّ عنق الدستور، وهي المخاوف التي حذرت منها المعارضة السنغالية.
وحسب “أفريكا فور برس”، أعلن رؤساء مجالس المدن ورؤساء مجالس المقاطعات رسميا عن تأييدهم للرئيس ماكي سال من خلال مطالبته بالترشح. ووقع 512 مسؤولا ملتمسا يدعو الرئيس سال إلى الترشح للانتخابات الرئاسية لعام 2024.
قرارات كسب الوقت وشرعنة التأجيل
وعندما فشلت كل تلك المحاولات، شرع الرئيس ومعسكره في تأجيل الانتخابات في محاولة لكسب الوقت وترتيب كثير من أوراق معسكره، فتم تمرير القرار عبر البرلمان.
وفي مقابلة مع أسوشيتد برس، قال الرئيس سال إن قراره بالتدخل كان ضروريا لمنع حدوث فوضى انتخابية أسوأ.
وأضاف “لا أريد أن أترك خلفي بلدا سيغرق على الفور في صعوبات كبيرة.. أقول الآن إنني سأعمل من أجل توفير الظروف التي تسمح للبلاد بأن تكون سلمية.. فلنجر جميعا مناقشات شاملة قبل أن نذهب إلى الانتخابات”.
لكن المجلس الدستوري أبطل القرار، ووجّه بضرورة إجراء الانتخابات قبل نهاية ولاية الرئيس في الثاني من أبريل/نيسان 2024.
وفي آخر المحاولات التي وصفت بأنها محاولة لشرعنة التأجيل، دعا الرئيس سال إلى عقد حوار وطني يتم الاتفاق فيه على حل الخلافات وتوقيت الانتخابات، حيث اقترح بداية يونيو/حزيران 2024، ولكن المقترح رفضه 16 من أصل 19 مرشحا للرئاسة.
كما رفضه المجلس الدستوري مرة أخرى، واعتبر إجراء الانتخابات قبل نهاية ولاية الرئيس أمرا حتميا، مما حاصر الرئيس من كافة الاتجاهات ليعلن إذعانه للقانون ورغبة الشارع السنغالي.
إنقاذ ديمقراطية تواجه خطرا
يقول رئيس مركز الأبحاث السنغالي “أفريكاجوم” أبيون تيني إن السنغاليين عانوا صدمة في الفترة بين عامي 2012 و2023، وأنتج هذا الأمر شعورا قويا ضد نظام ماكي سال، وشعورا بالإحباط ورغبة في الانتقام.
ويتابع أن الكثير من السنغاليين نظروا إلى عثمان سونكو وباسيرو فاي على أنهما شريان حياة لإنقاذ الديمقراطية التي تواجه خطرا في بلدهم، كما أظهرت الأزمة السياسية ثغرات ضعف في معسكر الرئيس.
وعندما تواجه المعارضة أشكالا من صنوف المضايقات ومحاولات التغييب والتشتيت، عادة ما تستسلم للحصار والمضايقات التي تفرضها الأنظمة الحاكمة في أفريقيا.
ولكن سونكو ورفاقه في “باستيف” تعاملوا بطريقة مغايرة، فلم يتنازلوا عن المشاركة في الاستحقاقات الرئاسية رغم الزج بهم في السجون، واستطاعوا توظيف نقاط ضعف الائتلاف الحاكم لصالح أوراقهم بشكل كبير.
الشعب يعاقب الائتلاف الحاكم
لقد تبنت السنغال التعددية السياسية والتداول السلمي على السلطة في 1978، وهي بهذا قد سبقت بقية الدول الأفريقية التي تبنت التعددية السياسية في 1990.
وفي عام 2024 سجلت سبقا جديدا في التجديد والتغيير وتأكيد قبول رغبة الشعب إذا أراد أن تكون له الكلمة، وربما تلهم أفريقيا أيضا هذه المرة.
لقد اعتمد الرئيس المنتخب حديثا باسيرو ديوماي فاي على الشعبية الجارفة للزعيم سونكو وسط الشباب، مؤكدا أن معركته هي معركة رفيقه.
وقد كان له ما أراد، كما أن وعي الناخبين كان له دور كبير في ذلك، إذ صرح العديد من الناخبين في استطلاع صحفي عند سؤالهم عمن صوتوا له بأنهم “فخورون بتصويتهم لفاي لكي يفوز سونكو”.
انتهى العرس الديمقراطي السنغالي الذي لم يترشح فيه لأول مرة الرئيس المنتهية ولايته ولم يكن فيه الرئيس المنتخب مسؤولا سابقا في الحكومة.
وإلى جانب كونه الرئيس الأصغر سنا في تاريخ السنغال، فإن باسيرو فاي رجل من عامة الناس ولا ينحدر من الطبقات المرموقة في البلاد.
ووفق مراقبين، فإن هذه الانتخابات كانت درسا بليغا يقدمه الشعب السنغالي لشعوب القارة، في رابع انتقال ديمقراطي وثاني تحوّل حقيقي منذ 1978، كان شعاره التغيير السلمي عبر صناديق الاقتراع وليس عبر فوهات المدافع.