حرب سوريا مقدسة والمسيح يبارك غزو أوكرانيا.. لهذا يتحالف بوتين مع الكنيسة
كان الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين قصيرا لا يتجاوز طوله 170 سنتيمترا على الأرجح، إلى درجة أن الرئيس الأميركي الأسبق هاري ترومان كان يصفه بـ”الرجل الصغير”، لكن ستالين في المقابل كان يرى نفسه عملاقا، لذا فإنه نشر تماثيله الضخمة في كل مكان بوصفها طريقة لإعادة تعريف ذاته، ليس على مستوى الهيئة الجسمانية فقط، ولكن أيضا على صعيد الهيبة والتأثير.
وكان ذلك جزءا من الهالة التي رسمها الزعيم البلشفي لنفسه طول مسيرته السياسية، وتضمنت تغيير لقبه إلى “ستالين” الذي يعني “الصلب” أو “الحديدي” رغبة منه في تصدير شعور بالقوة يبدأ من مجرد ذكر اسمه فقط.
اقرأ أيضا
list of 2 items
الحرب الروسية العثمانية.. لماذا يحلم بوتين باستعادة أمجادها؟
“توبوليف باك دا”.. هل تهدد القاذفة الشبحية الروسية التفوق الجوي الأميركي؟
end of list
وفي أعقاب صعوده إلى السلطة، رسخ ستالين نظاما شيوعيا استبداديا معاديا للأديان في ظاهره وجوهره، وربما كانت تلك إحدى الطرق التي تنكَّر بها ستالين ورفاقه إلى ماضي بلادهم “القيصري”.
لكن للمفارقة، وضع ستالين نفسه بمنزلة “إله” مكتمل الربوبية، وكان مريدوه يرونه أشبه بـ”نصف إله”، يحاصر فئة من الناس في المدن أو في المعسكرات الباردة التي تفوح منها رائحة القهر والموت، ويستحيي الباقين شاكرين له على النعم التي تأتي أحيانا قليلة وتغيب في أحايين كثيرة بسبب البيروقراطية وأسلوب الحياة السوفياتي الذي طالما قدَّم مصلحة الدولة والسلطة على الإنسان.
لم يكن للدين أي مكان يُذكر في هذا الفضاء الذي يتنكَّر للمقدس السماوي، حتى إنه اعتُبر عدوا للثورة والتقدم والازدهار، وأصبحت الشيوعية السوفياتية، في أحد معانيها، مرادفا للإلحاد القسري الذي واجه جميع أشكال التدين بالقهر الفكري والعنف الجسدي.
ولكن حين انهار الاتحاد السوفياتي، وانهارت معه الأيديولوجية الشيوعية في نسختها الأكثر تطرفا، عاد الدين إلى صدارة المشهد في كل مكان كان يحكمه الرفاق، مات ستالين، ومات مَن خلفوه، وتغيرت الأوضاع.
وجاء حاكم جديد ليسكن الكرملين حاملا معه وصفة جديدة للسلطة، فهو يتحرك وفق أحلام الاتحاد السوفياتي القديمة القائمة على القوة، يحملها في يده الأولى، أما اليد الثانية فيحمل فيها صليبا يُعَدُّ علامة على “دولة جديدة” تلعب فيها الكنيسة دور الحصان الأسود في طموحات قيصر روسيا الجديد فلاديمير بوتين.
فبخلاف دورها الديني وتشذيبها للهوية الروسية في مواجهة الغرب فكريا وروحيًا، كان للكنيسة دور سياسي بارز في التدخل العسكري الروسي في سوريا، حينما رحبت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية عام 2015 بشن غارات جوية في سوريا، واصفة القتال هناك بأنه “معركة مقدسة”. وامتد هذا الدور في مختلف المعارك والحروب الروسية الأخرى، تماما مثل ما يجري اليوم في الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا.
الكنيسة في قبضة البلاشفة
قبل 11 عاما، لم يُخفِ فلاديمير بوتين، في فيلم وثائقي أُنتج بمباركة مشتركة من الكرملين والكنيسة الأرثوذكسية الروسية، الدور الكبير الذي يلعبه الدين والكنيسة في روسيا الجديدة.
واعتبر الرئيس الروسي، الذي كان ولا يزال جالسا على كرسي الحكم، خلال الفيلم أن الكنيسة عادت إلى الواجهة بعد الحقبة السوفياتية لتقوم بجرِّ الشعب إلى جذوره المسيحية والقيم الروحية التي افتقر إليها بشدة خلال ماضيه القريب.
بشكل أكثر تفصيلا، أشار بوتين إلى دور الكنيسة في “ملء الفراغ الروحي للناس” خلال حقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وهو ما يُعَدُّ -حسب بوتين- ولادة جديدة طبيعية للشعب الروسي.
أكثر من ذلك، يرى الرئيس الروسي أن العنوان الرئيسي للعصر الجديد هو التعاون بين الدولة والكنيسة، فروسيا بوتين ذات الماضي الإلحادي الشرس أضحت تبني ألف كنيسة أرثوذكسية في العالم سنويا، وهو أمر غير مسبوق ليس في تاريخ روسيا، بل في تاريخ المسيحية كاملا، كما يقول الرئيس الروسي.
أعطت هذه الشراكة الجديدة بين الدولة والدين في روسيا قُبلة الحياة للكنيسة التي كانت تحتضر في زمان السوفيات. ففي يناير/كانون الثاني عام 1925، بعد سنوات قليلة من ثورة البلاشفة عام 1917، استبد اليأس بالبطريرك الأرثوذكسي “فاسيلي إيفانوفيتش بلافين”، المسمى دينيا “تيخون”، ما دفعه إلى تحدي السلطات الحاكمة بالقول إن “كنيسة المسيح في الأراضي الروسية تمر بمرحلة حزينة للغاية، حيث يتحرك أعداء المسيح لتأكيد هذا المصير التعيس”، مضيفا: “في كل يوم نسمع أصداء عن مجازر قاسية وفظائع مروعة يروح ضحيتها أعداد من الأبرياء الذي لا حول لهم ولا قوة. يجب أن تتوقفوا عن هذه المجازر فورا”.
لم تستمر هذه الشجاعة الخطابية طويلا، فرأس الكنيسة الأرثوذوكسية سرعان ما سيتراجع عن تصريحاته، وسيخضع لتعليمات البلاشفة ويُوقِّع على وثيقة الولاء للنظام الشيوعي والعداء لكل خصومه.
بيد أن كل هذه “التنازلات” الكنسية لم تكن كافية، ولم تقترب حتى من حد الكفاية، فالنظام الجديد كان يحمل في أجندته هدفا واحدا واضحا وصريحا: “تدمير الحياة الدينية في الأراضي السوفياتية” عبر ما يشبه إبادة مسيحية راح ضحيته مئات الآلاف من المسيحيين -وفق بعض التقديرات- ممن قضوا نحبهم تحت آلة القتل السوفياتية، فضلا عن ضحايا آخرين من جميع الأعراق والأجناس والديانات يصعب حصرهم حتى يومنا هذا.
كانت جنازة البطريرك تيخون في إبريل/نيسان 1925 هي آخر تظاهرة دينية ستعرفها موسكو لفترة طويلة، خلال هذه الجنازة حضر نحو 300 شخص تجمعوا حول نعش رجل الدين الراحل، خصوصا أن موته أثار الكثير من الشكوك.
لم ترَ الكنيسة الروسية النور بعد تلك الواقعة، حيث تدخّل الشيوعيون في أروقة الأديرة لبث الفرقة بين “أتباع المسيح”، الذين انقسموا بين المحافظين المتمسكين بالتقاليد القديمة وبين الثوريين الذين أرادوا “مسيحية تستجيب لتطلعات العصر الجديد”. في غضون ذلك، كان النظام السوفياتي يعمل على الضغط على الكنيسة من الداخل والخارج، ابتداء بالبروباغندا المعادية للدين والتدين بجميع مشاربه، وانتهاء بإغلاق الكنائس التي أصبح عددها لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة.
سيبقى هذا الاضطهاد الديني قائما حتى قرب زوال دولة السوفيات، رغم أن طرقه ستتغير كثيرا مع الوقت. وعلى مدار هذه العقود، اضطهد النظام الشيوعي التدين بجميع أشكاله ومشاربه، ولم تكن آلة التعذيب والقتل تستهدف رجال الدين فقط، بل تستهدف المسيحيين عموما، رجالا ونساء وأطفالا وشيوخا، أي كل مَن يرى في المسيح مخلصا ولا يرى في ماركس ولينين وستالين قديسين مقدسين.
صفحة كنسية جديدة
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، نُفض غبار القمع عن الكنيسة الأرثوذكسية، فرغم أن روسيا أقرَّت في دستور عام 1993 أنها دولة علمانية لا دين لها، فإنه سرعان ما تبيَّن أن الكنيسة تشغل مكانة مهمة في النظام الجديد، ليس اجتماعيا فقط، بل وسياسيا أيضا بشكل جعل من المسيحية الأرثوذكسية ديانة غير رسمية للبلاد، تماما كما لمّح قانون وقَّعه الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسن عام 1997 ومنح بموجبه الكنيسة الأرثوذكسية المكانة الأكثر تميزا ضمن تسلسل هرمي جديد للجماعات الدينية في البلاد، في نوع من رد الجميل للكنيسة على دعمها حملته الانتخابية في العام السابق.
في ذلك الوقت، نشأ نوع من الإجماع في الأوساط الروسية على أهمية الحضور الديني في البلاد لإعادة إحياء الفكرة الوطنية وإيجاد هوية جمعية تُعيد تعريف “الروسي” كما عرَّفت الشيوعية سابقا هوية “السوفياتي”.
لقد كان الانتقال من “إمبراطورية” كاملة إلى مجرد “دولة” على مساحة أصغر من الأرض، ومع نفوذ سياسي وحضور عسكري متراجع نسبيا، واقتصاد أقل حجما، أمرا مربكا على جميع المستويات استلزم عملية إعادة تعريف واسعة، كانت العودة إلى المسيحية جزءا صلبا منها. وقد تعمقت هذه الرؤية وتطورت في صعود الرئيس بوتين إلى هرم السلطة خلال العقدين الأخيرين، لدوافع تمزج بين توجهات بوتين الشخصية وسياساته العملية ورؤاه الخاصة لهوية روسيا وشعبها ومكانتها في النظام الدولي.
بادئ ذي بدء، يعتنق بوتين ومن ورائه جمهرة غفيرة من الروس، برومانسية حالمة، حلم العودة مرة أخرى إلى مقعد الهيمنة الدولية، واستعادة المكان الذي تركته ليس فقط الإمبراطورية السوفياتية البائدة، ولكن أيضا الإمبراطوريات التي سبقتها تاريخيا، ولعبت خلالها الكنيسة دورا أساسيا في جميع مناحي الحكم والحياة، حيث تُمثِّل الكنيسة ركنا ركينا يجر خلفه جزءا من التراث الثقافي والسياسي لروسيا باختلاف أعلامها وأنظمتها الحاكمة، ولم تكن الحقبة السوفياتية سوى استثناء من تلك القاعدة.
بشكل لا يقل أهمية، يرى بوتين أن المسيحية الأرثوذوكسية تلعب دورا لا غنى عنه في الحفاظ على مسافة “الأمان الثقافي” بين روسيا والغرب الذي يتبنى في غالبه (على علمانيته الحالية) المذهبين الكاثوليكي والبروتستانتي.
هذه المسافة اللاهوتية ظهرت واضحة في القرن الخامس عشر الميلادي حينما رفضت الكنيسة الأرثوذكسية الموافقة على مقررات مجمع فلورنسا، وهو المجمع المسكوني السابع عشر الذي عُقد في مدينة فلورنسا الإيطالية من أجل توحيد الكنائس الأرثوذكسية الشرقية مع الكنيسة الكاثوليكية في روما.
يتوافق ذلك كله مع النظرة طويلة الأمد التي يُكِنُّها الروس لأنفسهم باعتبارهم شعبا متدينا ومحافظا، ولم تصبه “لوثات” العلمانية الغربية، وهو ما ينطبق على الكنيسة الروسية التي ترى نفسها أكثر تمسكا بالتقاليد المسيحية من الكنائس الغربية.
ونتيجة لهذه النظرة، يثق الروس في كنيستهم اليوم، ويعتنقونها بوصفها مرجعية لحياتهم أكثر بكثير من نظرائهم الغربيين الذين تقتصر علاقات الغالبية منهم بالكنائس على المراسم الطقوسية، وهو أمر يسعى بوتين للاستفادة منه عبر تقديم نفسه راعيا للكنيسة والمسيحية في روسيا.
هذه النظرة، على ما فيها من براغماتية، لا تخلو على الأرجح من آثار النزعات الشخصية لبوتين الذي يُظهر مسحة من التدين، أو على الأقل يُكِنُّ احتراما واضحا للمسيحية، حيث يزور بوتين الأديرة في زيارات تُسوِّق لها الكنيسة كثيرا، ويسبح في المياه المقدسة، دون نسيان لقاءاته الكثيرة مع زعامات الكنيسة ولقائه المتكرر مع الأب “جون كريستياكين”، الشخصية غير المعروفة خارج أسوار الأديرة، وصاحبة التأثير الكبير داخل أسوار دور عبادة المسيحيين الروس.
وقد انعكس سلوك الرئيس الروسي المعجب (على الأقل) بالكنيسة الأرثوذوكسية على اختياره لدوائره المقربة وسلوكياتهم، فبِتْنا نرى قيادات الصف الأول الروس من السياسيين والعسكريين يتفانون في إظهار تدينهم وعلاقاتهم مع الكنيسة، وهو أمر لم يعد سرا لا داخليا ولا خارجيا.
وأخيرا، يخدم التوافق بين الدولة والكنيسة العداء الشخصي الذي يُكِنُّه بوتين لما يسمى “الأصولية الإسلامية”، الذي يستدعي سياسة “علاجية” تمنع الأفكار الإسلامية “المتشددة” -حسب تعريف بوتين- من الدخول إلى المجتمع الروسي، ومنعها من الانتشار في البلدان التي تعتبرها موسكو حدائق خلفية لها خاصة الشيشان المسلم رغم التحالف مع رئيسها رمضان قديروف الذي يشاركه القتال في أوكرانيا.
وبجانب الحروب العسكرية ضد هذه “الأصولية المزعومة”، يوفر التدين المسيحي نوعا من “الأمان العقدي” للأراضي الروسية المقدسة، كما تصفها الكنيسة.
الراعي الذي يحب الذئب
لتثبيت المسيحية بوصفها سلاحا أيديولوجيا لجمع شتات الرأي العام الداخلي، ومواجهة الخطر الفكري الخارجي، كان لزاما على الكنيسة نفسها أن تعتنق المهمة التي يرغب القيصر الجديد أن تضطلع بها، وهنا سيأتي دور أهم رجل دين في روسيا اليوم، بطريرك الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية، “كيريل الأول”.
يتقاسم كيريل الأول، المنحدر من أسرة من رجال الدين واجهوا الدولة السوفياتية في عصور الشيوعية المتطرفة، وجهة النظر نفسها التي يتبنَّاها بوتين، رائيا في الكنيسة نقطة التقاء للروس بعد شتات طويل بعيدا عن الرب، ويرى في موسكو الدولة حامية الأخلاق القادرة على مواجهة الانحلال الغربي، ويعتبر الجيش الروسي الذي يوجهه الكرملين مجموعة من القديسين الذين يجوبون العالم بحثا عن إقرار السلام والعدل والأخلاق.
يتقاسم بوتين وكيريل على ما يبدو الكثير من القناعات والرؤى والأهداف. يظهر الرجلان معا في المناسبات الدينية والوطنية، كما حدث في فبراير/شباط 2013 في كاتدرائية المسيح المخلص بموسكو، حينما قال بوتين: “الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية كانت دائما بجانب شعبها عبر التاريخ، لقد تقاسمت معه السراء والضراء، نتمنى أن تستمر هذه الشراكة الإيجابية والمختلفة، عليها الاستمرار في هذه التجربة لتحقيق هدفنا الأساسي وهو تقوية التلاحم المجتمعي حول قيمنا الأخلاقية المرتفعة”.
يستعمل الكرملين الشرعية الرمزية الكبيرة والمهمة للكنيسة للتسويق لأيديولوجية “روسكي مير”، التي تعني بالعربية “العالم الروسي”، وهو عالم لا يضم روسيا فقط، ولكن بيلاروسيا أيضا، وبالقطع أوكرانيا التي تدور فيها حرب تكسير عظام بين بوتين والغرب.
ترتكز فكرة العالم الروسي على على ثلاثة أسس: الأرثوذوكسية بوصفها مذهبا مسيحيا، والثقافة واللغة الروسية، والذاكرة التاريخية والمستقبل المشترك للروس، وتهدف إلى تحدي الغرب بأهدافه وأيديولوجياته وجميع سياساته.
يتطرق بوتين وكيريل الأول إلى هذه الفكرة في جميع خطاباتهم، للتذكير بهذا المبدأ الذي ترعاه مؤسسة “العالم الروسي” التي تأسست عام 2007 للغرض نفسه، حيث تنشط في الترويج لأفكار موسكو داخليا وخارجيا عبر دعم وسائل الإعلام الروسية الموجهة للعالم.
لا يؤمن بوتين بالانتظار كثيرا، ينظر إلى كل خطوة ينبغي فعلها على أنها واجب الساعة ثم يُقدم على ذلك، ربما هذا ما يُخيف الكثير من خصومه، لذلك لم يتردد في اجتياح أوكرانيا بحثا عن “النازيين” كما يصفهم، رغم التحذيرات التي تلقاها من أميركا وحلفائها، فبوتين ينظر إلى أوكرانيا على أنها الحديقة الخلفية التي لا يمكن أبدا ترك بابها شبه مفتوح، دون أن ننسى أنه ينظر إليها بعين الأمس، وأنها جزء لا يتجزأ من روسيا الكبرى التي لا تقف عند حدودها المرسومة حاليا.
المسيح يحب موسكو ويعادي كييف
تُعَدُّ أوكرانيا تحديدا ميدانا خصبا لعمل ذلك التحالف المتنامي بين بوتين والكنيسة. على سبيل المثال، في 25 سبتمبر/أيلول عام 2022، وخلال عظته في قداس الأحد، سيعتبر كيريل الأول أن الجنود الروس الذين يُقتلون في الحرب بأوكرانيا سيتطهَّرون من كل ذنوبهم.
ورغم دعوة رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بأن تنتهي الحرب سريعا بين “الأشقاء”، فإنه استدرك بالقول إن كل شخص مدفوع بإحساس الواجب الوطني يضحي من أجل القسم الذي أدَّاه، وهو ما يعني أن هذه التضحية ستغسل الذنوب التي ارتكبها هذا الإنسان.
تُعَدُّ هذه الكلمات بمنزلة فتوى من أرفع مرتبة دينية في روسيا للجنود الروس الذين يُقتلون في جبهات القتال مع الأوكرانيين، وهي في جوهرها “تبرير ديني” لجميع الخطوات السياسية والأحلام التوسعية لبوتين، ناهيك بأنها تعطي شرعية دينية وقدسية إضافية للحرب التي تقودها موسكو ضد أقرب جيرانها.
في الحقيقة، ربطت روسيا حبالا طويلة بأوكرانيا حتى تمنعها من الانفكاك عن ماضيها السوفياتي والالتحاق بالغرب تماما، وكان أحد هذه الحبال هو الحبل الديني. خلال سنوات استقلال أوكرانيا عن روسيا، ظلت الكنيسة الأوكرانية تابعة للمجمع البطريركي الروسي، حيث كانت تُستعمل أداةَ تأثيرٍ داخل أوكرانيا لنشر بروباغندا موسكو. جدير بالذكر أن العلاقة الدينية بين الكنيسة الروسية والكنيسة الأوكرانية تعود إلى عام 1686، حينها كانت أوكرانيا خاضعة لسيطرة موسكو أيضا.
سيظهر الحضور السياسي للكنيسة الأرثوذوكسية الروسية التابعة لموسكو على كييف عندما دعمت الرئيس الأوكراني الأسبق “فيكتور يانوكوفيتش” خلال فترة حكمه. ففي الوقت الذي لم يلتقِ الرئيس الأوكراني أي مسؤول ديني من بلاده، فإنه استقبل أكثر من مرة كيريل الأول وحاشيته.
وخلال أحداث ما سُمِّيَ بـ”ثورة الكرامة” عام 2014 في أوكرانيا، أجمعت الكنائس الأوكرانية مختلفة المذاهب في وثيقة وقَّعتها على أن “مسؤولية العنف الذي اجتاح الثورة يقف وراءه النظام السياسي الموالي لروسيا”، في الوقت نفسه كان الأب كيريل يتحرك في الكواليس لجمع بعض الموالين له داخل الكنيسة الأوكرانية من أجل قيادة تحرك مضاد للحراك الثوري.
لعبت الكنيسة الروسية دورا كبيرا في التلاعب بالرأي العام خلال هذه الفترة، فقد اعتبرت أن النزاع القائم ليس أكثر من مجرد خلاف داخلي بين مكوِّنين عِرقيين أحدهما روسي والآخر أقرب إلى الغرب، رغم أن الوضع كان أقرب إلى ثورة شارك فيها جزء كبير من الشعب ضد مظالم الحكومة والنظام. تلقفت وسائل الإعلام الروسية الفكرة نفسها وبدأت في نشرها وفق خط تحرير من الواضح أنه قادم من المصدر نفسه.
دعم الأب كيريل رسميا فلاديمير بوتين في قراره ضم القرم والتدخل العسكري في شرق أوكرانيا عام 2014، وهو ما جعل عددا من أتباع الكنيسة الأرثوذوكسية في أوكرانيا يستغربون من توجُّه الرجل الذي من المفترض أن يرعى السلام إلى دعم آلة الحرب الروسية ضد بلادهم.
بعد ذلك بثمانية أعوام، وتحديدا عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022، قالت صحيفة “واشنطن بوست” إن الانشقاقات ظهرت جلية في الكنيسة المسيحية الأرثوذكسية. ويشير التقرير إلى أن المسيحيين الأوكرانيين تنقسم ولاءاتهم بين الكنيستين الروسية والأوكرانية رغم كون هذه الأخيرة خاضعة لسلطة بطريركية موسكو. تجلى الانشقاق واضحا أيضا بعد إصدار متروبوليت أونوفوري، رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية، بيانا وصف فيه الحملة العسكرية بأنها “كارثة”، مناشدا بوتين وقف ما وصفها بـ”حرب الأشقاء”.
لاحقا، ستبدأ الكنيسة الأوكرانية اتخاذ مواقف أكثر وضوحا من الأب كيريل، حيث ستترأس حفلات دفن المقاتلين الأوكرانيين، كما سيُطالب بعض القساوسة بالتوقف عن تبجيل الكنيسة الروسية، بل والانفصال عنها تماما. يكتسب هذا التوجه المزيد من المؤيدين داخل الكنيسة الأوكرانية، خصوصا أن الكنيسة الروسية دعمت بطريقة لا لبس فيها الاجتياح الروسي لأوكرانيا، وهو ما جعل صحيفة “فايننشال تايمز” تقول إن من أهداف الحرب المقدسة التي تشنها موسكو استعادة كييف، مسقط رأس الأرثوذكسية في القرن العاشر.
في كل مكان الآن، وأينما قرر الكرملين الوجود، يأتي رجال الدين لمباركة الطائرات الروسية بالماء المقدس، لا تهم الوجهة أبدا، قرى سورية كانت أو جبهات قتال أوكرانية أو حتى البراري الأفريقية الواسعة، أينما حلَّت روسيا المقدسة يحل معها المسيح، حسب ما تعتقده المسيحية الأرثوذكسية الروسية، وحسب ما يرغب في التسويق له قديس الكرملين الجديد.