الفلفل الحار والنحل.. أسلحة القرويين لمواجهة هجمات الأفيال في تنزانيا
كليمنجارو وأروشا، تنزانيا- شولا لاوال- يقع منزل موانا عثماني مسيمو داخل الأراضي العشبية المتموجة التي تحيط بجبل كليمنجارو، وهي منطقة هادئة ونائية للغاية لدرجة أن الأصوات الصادرة من مزرعة الدجاج والماعز الخاصة بها هي الأصوات الوحيدة التي يمكن سماعها على بعد كيلومترات. المناظر الطبيعية بهوائها النقي وخضرتها المورقة تحمل جمالا رائعا، لكنها -بالنسبة لمسيمو- تحمل أيضا معاناة دائمة.
في مكان ما من هذه البراري، أخذ زوجها ماشيته للرعي بعد ظهر أحد الأيام منذ عامين ولم يعد أبدا. وبحلول الوقت الذي عثر فيه فريق البحث في القرية عليه في نهاية مسار طويل من آثار أقدام الأفيال، كان الظلام قد حل وكان ميتا منذ ساعات.
قالت السيدة البالغة من العمر 55 عاما باللغة السواحيلية، وهي تجلس في غرفة معيشتها وتضع يديها على وجهها، “لقد تركني مع 5 أطفال”، خرجت تنهيدة من شفتيها وهي تسحب خمارها لتشده على رأسها “عندما كان هنا، كانت الأمور سهلة، وكانت الماشية موجودة. والآن، لم تعد ثم ماشية. الأطفال يكبرون، لقد أنهوا المدرسة، ولكن ليست لديهم وظائف”.
في جميع أنحاء تنزانيا، وهي دولة في شرق أفريقيا مليئة بالغابات والحياة البرية، يتعدى السكان المتزايدون بشكل مستمر على مساحات الحياة البرية، مما يضعهم في مسار تصادمي مع الحيوانات المتجولة، في أحداث قاتلة.
وفي عديد من المجتمعات الريفية مثل نغولو كواكوا، التي تقع بالقرب من ممر للحياة البرية، فإن المواجهات الأكثر شيوعا تكون مع الأفيال، الحيوانات التي يجب أن تهاجر بحثا عن الطعام والتي يمكن أن تتحول من عملاق لطيف إلى مهاجم عنيف في لحظة. تسبب هذه الثدييات العملاقة ألما كبيرا للمزارعين.
عبر الفناء الخلفي لمنزل مسيمو، خلف القبر البسيط الذي يرقد فيه زوجها الآن، وعلى طريق شديدة الانحدار، تقع مزرعة الذرة الخاصة بجارتها شانغويل مدي في حالة خراب.
من ناحيتها، قالت شانغويل مدي (47 سنة) وهي واقفة بين السيقان المدمرة، وتتفقد الأضرار، “لقد زارتها (المزرعة) الأفيال الليلة الماضية”. اخترقت الحيوانات سياجا مبنيا بفروع الأشجار وذهبت مباشرة إلى محاصيل الذرة الأكثر نضجا. وفي صفوف محاصيل الفاصوليا التي بدأت للتو في إنبات الزهور، كانت آثار الأقدام العملاقة لا تزال واضحة. وقالت مدي “كنت أتوقع حصاد المحصول في غضون أسبوعين”، وأضافت أن مثل هذه الغارات تحدث سنويا تقريبا، لكن الأذى يتجدد في كل مرة “لقد فقدت كل شيء”.
مشكلة على مستوى القارة
يقول الباحثون إن المواجهات بين الحيوانات والقرويين بالقرب من المتنزهات الوطنية أو طرق هجرة الحياة البرية تزايدت السنوات الأخيرة في جميع أنحاء القارة. ومع زيادة عدد سكان أفريقيا بمقدار مليار نسمة بين عامي 1950 و2020، انخفضت أعداد الأفيال، قبل أن تنتعش مرة أخرى، مما خلق منافسة على الغذاء والماء والأرض.
كما أدى تفاقم الجفاف إلى تقليص موارد الغذاء والمياه للأفيال في جميع أنحاء شرق أفريقيا، مما دفع هذه الحيوانات إلى الابتعاد عن المتنزهات والمناطق المحمية المخصصة لها، وأجبرها ذلك على العيش قرب مستوطنات بشرية مثل نغولو كواكوا.
يقول الخبراء إنه من الصعب تحديد العدد الدقيق للمواجهات التي تتسبب فيها الأفيال في جميع أنحاء القارة. وقالت لوسي كينغ، الباحثة في “منظمة أنقذوا الأفيال”، وهي منظمة غير ربحية مقرها في جنوب كينيا “لقد عملت على هذا الأمر لسنوات، وعانى فريقي بسبب وجود فوارق دقيقة في الصراع بين الإنسان والأفيال. بعض الصراعات عبارة عن تفاعلات بسيطة، تخيف الناس للغاية، لكن لا شيء يحدث بسببها. لكن من خلال شبكتنا، نشعر أن هناك ارتفاعا حقيقيا في المواجهة. يبدو الأمر وكأنه يرتفع ويرتفع بسرعة كبيرة، أسرع مما يمكننا الوصول إليه”.
انخفضت أعداد الأفيال في أفريقيا من 1.3 مليون في السبعينيات إلى 415 ألفا، ويرجع ذلك بقدر كبير إلى الصيد الجائر للحصول على أنيابها العاجية الثمينة. ومنذ ذلك الحين، اتخذت البلدان إجراءات صارمة ضد الصيد غير المشروع، لكن الجفاف وفقدان المواطن الطبيعية والصراع مع البشر برزت كتهديدات، مما يعني أن الأفيال لا تزال معرضة للخطر.
ولكن بالنسبة لأولئك الذين يعيشون بالقرب منها، فإن هذه الحيوانات العاشبة الضخمة تثير الغضب. تلتهم الفيلة ما يصل إلى 450 كجم من العلف يوميا، وتشرب ما يصل إلى 190 لترا من الماء وتحتاج إلى مساحة للتجول.
ومع ذلك، مع ظهور مزيد من القرى والمزارع والطرق وغيرها من البنية التحتية في أراضيها وتفتيت بيئتها، تضطر الأفيال إلى العيش في مناطق بشرية -غالبا ما تكون مناطق سكان الريف الفقراء الذين يعتمدون على الزراعة من أجل معايشهم. إن غارة واحدة من الأفيال على مزرعة من الذرة أو الطماطم يمكن أن تقضي على ما يكفي من الطعام لمدة عام.
في كثير من الأحيان، يواجه القرويون الذين يرعون ماشيتهم أو يبحثون عن الحطب، الحيوانات في البرية. على الرغم من أن الأفيال سلمية عادة، فإنها يمكن أن تكون عدوانية عندما تشعر بالتهديد، حيث تقذف ضحاياها في الهواء أو تدوسهم وتسحقهم. ولحماية أنفسهم، يطارد القرويون المتضررون هذه الحيوانات أو يسممون مصادر المياه والغذاء حماية لأنفسهم من هجماتها.
البلدان التي تضم أكبر عدد من الأفيال هي أيضا من بين الدول الأكثر تضررا من المواجهات بين القرويين والأفيال، مثل زيمبابوي، حيث يوجد بها 100 ألف فيل. وقالت كينغ إن هذه الدولة الأفريقية تفتقر إلى الأموال اللازمة لتنفيذ إستراتيجيات لفصل ممرات الحياة البرية عن المستوطنات، ومع ضعف السيطرة الحكومية -وبالتالي العقوبات- جعلها أكثر منطقة مواجهة بين الأفيال والإنسان.
فقد تضررت تنزانيا (بها 60 ألف فيل) وكينيا المجاورة (بها 35 ألف فيل) بشدة من هجمات الأفيال على القرويين.
في كينيا، أفادت السلطات بأنها تضطر إلى قتل ما بين 50 إلى 120 فيلا سنويا لأنها هاجمت السكان.
هل هناك حلول ممكنة؟
يقول المحللون إن إيجاد حلول للمواجهة بين الأفيال والسكان يجب أن يركز على توسيع وتحرير ممرات الحياة البرية، حتى تتمكن الحيوانات من الحركة بحرية أكبر. وقالت كينغ إن “هذه هي الأمور الرئيسية، وعلى الجانب الآخر، يمكننا البحث عن تدابير لمساعدة الناس على العيش بسلام أكبر مع الحيوانات”.
وفي تنزانيا، اعتاد بعض الناس ملء الأنابيب المطاطية بمسحوق الفلفل الحار -وهو نوع من التوابل التي تكرهها الأفيال- وحملها عند مهاجمة هذه الحيوانات. ويستخدم آخرون الصوت وسيلة للإلهاء، ويضربون بصوت عالٍ الدلاء الفولاذية على فترات لإخافة الأفيال وإبعادها.
وعلى بعد نحو 6 ساعات غرب منطقة كليمنجارو، تعمل المجتمعات المحلية على توسيع نطاق طريقة أخرى ابتكرتها كينغ نفسها، وهي النحل.
إذ وجدت كينغ -في بحثها- أن الأفيال تخاف بشدة من النحل. إن اللسعات على الأجزاء الداخلية الحساسة من جذوعها، وجوانب أفواهها، وخلف آذانها مؤلمة للغاية، لدرجة تضطر معها هذه الحيوانات للهرب بمجرد أن تسمع طنين النحل.
ومن خلال اللعب على هذا الخوف، توصلت كينغ إلى فكرة وضع النحل بشكل إستراتيجي حول المزارع وأدركت أن ذلك يمكن أن يردع الأفيال عن المضي قدما في الغارات على الحقول.
وبعد اختبار هذه الطريقة في كينيا، أنشأت هذه الباحثة دليلا ونشرته حتى يستفيد منه الآن دعاة الحفاظ على البيئة من تنزانيا إلى الهند.
في قرية كيتيتي العليا المتاخمة لمنطقة محمية نجورونجورو، تعد الأفيال زائرا منتظما. ولكن منذ عام 2019، عندما كان دعاة حماية البيئة يعلقون خلايا النحل على أعمدة خشبية حول المزارع تراجعت الهجمات.
وقال جون ماساي، الذي نشأ هناك ويقوم الآن بجمع البيانات لصالح وايلد سيرفايفز، وهي منظمة غير ربحية مقرها في المملكة المتحدة، إنه عند وجود سياج النحل، هاجم الحقول عدد أقل من الأفيال.
وفي إحدى الأمسيات، انطلق ماساي لتفقد التقدم المحرز في إحدى المزارع، حيث توجد صناديق خلايا النحل المعلقة على أسلاك ممتدة على مسافة بعيدة، لحماية محاصيل الفول والدخن من هجمات الأفيال. وقال الباحث “لقد انخفضت غارات الأفيال لكنها لم تتوقف تماما”. ومع ذلك، كانت المكاسب كبيرة فقد تراجعت هجمات الأفيال الشهرية على الحقول من 62 هجمة عام 2020 إلى 15 هجمة عام 2023، حسب بيانات الفريق.
في كثير من الأحيان، يتجول فيل ذكر عنيد في مزرعة مسيجة، غير مبالٍ بهجوم محتمل للنحل، وذلك لأن الذكور المنعزلة أقل حذرا، ومن المرجح أن تخاطر، على عكس القرارات الآمنة التي تتخذها الأسرة التي تقودها الأم.
في المجمل، تم إنشاء نحو 3.5 كيلومترات من خلايا النحل المعلقة في منطقة كيتيتي العليا. ولكن المشكلة تنتقل إلى مجتمعات أخرى، حيث تجد الأفيال، في رحلة بحثها، مزارع أخرى غير محمية. وقال ماساي “لهذا السبب، نريد الاستمرار في توسيع السياج”.
خلق النحل مصادر دخل إضافية للبعض في منطقة كيتيتي العليا. تقول دلفينا برنابا، التي ترأس “تجمع ناري النسائي” الذي سُمي على شجرة السنط التي التقت المجموعة تحتها لأول مرة، إن العسل الذي يبيعه لهن المزارعون يتم الآن تعبئته وبيعه في جميع أنحاء تنزانيا.
وفي غير موسمها، عندما لا تكون هناك خلايا نحل لمعالجتها، تقوم النساء بزراعة الخضروات على قطعة الأرض خلف مركزهن. تذهب أموال العسل والمزرعة إلى صندوق يمكن للأعضاء الحصول على قروض منه.
في انتظار المساعدة
في مناطق مثل نغولو كواكوا، حيث لم تصل بعد أسوار خلايا النحل وعبوات قنابل الفلفل الحار، يجب على الناس الاستمرار في الوجود جنبا إلى جنب “التيمبو” (اسم الأفيال باللغة السواحلية). ورغم أن الانتقام مغرٍ، فإنه غير قانوني، وعقابه شديد.
ولثني السكان عن مهاجمة الأفيال وقمع الصيادين، فرضت السلطات التنزانية عقوبات صارمة على قتل الأفيال تصل للسجن لمدة عامين على المزارعين، في حين أن عقوبة الصيد الجائر السجن ما لا يقل عن 20 عاما. لذلك، حتى عندما يشعر القرويون بالظلم، لا يمكنهم مهاجمة الأفيال. وبدلا من ذلك، يجب عليهم إبلاغ مسؤولي المتنزهات الوطنية في تنزانيا (تانابا) الذين يقتلون الأفيال العدوانية أو يقبضون عليها.
تدفع السلطات أيضا تعويضات تبلغ نحو 300 دولار لأسر الضحايا الذين لقوا حتفهم بسبب هجمات الأفيال، وللمزارعين الذين دمرت محاصيلهم أو ممتلكاتهم الأخرى إذا تمكنوا من تقديم دليل على الأضرار. لكن البعض يقول إن التعويض إما لم يصل أو أنه نادر الحدوث.
تقول مسيمو بعد أن أخذ مسؤولو المتنزهات الوطنية جثة زوجها إلى المشرحة وأعادوه في نعش خشبي، لم تسمع أي شيء آخر من الحكومة. وأضافت أن “الطريقة التي تعاملوا بها مع وفاة زوجي كما لو أنه كان ماشية ونفقت، حتى أنهم لم يقولوا إنهم آسفون. الحكومة لم تفعل ذلك. لقد مرت 3 سنوات على كل ما حدث”.
من جانبه، يردد بيتر جلعيد (39 عاما) صدى غضب مسيمو. فقد اضطر صانع الأحذية هذا إلى التخلي عن عمله المربح في نيروبي والعودة إلى منزله بعد مقتل والده على يد فيل في أغسطس/آب 2022 عندما كان يرعى الماشية.
على ذراعه وشم الجاني، وهو تذكير دائم ومؤلم. فهو يؤكد أنه رأى ذلك الفيل مرة واحدة، ونابه مكسور الآن، وكان بإمكانه الانتقام. ولكن الذي يشغله أكثر من الانتقام عبء رعاية والدته و6 من إخوته الصغار.
وقال جلعيد -في إشارة إلى إدارة المتنزهات الوطنية- “عندما تقتل فيلا، سوف يغرمونك، ولكن عندما يقتل هذا الحيوان أحباءنا، فإنهم يعطونك فقط النعش. لا أستطيع أن أقول إن المال سيعيد حياة أحبائنا، ولكن على الأقل سأفعل شيئا صغيرا للعائلة. لقد جاؤوا ووعدونا بمليون شلن (382 دولارا)، لكنهم لم يفعلوا ذلك”.
ولم ترد إدارة المتنزهات الوطنية على طلبات الجزيرة للتعليق على قضيتي جلعيد ومسيمو.
وقال عضو البرلمان جوزيف أنانيا تاديو، الذي يمثل منطقة كليمنجارو، والذي قالت مسيمو إنه كان حاضرا في جنازة زوجها، إن هناك استياء عاما من عملية التعويض. وقال تاديو للجزيرة -من دون التعليق على العائلات المحددة في نغولو كواكوا- “أحاول التعامل مع هذا الأمر مع جهات عليا”.
في الوقت نفسه، تقول مدي (مزارعة الذرة) إن آخر مرة حصلت فيها على تعويض من السلطات كانت في عام 2019، عندما دفعوا لها 100 ألف شلن تنزاني (38 دولارا) لكل فدان من الأضرار. وأضافت أنه منذ ذلك الحين، تشن الأفيال غارات سنويا، لكنها لم تتلق أي شيء.
في غرفة معيشة مسيمو، أجبرتها الأصوات الصاخبة في الخارج على النهوض من كرسيها والتحرك لإطعام دجاجاتها. فمنذ وفاة زوجها، اضطرت إلى العمل بجهد مضاعف لتعتني بالأسرة ذات الدخل الواحد الآن بينما يكافح أطفالها الأكبر سنا للحصول على وظائف. ومع ذلك، فهي متفائلة، وقالت: “ربما تكون الحكومة قد صرفت التعويضات. فإذا كانت في الطريق، فأنا في انتظارها”.