شهداء أو نازحون.. الحرب تخنق أحلام طلبة الثانوية في غزة
غزة- “الحرب نكبتنا ودمرتنا” يصف الطالب مجد فراس حمد أثر الحرب الإسرائيلية عليه كطالب ثانوية عامة نازح من بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، ويقيم حالياً مع أسرته في مدرسة بمدينة خان يونس جنوب القطاع.
وتكرر الوصف نفسه على ألسنة آخرين من طلبة وطالبات “التوجيهي” من أمثال مجد، الذين شردتهم الحرب عن منازلهم، وأضاعت عليهم السنة الدراسية، وحرمتهم من الامتحانات النهائية التي يستعد لها أقرانهم بالضفة الغربية والقدس وخارج فلسطين.
وقد عبثت الحرب الإسرائيلية المستمرة للشهر التاسع على التوالي بمستقبل زهاء 40 ألفاً من طلبة التوجيهي الذين لن يتقدموا للامتحانات المقررة في 22 من يونيو/حزيران الجاري، في سابقة لم تحدث منذ توحيد المناهج التعليمية وامتحانات الثانوية العامة بالضفة والقطاع وشرقي القدس، عقب تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994.
وتمثل هذه الامتحانات حلماً للطلبة وأهاليهم، وتكتسب أهمية خاصة؛ وغالباً ما يتحدد مستقبل الطالب وخياراته الجامعية بناء على نتيجته فيها.
نكبة الحرب
بدأ مجد (17 عاما) مبكراً بالاستعداد للتوجيهي واستغلال الإجازة الصيفية بالالتحاق بدروس خصوصية، ويقول للجزيرة نت إنه التحق بدروس تقوية في مواد الرياضيات والفيزياء واللغة الإنجليزية، لرفع مستواه والحصول على معدل كبير يؤهله لدراسة الصيدلة.
ومجد هو الابن البكر لأسرة مكونة من 5 أفراد، ووالده صيدلي يمتلك 3 صيدليات في بلدة بيت حانون، وكان الابن يأمل في تحقيق حلم والده بالالتحاق بالصيدلة ومساعدته فيما وصفه بـ “مشروع العمر” وإدارة الصيدليات وتوسيع نطاق العمل.
وحصل هذا الشاب في الصف الأول الثانوي على معدل 87%، ويقول إنه كان يدرس طوال ساعات النهار وجزءا من الليل من أجل الحصول على نتيجة أفضل بالتوجيهي ليحقق حلم والده، ويُدخل الفرحة على قلب والدته التي تسانده طوال الوقت وتوفر له كل ما يحتاج من أجل التفرغ للدراسة.
“كل ذلك انهار، الحرب نكبتنا ودمرت حياتنا ومستقبلنا” يقول مجد، ويشير بيده إلى الصف الدراسي الذي يقيم به مع أسرته وآخرين، ويتابع بحسرة “الحرب قلبت حياتنا رأساً على عقب، والمدارس تحولت لمراكز إيواء للنازحين، والفصول الدراسية لم تعد للتعليم، وغاب عنها صوت المعلم والطلبة وتتعالى فيها صرخات الأطفال ومعاناة الأمهات”.
ولم يتوقع مجد أن تطول الحرب إلى هذا الحد، فقبيل نزوحه لأول مرة من منزله في بيت حانون حرص على الاحتفاظ بنسخة عن مواده الدراسية على هاتفه المحمول، لكنه لم يحافظ على مراجعتها لأكثر من أسبوع، ويقول إن ملامح الحرب بدت تتضح وإنها مختلفة عن كل الحروب السابقة.
وبسبب النزوح المتكرر وعدم توفر الكهرباء والإنترنت، لم يكن الأمر سهلاً على مجد للدراسة، لكنه يقول إنه استأنف الفترة الأخيرة تقوية نفسه في الإنجليزية.
ويتمنى هذا الطالب أن تنتهي الحرب، وأن يكون لدى وزارة التربية والتعليم خطة لتعويض طلبة الثانوية العامة بالقطاع عما فاتهم، ومنحهم فرصة التقدم للامتحانات، وعدم إضاعة سنة من أعمارهم، ويقول “أبي يريدني أن أدرس الصيدلة في جامعة الأزهر بمدينة غزة، فهو يكره الغربة وغير مؤمن بالسفر للخارج والهجرة”.
أحلام مؤجلة
عاد فراس حمد (45 عاما) والد مجد إلى غزة عام 1994، فهو من مواليد الجزائر، ويقول للجزيرة نت “أرفض الغربة والهجرة، وأريد لابني أن يتربى أمام عيني ويبني نفسه ومستقبله هنا في غزة، ولدينا القدرة أن نقدم ونبني البلد بسواعدنا وعقولنا”.
ورغم ما يصفها بـ”المفارقة المؤلمة” حيث تحولت المدرسة التي لطالما حرص وزوجته على زراعة حبها في قلب ابنهما إلى مقر نزوح وإيواء، يقول الدكتور فراس “في مثل هذه المدرسة كنا ننتظر اللحظة التي يتقدم بها مجد لامتحانات التوجيهي، ونسعد بتفوقه، لولا هذه الحرب المجنونة”.
ويقيم فراس وأسرته مع شقيقه وأسرته (9 افراد) في فصل دراسي بمدرسة في خان يونس، نزحا إليها إثر مغادرتهم رفح المجاورة، على وقع عملية عسكرية إسرائيلية برية في 7 مايو/ أيار الماضي، ويقول “كنت دائم الزيارة لمجد بالمدرسة للسؤال عنه والاطمئنان من المعلمين عن مستواه والتزامه، وجاء اليوم الذي أعيش معه في المدرسة وداخل صف واحد”.
ونال الأب نصيبه من خسائر الحرب، وقد نزح مراراً، وكان أولها ليل اليوم الأول لهجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وانتقل بأسرته إلى مشروع بيت لاهيا، ومنه إلى مخيم النصيرات، وقد تسببت غارة جوية إسرائيلية قريبة باستشهاد ابن شقيقة زوجته كما أصيب آخرون، فنزح بالأسرة إلى مركز إيواء بمدينة رفح، قبل النزوح الحالي إلى خان يونس.
ودمرت قوات الاحتلال الصيدليات الثلاث لفراس، ولحق دمار جسيم بمنزله، غير أنه يبدي قدراً كبيرا من الصبر والصمود، ويحرص على زرعهما لدى نجله مجد، ويدعمه “كي لا يتسلل اليأس والإحباط إلى قلبه”.
ويقول “الحرب ستنتهي، ورغم حجم الدم والدمار الهائل إلا أن الحياة ستستمر، وسننهض من جديد، وأريد لمجد أن يكمل مشروع حياتي، ويتفوق ويدرس الصيدلة هنا في غزة”.
ويساعد مجد والده في “نقطة طبية مجانية” حرص الدكتور فراس على نقلها معه من رفح إلى خان يونس، من أجل مساعدة النازحين والمرضى في مركز الإيواء.
متمسكون بالأمل
وفي حكاية مشابهة، استخدمت فيها الطالبة رنا القرمان (17 عاما) مفردات قريبة من مجد، تقول للجزيرة نت “كل تعبي وأحلامي راحت، الحرب دمرت حياتنا”.
واختارت رنا الفرع العلمي بالثانوية العامة، وكانت تحلم بالتفوق ودراسة تخصص “أمن المعلومات” بالجامعة، وتتساءل “أين هذه الأحلام؟ نحن الآن لا نفكر إلا بالنجاة بأرواحنا من هذه الحرب”.
ونزحت رنا مع أسرتها (6 أفراد) من بلدة بيت حانون إلى رفح، وغادروها إلى مدرسة في خان يونس مع بداية الاجتياح البري.
وتحرص والدة رنا (43 عاما) على دعمها رغم أنها ذاتها تقر بأثر الحرب عليها نفسياً وجسدياً، وتقول للجزيرة نت “الحرب حرمتنا من أحبابنا ومن بيوتنا، ولكن يجب أن نتمسك بالأمل من أجل تحقيق أحلامنا”.
وتقول هذه الأم لولد و3 بنات “طموحي أن يتفوقوا ويكونوا علامات مميزة في المجتمع” غير أنها لا تخفي خشيتها من مرحلة ما بعد الحرب التي وصفتها بالضبابية، حيث دمر الاحتلال الجامعات والمدارس والمصانع وكل مرافق الحياة.
تعليم مستهدف
قتلت قوات الاحتلال زهاء 10 آلاف من طلبة المدارس والجامعات، من بينهم المئات من طلبة الثانوية العامة، إضافة إلى آلاف الجرحى، ودمرت أكثر من 109 من المدارس والجامعات بشكل كلي، ونحو 316 جزئيا، بحسب رصد “المكتب الإعلامي الحكومي”.
ويقول مدير عام المكتب إسماعيل الثوابتة للجزيرة نت إن الحرب حرمت أكثر من 625 ألف طالب من العام الدراسي، وقد تحولت مئات المدارس إلى ركام، بينما تحولت المدارس القائمة إلى مراكز إيواء للنازحين وبينهم طلبة.
ولأول مرة منذ عقود طويلة، لن يتمكن 40 ألف طالب وطالبة من قطاع غزة -من أصل 90 ألف طالب وطالبة على مستوى فلسطين- من التقدم لامتحانات التوجيهي، بسبب حرب الإبادة الجماعية المستمرة على القطاع، بحسب الثوابتة.
ويقدر محمد مسالمة مدير عام الامتحانات بوزارة التربية والتعليم في رام الله -بحديثه للجزيرة نت- عدد المسجلين لامتحانات الثانوية العامة من طلبة القطاع بأقل من 1200 طالب وطالبة فقط، وهم من الذين يوجدون في هذه الأثناء بمصر.
ويضيف أن حوالي 50 ألفاً من طلبة الضفة والقدس والمغتربين خارج الوطن، ومن بينهم طلبة غزة الموجودين في مصر، سيتقدمون للامتحانات المقررة يوم 22 من الشهر الجاري، بينما ستحرم الحرب الغالبية من طلبة غزة.