منازلة بلا قفازات بين إيران وإسرائيل.. حدود الضبط والتصعيد
دخلت إيران ساحة القتال المباشر مع إسرائيل “من دون قفازات”، ردا على ضربة قنصليتها في دمشق. وكان الرد مباشرا وواسعا ومؤثرا سياسيا وربما عسكريا، رغم المزاعم الإسرائيلية بأنها أسقطت 99% من المسيرات والصواريخ، لكن طهرن التي احترفت سياسة اللعب على حافة الهاوية وقياس خطواتها جيدا، غادرت “سياسة الصبر الإستراتيجي” على إسرائيل بشكل مضبوط ومحسوب.
وفق ما نقلته صحيفة نيويورك تايمز الأميركية عن مسؤولين إسرائيليين، أطلقت إيران خلال هجومها 185 طائرة مسيرة من مختلف الأنواع و110 صواريخ أرض أرض و36 صاروخ كروز، واستمر الهجوم لمدة 5 ساعات، واستهدف بالأساس قواعد وبنى عسكرية، وتحاشى الأهداف الاقتصادية أو المدنيّة.
وقال موقع بوليتيكو الأميركي من جهته إن هذه الهجمات “أخرجت المواجهات بين إيران وإسرائيل من الظل ومن خلال الوكلاء إلى العلن بشكل صريح ومباشر”، وإن “الرد يمكن أن يقود إلى تصعيد كبير في المنطقة”.
ولم تنشر إسرائيل صورا عن الهجوم الإيراني، وقللت من شأنه، وفرضت الرقابة العسكريّة الإسرائيلية تعتيما كاملا على ما حصل. في المقابل تشير إيران إلى أن الضربات حققت أهدافها، لكن الإعلام الإسرائيلي يجمع على أن ما بعد الضربة الإيرانية سيكون مرحلة مختلفة عما قبلها.
كثرت التكهنات قبل الضربة عن حجمها ومكانها. كان يمكن لإيران أن ترد بشكل متماثل ضد مصالح إسرائيلية في الخارج أو أهداف بحرية إسرائيلية أو مواقع تعد خارج السيادة الإسرائيلية المباشرة، لكنها اختارت الرد المباشر في رسائل مباشرة أيضا.
اعتمدت إيران قبيل الضربة سياسة تسخين الجبهة لاحتواء أي ردود غير محسوبة خصوصا من الولايات المتحدة ودول الجوار، وكانت واشنطن على علم -عبر السفارة السويسرية- بتوقيت الضربة وحجمها، كما تم إبلاغ دول الجوار قبل 72 ساعة من العملية، وفقما أفادت به التقارير وتصريحات المسؤولين الإيرانيين.
حسابات الفرصة وحدود الرد
أدركت إيران أن ضربة القنصلية في دمشق كانت فرصة للرد المباشر، ليس عليها فقط بل على الهجمات الإسرائيلية المتكررة منذ سنوات، وأن تأخيره إلى أجل غير مسمى أو عدم الرد مطلقا يحمل مخاطر إستراتيجية ليس أقلها “فقدان هيبتها” كقوة إقليمية ومنح إسرائيل الضوء الأخضر للتمادي وخسارة ما بدا “الذريعة” التي قد لا تكرر، كما أن حساباته الآنية بناء على الوضع القائم في المنطقة رجحت أن تكون الضربة أقل تكلفة سياسيا وعسكريا وإستراتيجيا.
وكان الرد بذلك مبنيا على استبعاد منطق “ابتلاع” الضربة الإسرائيلية وعدم مواصلة سياسة الصبر الإستراتيجي، لكنه بني على عوامل وحسابات تكتيكية وإستراتيجية أيضا من أهمها:
- جاء الرد الإيراني على إسرائيل في خضم الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وهو بالتالي جزء من الصراع مع إسرائيل، مما يعد انخراطا مباشرا في الدفاع عن القضية الفلسطينية.
- الرد الإيراني سيحظى بترحيب ودعم شعبي إيراني وعربي أيضا في ظل المجازر التي ترتكبها إسرائيل.
- عدم الرد المباشر -خصوصا في ظل التهديدات الإيرانية السابقة- سيجعل إيران في مرمى الانتقادات الشعبية ويزيد الضغوط عليها.
- الضربة الإسرائيلية واغتيال قادة إيرانيين في مقر القنصلية كان هجوما إسرائيليا مباشرا على إيران في علاقة بـ”محور المقاومة”، وبالتالي يستوجب ردا مباشرا وليس عن طريق “الوكلاء”.
- أدركت إيران أن إدارة الحرب مع إسرائيل عن طريق “محور المقاومة” لم تعد مقنعة لأطراف عدة خصوصا وأن حلفاءها في سوريا واليمن ولبنان يتلقون ضربات مستمرة من الولايات المتحدة وإسرائيل.
- إسرائيل تعدّ في أشد لحظات ضعفها، عطفا على مجريات الحرب على غزة والجبهة الداخلية مفككة، ولم يكن هناك إجماع عسكري أو سياسي إسرائيلي على ضربة القنصلية في دمشق، والتي سجلت كسقطة أخرى لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
- وضعت إيران في حساباتها الإستراتيجية أن توجيه ضربة إلى إسرائيل في الوقت الحالي سيكون في وقت يعاني فيه نتنياهو من أسوأ وضع له منذ 6 أشهر، وبالتالي ستكون ضربة له أيضا.
- هناك لحظة شكوك عميقة بين إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي، ولم تكن الولايات المتحدة راضية عن ضربة القنصلية في دمشق، وعن تمادي تل أبيب في الحرب على قطاع غزة وتصرفاتها بشكل عام.
- ترجح إيران أن الولايات المتحدة ستلجم إسرائيل عن أي رد غير محسوب على الضربة خوفا من الانزلاق إلى حرب إقليمية لا تريدها واشنطن وكذلك الدول الحليفة لإسرائيل، وأرفقت ذلك بتحذيرات للولايات المتحدة في التمادي في دعم إسرائيل.
- رجحت إيران أن يسود “منطق واحدة بواحدة” بينها وبين إسرائيل، على اعتبار أن الوضع الدولي لا يحتمل حربا شاملة أخرى في منطقة معقدة تضاف إلى الحرب في أوكرانيا وفي قطاع غزة.
- رجحت إيران أن أي رد إسرائيلي -إن حصل- سيكون بدوره محسوبا وموجها ويمكن التعامل معه واحتواؤه.
- أدركت إيران أن تدخلها المباشر سيخلق معادلة ردع جديدة، مع دخول جبهة أخرى كبيرة ووازنة على ساحة الصراع مع إسرائيل، مما سيكون له حساباته الدقيقة في الغرب.
معادلة جديدة وضغوط على إسرائيل
يشير محللون إلى أن الهجوم الإيراني غير المسبوق على إسرائيل يؤسس بالضرورة لمعادلة جديدة في المنطقة، ولم يكن مجرد تسجيل رد اعتبار لطهران أو ردع إسرائيل عن التمادي في هجماتها على مصالحها، فهو بحسابات الصراع مع إسرائيل منذ عملية “طوفان الأقصى” يعد إسفينا جديدا في نظرية الأمن الإسرائيلية.
فقد أدى الرد الإيراني المباشر -بقطع النظر عن تأثيره العسكري- إلى إضافة تهديد أقوى لعمق إسرائيل الجغرافي، وبحسابات القوة العسكرية الإيرانية، قد يكون أي هجوم آخر أكثر قوة وأكثر إيلاما لإسرائيل.
وفي معادلة ما بعد “طوفان الأقصى”، مع إضافة الرد الإيراني، تحولت إسرائيل إلى ساحة حرب بجبهات متعددة بكل ما يعنيه ذلك من ضغوط على الجبهة الداخلية، التي لم تعد تنعم بالاسترخاء الأمني في وقت تتحرك في الآلة العسكرية الإسرائيلية في كل اتجاه.
وتضاف الضربة الإيرانية إلى سلسلة الهواجس الأمنية التي تحكم المجتمع الإسرائيلي الذي لم يعد يشعر بالأمان خصوصا منذ ضربة “طوفان الأقصى”، ولم يعد يؤمن بمقولة “الجيش الذي يحمي الشعب”، مما يضرب بعنف نظرية الاستقرار على الأرض ويفاقم النزوع إلى “الهروب الكبير”.
ثم إن الحروب الخاطفة والمحدودة لم تعد سلاحا إسرائيليا رادعا، إذ دخلت إسرائيل تقريبا في حرب شاملة، مما يفاقم خسائرها الاقتصادية، إذ بلغت تكلفة اعتراض الهجوم الإيراني فحسب نحو 1.3 مليار دولار، وفق صحيفة يديعوت أحرنوت، تضاف إلى خسائر قدرت بأكثر من 70 مليار دولار منذ “طوفان الأقصى”.
وقد أكدت الضربة الإيرانية، وما قبلها، أن المشروع الإسرائيلي ما زال يعتمد على حماية القوى الكبرى التي رعته سياسيا وأمنيا وعسكريا، خصوصا مع تدخل الولايات المتحدة وبريطانيا في إسقاط معظم الصواريخ والمسيرات التي أطلقتها إيران.
حسابات إسرائيل المعقدة
يطرح العديد من المحللين مدى استفادة رئيس الوزراء الإسرائيلي من الضربة الإيرانية في هذا التوقيت لترميم صورته الداخلية والخارجية، خصوصا أنه كان دائم الربط بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإيران، وتصوير الحركة على أنها إحدى أذرعها في المنطقة.
ويرجح مراقبون أن يعود نتنياهو إلى سردية تصوير إسرائيل بعد الهجوم الإيراني على أنها “الضحية” لاكتساب شرعية جديدة داخل إسرائيل، واسترجاع التعاطف خصوصا من الإدارة الأميركية، لكن محللين إسرائيليين يرون أنه فقد مصداقيته نهائيا بعد “الهزيمة الإستراتيجية” في غزة.
كما أن صحيفة نيويورك تايمز الأميركية أشارت إلى أن الرئيس بايدن فقد بدوره ثقته في نتنياهو، وعبّر سرا عن قلقه من محاولة نتنياهو “جرّ الولايات المتحدة، عميقاً، في صراع واسع”.
ويشير محللون إلى أن ردا سرائيليا على الهجوم الإيراني سيبقى محكوما أساسا بالموقف الأميركي وبحسابات واشنطن والرئيس جو بايدن التي تتراوح بين حساسية الوضع في المنطقة وبين حسابات انتخابية.
وأورد موقع أكسيوس عن مصادر رسمية أميركية أن الرئيس بايدن حذر نتنياهو خلال محادثة هاتفية من أن الولايات المتحدة لن تشارك إسرائيل في هجوم مضاد على إيران.
وبينما تتواصل الولايات المتحدة بشكل مستمر مع إيران -عبر مكتب رعاية المصالح في السفارة السويسرية- وتؤكد أن عدم احتواء الصراع قد يؤدي إلى وضع كارثي في المنطقة، يحذر مسؤولون في المنطقة من أن التصعيد قد يقود إلى حرب واسعة.
من جهتها، أشارت صحيفة أوبزرفر البريطانية إلى أن “مصير الشرق الأوسط معلّقٌ في الهواء، في الوقت الذي تفكر فيه إسرائيل بما ستقوم به من رد على الهجوم الإيراني”.
كما رسمت صحيفة تلغراف بدورها احتمالات للرد الإسرائيلي على الهجمات الإيرانية، مشيرة إلى أنه قد يشمل شن غارات جوية على قواعد عسكرية أو مقار حكومية، أو ضربات على مقر الحرس الثوري الإيراني أو أمكان وجوده حول إيران، “وعندها ربما يوقف الجانبان الأعمال العدائية، مع شعور كل طرف بأنه أخذ بثأره”.
وبينما يدعو مسؤولون إسرائيليون إلى شن “هجوم كبير” على إيران قد يشمل البرنامج النووي، يرى آخرون أن على إسرائيل أن تعدّ ما حدث السبت الماضي انتصارا بعد إسقاط جميع الصواريخ والمسيرات الإيرانية تقريبا دون أن يكون لها تأثير يذكر.
وفي ضوء المواقف الدولية وعدم تحمس الولايات المتحدة للتصعيد، تجد إسرائيل نفسها في مأزق “ابتلاع” الضربة أو تأجيلها أو تكييفها بما يتلاءم مع الوضع القائم، تحاشيا لحرب كبرى في المنطقة لن تكون مستفيدة منها، مما قد يبطل تصريحا سابقا لوزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت عندما قال خلال العدوان على غزة إن “هذه حرب ستنتهي في طهران”.