“تمر الشهور والحرب لا تزال تخطف أرواحنا”.. نازحو رفح في مرمى التشرد
غزة- تمسك رياض الخطيب بالبقاء في منزله بحي تل السلطان غرب مدينة رفح إلى ما وصفها بـ”اللحظة الأخيرة”، عندما سيطرده الاحتلال الإسرائيلي، على غرار ما حدث في المناطق والأحياء الشرقية من المدينة.
ولا يزال هذا الحي “ينبض بالحياة”، رغم مغادرة غالبية النازحين فيه إلى وجهات مختلفة، ويقول الخطيب للجزيرة نت إن العملية العسكرية البرية في شرق المدينة أصابت السكان والنازحين بالفزع، وفضل كثيرون النزوح خشية اتساعها نحو باقي أحياء ومناطق المدينة.
وفي 6 مايو/أيار الجاري بدأ الاحتلال عملية عسكرية في رفح، التي كان يقطنها أقل من 300 ألف نسمة قبل اندلاع الحرب، لكنها أصبحت آخر ملاذ للنازحين الذين أجبروا على مغادرة منازلهم، حيث يُقدر عددهم بأكثر من مليون شخص.
وتبدو شوارع رفح خالية بينما تواصل العائلات الفرار بحثا عن الأمان، ويواجه أفرادها إرهاقا مستمرا، وجوعا وخوفا، حيث لا مكان آمنا في قطاع غزة، بحسب بيانات وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”.
نزوح كبير
بخط وهمي رسمه بـ”قوة النيران” يقسّم الاحتلال مدينة رفح -أصغر مدن القطاع- إلى نصفين: غربي وأكبر أحيائه تل السلطان، وشرقي يضم مخيمي “يبنا” و”الشابورة” للاجئين، وأحياء البرازيل والجنينة والسلام والشوكة، وغيرها من مناطق قريبة من معبر رفح مع مصر والسياج الأمني الإسرائيلي، وقد تحولت هذه المناطق إلى “مدن أشباح”.
وتعتبر الحركة من بعد مفترق زعرب شرقا محفوفة بخطر شديد، رغم أن أوامر الإخلاء الإسرائيلية لم تشمل كل هذه المساحة، لكن الناس تخوفت من عملية كبيرة وواسعة، وكثير من السكان والنازحين قرروا مغادرة المدينة، تحسبا من مصير يشبه ما حدث في مدينة خان يونس المجاورة، بحسب الخطيب.
وتشير تقديرات دولية ومحلية إلى أن زهاء 800 ألف فلسطيني نزحوا عن مدينة رفح حتى اللحظة، غالبيتهم من الذين أجبروا على مغادرة مناطق سكنهم، عقب اندلاع الحرب في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، حيث كان “تل السلطان” أحد أكثر الأحياء استقبالاً للنازحين، واكتظت بهم منازل الأقارب والأصدقاء، ومراكز الإيواء، والخيام المنتشرة في الشوارع والأراضي والميادين والساحات العامة.
ولا يستغرب الغزي الخطيب سرعة “إفراغ” المدينة، ويقول إن ما ارتكبه الاحتلال في عمليته البرية في خان يونس، ومن قبلها في وسط القطاع وشماله يجعل الرعب يدب في قلوب الناس، ويجعلهم يؤثرون السلامة والبحث عن أماكن أقل خطرا”.
ويخشى هذا الرجل الستيني على نفسه وأسرته، وقد استعد للحظة النزوح عن منزله بإقامة خيمة في منطقة مواصي خان يونس، وهي جاهزة للانتقال إليها في أي لحظة، لكنه لا يريد التبكير بالرحيل وزيادة فترة التشرد والمعاناة.
ويستقبل الخطيب في منزله حاليا أسرتين نازحتين من مدينة غزة، ويجد منهما ومن جيرانه تشجيعا على التمسك بالبقاء في الحي وعدم تعجل النزوح، وبرأيه فإن كل يوم إضافي يقضيه كريما في منزله هو مكسب له.
لكن الحركة اختفت أو خفت إلى حد كبير من غالبية شوارع الحي، التي كانت تعج بخيام النازحين والبسطات والباعة المتجولين، واختفت كذلك كثير من السلع والبضائع، وبحسب الخطيب فإن المساعدات الإنسانية قطعت تماما، والأسعار في السوق لا تزال باهظة.
مزاعم الإنسانية
تقول وكالة “أونروا” إن النازحين غادروا غالبية مراكز الإيواء في رفح، ولجؤوا إلى المواصي في خان يونس ودير البلح، التي باتت مكتظة بشكل لا يطاق، وتعاني من أوضاع إنسانية مزرية.
وانتقل جهاد عبد ربه بأسرته من حي الجنينة شرق المدينة إلى أرض يمتلكها في مواصي رفح، وعبثا حاول خلال الأيام الماضية العثور على مساحة فارغة في مواصي خان يونس المجاورة ليقيم فيها خيمته، حيث تتزاحم خيام النازحين المترامية على امتداد البصر.
ورغم أن مواصي رفح لا تقع في نطاق ما حددها الاحتلال بـ”المنطقة الإنسانية الموسعة”، التي تبدأ من خان يونس حتى شمال دير البلح في وسط القطاع، وفضلا عن أجواء الرعب التي يعيشها جهاد وأسرته بسبب إطلاق النار الذي لا يتوقف من الطيران والزوارق البحرية، فإنهم يعانون في تدبير المياه والاحتياجات الأساسية.
وتوقفت حركة تدفق المساعدات إثر اقتحام الاحتلال لمعبر رفح وإعادة احتلاله، وتقول “الأونروا” إن العملية العسكرية الحالية في رفح تؤثر بشكل مباشر على قدرة وكالات المساعدات على إدخال الإمدادات الإنسانية الحيوية.
وقال عبد ربه للجزيرة نت “المواصي منطقة قاحلة، خاصة مواصي رفح، ولا تتوفر بها مقومات الحياة، فكيف يطلقون عليها منطقة إنسانية؟”، وهوالرأي ذاته الذي يتفق معه رئيس بلدية رفح أحمد الصوفي، وقال للجزيرة نت إن من غادروا رفح لم يكن أمامهم سوى المواصي، وهي منطقة تفتقد لمقومات الحياة الأساسية، حيث المياه شحيحة جدا، ولا توجد بها مرافق حيوية.
سجن كبير
تأثرت الخدمات والنظافة في مدينة رفح بشكل مباشر، نتيجة شح الوقود اللازم لآليات جمع وترحيل النفايات، وتشغيل آبار المياه الرئيسية، وبحسب الصوفي فإن طواقم البلدية يتعذر عليها العمل في شرق المدينة ووسطها، وقد باتت تفتقر للخدمات الأساسية وأبرزها المياه.
وينظر الصوفي لاحتلال معبر رفح الذي يعتبر المنفذ الوحيد للغزيين نحو العالم الخارجي، ومنع سفر المرضى والجرحى ودخول المساعدات، إضافة لإغلاق معبر كرم أبو سالم التجاري الوحيد، كحكم بالإعدام البطيء على 2.2 مليون غزي.
وبإغلاق هذين المعبرين يتحول القطاع إلى “سجن كبير”، ووفقا لمدير عام المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة فإن “استمرار إغلاق المعبرين ينذر بمجاعة”، ويقول للجزيرة نت إن احتلال معبر رفح أوقف تدفق المساعدات الإنسانية، وحرم أكثر من 10 آلاف جريح ومريض من فرصة السفر للعلاج بالخارج.
وأدت العملية العسكرية في شرق رفح إلى خروج مستشفى أبو يوسف النجار الحكومي الوحيد عن الخدمة، إضافة إلى مراكز الرعاية الأولية في شرق المدينة ووسطها، ولا تتوفر حاليا ثلاجات لحفظ الموتى أو وحدة لغسيل الكلى، وكثير من الخدمات الطبية الأخرى، ويقول رئيس بلدية المدينة إن حياة من تبقى في المدينة، والجرحى والمرضى، في خطر شديد.
وتبذل وزارة الصحة ومنظمات دولية جهودا مضنية لإعادة تشغيل مستشفى ناصر الحكومي في خان يونس، التي انتقلت إليها أعداد من النازحين جلهم من سكانها الأصليين الذين فضلوا استصلاح أجزاء من منازلهم المدمرة والإقامة فيها عن حياة الخيام.
تعاني أم علي المصري التي كانت نازحة مع أسرتها في رفح منذ 6 أشهر بعد أن وجدت منزلها مدمرا، ولجأت لشقة لابنتها وزوجها في بناية سكنية مدمرة جزئيا وتفتقر للمياه والصرف الصحي، وتقول للجزيرة نت “يحمل زوج ابنتي غالونات المياه من نقطة مجاورة لمستشفى ناصر، وبسعر مرتفع 4 شواكل للغالون الواحد سعة 20 لترا (أكثر من دولار)”.
لكن ما تعاني منه أم علي تتمناه أم أحمد أبو حطب، التي لم يعد لها مكان تعود إليه في عبسان الكبيرة شرق خان يونس، وتقيم في خيمة بالمواصي لا يتوفر بها حمام ومرحاض، وتضطر وأسرتها المكونة من 7 أفراد إلى استخدام دورات مياه عامة، كانت سببا في انتشار الأمراض.
وتقول هذه المرأة التي نزحت 5 مرات قبل نزوحها الأخير من رفح إلى مواصي خان يونس، إن “بيوتنا مدمرة وأيضا صحتنا، وتمر الشهور والحرب لا تزال تخطف أرواحنا، وتزداد حياتنا سوءا”.