الملوثات الكيميائية.. القاتل الصامت في سوريا والعراق
داخل بلدات منتشرة بين مدينة دير الزور السورية ومدينة البصرة العراقية، انطلقت في أوقات مختلفة من الشهر الماضي 5 جنازات لأشخاص أصيبوا بسرطان الدم “لوكيميا”، تقول عائلاتهم إن إصابتهم بهذا المرض ناجمة عن ملوثات سامة، كانت تطلقها في الجو “حراقات نفط محلية” تنتشر شمالي شرق سوريا، ومصافي نفط حكومية تديرها شركات أجنبية تعمل في جنوب وشمال العراق.
ووصل عدد الإصابات نتيجة انتشار الملوثات الكيميائية، من صناعة النفط، في المثلث الذي تربط أضلاعه شمال شرق سوريا مع جنوب العراق وشماله، لأرقام يرى مراقبون أنها تشكل أكبر خطر يواجه المنطقة.
وتربط دراسات طبية وبيئية حديثة، بين تلوّث الهواء بنواتج هذه الصناعة، وأمراض الجهاز التنفسي المنتشرة كالربو والانسداد الرئوي المزمن وسرطان الرئة وأمراض القلب والأوعية الدموية وسرطان الدم.
وتشير منظمة الصحة العالمية إلى أن تأثيرات تلوّث الهواء خارج المنازل وداخلها على صلة بنحو 7 ملايين حالة وفاة مبكرة سنويا، وقد تسبب تلوّث الهواء الخارجي وحده في 4.2 ملايين حالة وفاة مبكرة في جميع أنحاء العالم، بلغت حصة العالم العربي منها نحو 450 ألف وفاة، ما يعكس ارتفاعا فوق المعدل العالمي بنحو 50%.
القاتل الصامت
في بلدة خراب أبو غالب، الواقعة بالقرب من حقول الرميلان النفطية شمالي شرق سوريا؛ يصف السكان الغازات المنبعثة من صناعة النفط البدائية، بالقاتل الصامت، وتعد هذه البلدة واحدة من بلدات عديدة تعاني من تلوث مدمر بسبب عمليات حرق النفط الخام عبر حراقات بدائية الصنع.
واشتكى أحد سكان البلدة، من ظهور تشوهات خلقية بين صفوف المواليد الجدد، إضافة إلى وجود إصابات صدرية عند أغلب السكان، ولفت إلى أن 4 من سكان الحي الذي يقطنه أصيبوا مؤخرا بالسرطان.
ويعالج 4 أطباء آلاف حالات السرطان المنتشرة في المنطقة، وفق دانيش إبراهيم ثاني طبيب مختص بالأورام يعمل في شمالي شرق البلاد. ويؤكد أن ثمة علاقة متلازمة بين مصافي النفط والنفايات النفطية، وبين ارتفاع عدد الإصابات بهذا المرض.
ويرى الباحث في مجال البيئة والتخطيط العمراني فراس حاج يحيى أن اندلاع المعارك بالقرب من مواقع استخراج الوقود الأحفوري ومصافي النفط، تسبب في اندلاع حرائق نفطية أطلقت مواد كيميائية ضارة في الهواء مثل ثاني أكسيد الكبريت وأول أكسيد الكربون وثاني أكسيد النتروجين، والهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات.
وأضاف أن مركبات الكبريت والنيتروجين ترتبط بالمطر الحمضي الذي يمكن أن يكون له آثار كارثية على الغطاء النباتي. في حين تستمر الهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات في البيئة لفترات طويلة، وهي مواد مسرطنة، وخطيرة للغاية.
صناعة الموت بأدوات محلية
تعمل الحراقات البدائية المنتشرة في أرياف مدن دير الزور والحسكة وحلب وإدلب السورية، بوضع النفط الخام داخل خزان معدني يتسع لـ100 ألف ليتر، فوق حفرة تشتعل النار فيها بواسطة إطارات سيارات قديمة أو فيول أو خشب. لتخرج بعد غليانه مشتقات يتم فصلها بحسب نوعها.
وظهرت “الحراقات المحلية” بعد خروج المنطقة عن سلطة النظام الحاكم، على خلفية الصراع العسكري الذي شهدته سوريا منذ عام 2012 وتسبب بتدمير عدد من آبار النفط في محافظتي دير الزور والحسكة، إلى جانب خطوط الأنابيب التي تصلها بالمصفاة الحكومية في مدينة حمص وسط البلاد، وتوقف إمداداتها.
ويُقدر مصدر محلي في قرية “شبيران” بريف حلب، عدد حراقات النفط في المنطقة، بنحو 400 حراقة، تقوم كل حراقة بـ10 عمليات تكرير لتأمين حاجة السوق المحلية في كل شهر.
بينما وصل عددها في قرية “ترحين” التابعة لمنطقة الباب “ريف حلب الشمالي” إلى 600 حراقة، تعمل منها حاليا نحو 100 حراقة، تزود سكان المنطقة والمناطق المجاورة لها بمادة المازوت المستخدمة لأغراض التدفئة وطهي الطعام.
وأكد المصدر أن هناك المئات منها في تل كوسا وتل شعير، وفي ريف إدلب؛ كمعرة النعسان ومعرة النعمان، والمناطق المحيطة بهما. ومن النادر أن تخلو قرية في المناطق المذكورة من وجود حراق أو أكثر.
مصدر ثراء وشقاء
شكل النفط موردا رئيسا لأطراف المعارضة في الشمال السوري، على اختلاف انتماءاتهم، وتحكم الإدارة الكردية سيطرتها على معظم حقوله في محافظتي دير الزور والحسكة، وقد استغنت نوعا ما عن الحراقات البدائية المحلية، بعد أن أنشأت فيما بعد مصفاة نفط متطورة في حقول الرميلان، بالتعاون مع شركة أميركية، تصل قدرتها الإنتاجية إلى 3 آلاف برميل في اليوم.
وتشير تقديرات غير رسمية، إلى أن إنتاج حقول النفط التي تشرف عليها يبلغ نحو 80 ألف برميل يوميا، بعائد شهري يصل إلى 150 مليون دولار تقريبا. بينما تسيطر فصائل معارضة أخرى داخل مناطق نفوذها، على تجارة نفط الشمال، ومشتقاته. حيث يجري تسويقه عبر 3 قنوات، قسم منه يذهب للاستهلاك المحلي، والقسم الآخر يتم تسويقه إلى مناطق سيطرة النظام، ومناطق المعارضة.
وفي وقت سابق نشرت صحيفة إندبندنت البريطانية تقريرا، أشار إلى أن عدد تجمعات مصافي النفط البدائية في الشمال السوري بلغ نحو 330 تجمعا بين عامي 2013 و2017 تضم من 10 آلاف إلى 15 ألف مصفاة ذات أحجام مختلفة، ولا تزال حوالي 20 مجموعة منها، تعمل في شرقي مدينة القامشلي.
ونقل التقرير عن أطباء محليين القول إن نحو 1500 حالة سرطان جديدة تسجل شهريا بالمناطق الواقعة شمالي شرق البلاد. وقالت بليندا عبد الرحمن مختصة الأورام في القامشلي: “أعاين كل يوم 5 حالات سرطان جديدة على الأقل في عيادتي”.
العراق الثاني عالميا
تصنف سوريا والعراق من بين الدول الـ20 الأكثر تلوثا في العالم من ناحية الجسيمات الدقيقة لمعروفة باسم “بي إم 2.5” (PM2.5) وفق التقرير الذي أعدته “آي كيو إير”.
وتخطت الدولتان المستوى السنوي المحدد من قبل منظمة الصحة العالمية “5 ميكروغرامات لكل متر مكعب”. واحتل العراق المرتبة الثانية عالميا، مسجلا نحو 80.1 ميكروغراما لكل متر مكعب، أكثر 16 مرة مما هو مسموح به.
ورغم وجود تقدم في الحد من تلوث الهواء بسبب حرق الغاز في جميع أنحاء العالم، وفق المراجعة التي أجراها البنك الدولي مؤخرا، حيث انخفض حجمه في عام 2022 بمقدار 5 مليارات متر مكعب، وهو ما يشكل نسبة 3%، وهو أدنى مستوى له منذ عام 2010. إلا أنه أوضح في بيان نشره في مارس/آذار 2023 أنه “لا تزال هناك 9 بلدان مسؤولة عن 3 أرباع كميات الحرق في العالم، منها العراق”.
ويعتبر حقل الرميلة الذي يمتد على مساحة 1800 كيلومتر مربع في منطقة البصرة جنوبي العراق، وتديره شركة أجنبية، أسوأ حقل نفطي من ناحية معدلات الانبعاثات الناتجة عن غاز الشعلة، المسبب الرئيس لإصابات سرطان الدم.
وعلى مقربة من حقل الرميلة، تقع بلدة صغيرة يصفها السكان بالمقبرة، لارتفاع عدد وفيات المصابين فيها بهذا المرض.
ويشتكي سكان بلدة نهر عمر التي تقع في الجوار أيضا، من انتشار السموم المنبعثة من ألسنة اللهب المتصاعدة في قمم أبراج الغاز. ويؤكد رئيس بلديتها ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان على مدى العقد الماضي بنسبة 50%.
وكان الشاب علي حسين جلود، أحد سكان منطقة الرميلة، يبلغ من العمر 15 عاماً عندما تم تشخيص إصابته بسرطان الدم الليمفاوي الحاد، وخضع للعلاج لمدة عامين، بما في ذلك جلسات عديدة من العلاج الكيميائي، وأجرى عملية زرع نخاع عظمي، بالإضافة للعلاج الإشعاعي، وفي عام 2021 قال الأطباء إنه بدأ يتماثل للشفاء.
لكن، في أبريل/نيسان 2023 توفي علي، الذي يعزو والده سبب وفاته كما أخبره الأطباء إلى تأثره بسحب الغاز السام، التي تنشرها مصافي النفط في المنطقة، فيقول الوالد: “فقدت ابني البالغ من العمر 21 عاما، ورغم من معاناته، كان يسعى لتحقيق العدالة لجميع الأشخاص الذين تأثروا بحرق الغاز عندنا، وأولئك الذين يعانون من هذه المشكلة في العالم”.
ويقود والد علي اليوم حملة إلكترونية للضغط على الشركات الأجنبية التي تدير حقل الرميلة وغيره لإجبارها على معالجة هذه السموم قبل انتشارها، يقول: إنني أطالب مئات الآلاف حول العالم لكي ينضموا إلى الحملة، من أجل وقف حرق الغاز المميت الذي أودى بحياة ابني.
تتحفظ الحكومة العراقية عادة على الحجم الفعلي لإصابات السرطان الناتجة عن استنشاق غاز الشعلة، لكن وثيقة مسربة من وزارة الصحة كشفت أن معدل الإصابة بالسرطان أعلى بـ3 مرات في البصرة، جنوب العراق، مما هو وارد في السجلات الرسمية.
ويمتلئ مشفى السرطان فيها بحسب شهادة “أوين بينيل” الذي أجرى تحقيقا بهذا الصدد لصالح محطة بي بي سي البريطانية، بمرضى مصابين، كانوا يعيشون بالقرب من حقول النفط.
فقد أثرت تسربات النفط، والتلوث، وانخفاض نوعية الهواء، وفق تقييم “ويم زويغننبرغ” الباحث في منظمة السلام الهولندية “بي إيه إكس” (PAX)، بشكل كبير على البيئة، وصحة العديد من العراقيين، وتوقع أن تصبح بعض مناطق العراق غير صالحة للسكن خلال العقود المقبلة، مشيرا إلى أن حقل الرميلة النفطي يعد أكبر مخزون هيدروكربوني في العراق.
ورغم أن العديد من الشركات العالمية التي تدير هذه الحقول قدمت تعهدات علنية للحد من حرق الغاز، إلا أن حجم الانبعاثات لا يزال كبيرا.
ارتفاع نسبة الإصابات
يتكون مجمع الرميلة من 4 محطات لإنتاج الغاز ومحطة لتسييل الغاز الطبيعي، وكلها على مقربة من بعضها البعض، وتنشر انبعاثات ثاني أكسيد النيتروجين في الهواء، وهذا يفسر على الأرجح سبب رؤية أعمدة ثاني أكسيد النيتروجين القادمة من شمال الرميلة، وهي تتحرك مئات الكيلومترات لتجتاح مدينة البصرة.
وتوصلت دراسة وبائية حديثة، إلى أن معدلات الإصابة بالسرطان في البصرة، ارتفعت بنسبة 30% منذ عام 2005. في حين توصلت دراسة أخرى، إلى أن النساء اللاتي يعشن بالقرب من مشاعل الغاز كن أكثر عرضة للولادة المبكرة بنسبة 50%.
وعلى غرار معاناة السكان في جنوب العراق، يعاني سكان العديد من المناطق في محافظة نينوى شمال البلاد، من المشكلة ذاتها، ويقول شاهد عيان من سكان المنطقة: إن الدخان الأسود المحمل بمختلف الغازات السامة، الذي تصدره مصفاة “القيارة” على الضفة الغربية لنهر دجلة، يغطي سماء المدينة لساعات طويلة.
وتبعد ناحية القيارة نحو 50 كيلومترا إلى الجنوب من مدينة الموصل، مركز محافظة نينوى، وتضم مصفاة نفط قديمة أنشئت في خمسينيات القرن الماضي، إلى جانب حقلين نفطيين “القيارة والنجمة”.
وتلحظ تقارير بيئية، وجود زيادة كبيرة في عدد منشآت حرق الغاز في شمال العراق. وهو الأمر الذي رفع نسبة حجم تلوث الهواء في هذه المناطق بشكل كبير.
وتلتزم الحكومة العراقية بخفض انبعاثات غاز الميثان بنسبة 30% بحلول عام 2030، كما تعهدت بوقف جميع عمليات إحراق الغاز المصاحب بحلول عام 2022، واستثماره في تشغيل محطات توليد الكهرباء، غير أن وزارة البيئة قالت إن الموعد تم تأجيله إلى عام 2025.