مسعف يروي للجزيرة نت مشاهد مؤلمة من شمال غزة
غزة- “هكذا صباحي في كل يوم، أقف حائرا بين دماء الشهداء والمصابين، بين صرخات الألم ونبضات الأمل، أتنقل بين الأشلاء لأحمل جريحا هنا وأودع شهيدا هناك، في أرض لم تعرف سوى الحرب، أتأمل الأجساد الممزقة والوجوه التي غادرتها الحياة، أبحث عن بصيص أمل بين ركام الحرب وأنقاض المنازل”.
و”هنا لا فرق بين الليل والنهار، كل لحظة هي صراع مع الموت ومحاولة لإنقاذ حياة جديدة، رغم القهر والتعب نستمر، لأن واجبنا أكبر من أي خوف، ولأن حياة كل إنسان هنا تستحق أن نناضل من أجلها، هذا هو واقعي في غزة، بين الحياة والموت بين الدمار والصمود”.
هذه كلمات المسعف المتطوع عبد الرحيم خضر التي نشرها في مساء يوم مزدحم، لم تتوقف به نداءات الاستغاثة الصادرة عن ضحايا المجازر الإسرائيلية في مخيم جباليا وشمال قطاع غزة.
جلس خضر على كرسي خشبي يخطف لحظات راحة، ونظر إلى ساقيه والدماء تخضب اللباس الأخضر الذي ترتديه الطواقم الإنسانية التابعة للخدمات الطبية، وأمسك بهاتفه المحمول وكتب تلك الكلمات التي يقول للجزيرة نت “إنها ليست مجرد كلمات صماء، وإنما تشخيص لحياتنا اليومية منذ اندلاع الحرب”.
يوميات دامية
3 أيام حتى تمكنت الجزيرة نت في جنوب القطاع من استكمال المقابلة مع خضر في شماله، وقد اضطر غير مرة إلى قطع المكالمة على عجل والاستئذان والانطلاق نحو موقع مستهدف، تلبية لنداءات استغاثة، يقول إنها لا تتوقف على مدار الساعة، ليلا ونهارا، منذ الهجوم الإسرائيلي البري المستمر على مخيم جباليا للأسبوع الثالث على التوالي.
تختزن ذاكرة المسعف خضر الكثير من المشاهد التي مرت به خلال عام الحرب الضارية، ويقول إنها ستبقى محفورة راسخة بداخله حتى آخر حياته، لكنه يتحدث بتأثر كبيرعما يعايشه منذ 3 أسابيع، حيث ارتكبت فيها قوات الاحتلال مجازر مروعة في شمال القطاع، وخاصة في مخيم جباليا المحاصر، بقصفها المنازل السكنية فوق رؤوس ساكنيها، واستهداف مراكز الإيواء وقتل النازحين، وقنص النساء والأطفال والرجال في الشوارع أثناء محاولتهم الهرب من الموت.
وتحاصر قوات الاحتلال مخيم جباليا منذ 19 يوما، في سياق عملية عسكرية برية هي الثالثة منذ اندلاع الحرب في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، ضد هذا المخيم الأكبر من حيث الكثافة السكانية بين مخيمات القطاع الثمانية.
وخلال هذه العملية، قتلت قوات الاحتلال أكثر من 500 فلسطيني وصلوا المستشفيات شبه المنهارة في شمال القطاع، في حين تتحدث طواقم الدفاع المدني والإسعاف عن انتشار عشرات جثث الشهداء في الشوارع، يقول عبد الرحيم خضر “تمنع قوات الاحتلال وصولنا لانتشال الشهداء وإجلاء الجرحى وإسعافهم”.
جرائم لا تنسى
عبد الرحيم خضر شاب عشريني من مواليد مخيم جباليا عام 2002، يهوى التصوير وتجذبه المشاهد الجمالية، وكان يلاحقها بعدسته من مكان إلى آخر قبل اندلاع الحرب، التي وجد نفسه فيها أمام مشاهد من القتل والدمار، استدعت منه أن يستغل “دورة تدريبية بالإسعافات الأولية” والتحق كضابط إسعاف متطوع في الخدمات الطبية.
الحرب دمرت كل شيء جميل في غزة، معالمها وآثارها وأسواقها ومساجدها وكنائسها وشوارعها ومدارسها ومستشفياتها، وحولتها إلى كتل من الركام والأنقاض، يقول خضر وهو يتحدث عن قراره بالتطوع “مسعفا ومصورا” في الخدمات الطبية، يوثق الجرائم بعدسته، ويتركها جانبا ويشارك في إنقاذ الجرحى عندما يكون “الحدث جللا والجريمة كبيرة” بحسب وصفه، مستشهدا بمجزرة مسجد التابعين.
ولا يتردد المسعف المتطوع في وصف مجزرة مسجد التابعين بالأبشع، وقد أصيب بالصدمة والذهول عند وصوله إلى المسجد الملحق بمدرسة تحولت إلى مركز لإيواء النازحين في مدينة غزة.
“وقفت متسمرا في مكاني، الدماء والأشلاء تغطي ساحة المسجد، أخذت أجول ببصري في أرجاء المكان بحثا عن بقايا حياة، وقد فتكت صواريخ الاحتلال بأجساد المصلين أثناء أدائهم صلاة الفجر، وحولتها إلى أشلاء متناثرة، وبدت ساحة المسجد كبركة من الدماء”، يشرح هذا الشاب وكأنه يصف مشهدا لا يزال ماثلا أمام ناظريه.
ويضيف “كان المشهد مروعا، والأرض مفروشة بالأشلاء، حتى إن الأهالي لم يتمكنوا من التعرف على أبنائهم، ولجأت إدارة المستشفى إلى وضع الأشلاء في أكياس، معتبرة أن وزن كل 70 كيلوجراما يمثل شهيدا بالغا، وكل 30 كيلوجراما شهيدا طفلا، وتم دفنهم على هذا النحو، فهل شهد العالم مثل هذه المأساة في تاريخه؟”، يتساءل بحرقة.
ألم متصل
وخضر نفسه نجا من الموت غير ما مرة، وفي واحدة منها وقع حدث لا ينساه في أحد أيام الهجوم البري الإسرائيلي الأول على مخيم جباليا بدايات العام الجاري، يقول “كنا 5 خرجنا لأداء مهمة إنسانية في سيارتي إسعاف، وتوقفنا في منطقة جباليا البلد، وإذا بقذائف المدفعية تتساقط حولنا”.
يكمل الوصف بقوله “ترجلنا من السيارة الثانية نحو السيارة الأولى لتفقد زملائنا، وإذا بالسائق أبو سليمان ينزف وقد بتر اثنان من أصابع يده، ولم نعثر على زميلنا المسعف محمد المطوق، وبحثنا عنه لنصف ساعة في محيط المكان من دون جدوى، واضطررنا للانسحاب نتيجة الخطر ولإسعاف أبو سليمان، وبعد ساعة ونصف عدنا مجددا للبحث عن المطوق، وكان مغمى عليه وقد قذفته قوة الانفجارات لبضعة أمتار خلف جدار قريب، ثم عثر عليه أهل المنطقة وأسعفوه”.
لكن لم تنته الحكاية هنا، بعد 3 شهور من هذه الحادثة خرج خضر ملبيا نداء استغاثة نحو منزل دمرته غارة جوية إسرائيلية في جباليا البلد، وكانت المفاجأة التي يقول إنها ستبقى راسخة في ذاكرته “المستهدف هو صديقي وزميلي محمد المطوق وقد دمرت صواريخ الاحتلال المنزل عليه، وارتقى شهيدا”.
“حياة أفضل”
عندما التحق خضر بالخدمات الطبية كضابط إسعاف متطوع لنحو 3 شهور لم يتمكن خلالها من رؤية والديه وأسرته، واليوم يعيش واقعا مماثلا، حيث أسرته محاصرة مع من تبقى من سكان في مخيم جباليا، ويقول “أشتاق لأسرتي، وأدعو الله ألا يفجعني بأحد من أهلي وأحبتي”.
ومنذ مغادرته المخيم قبل بضعة أيام، يواجه صعوبة في التواصل مع أسرته بسبب تردي خدمات الاتصالات والإنترنت، ويقول إن الأوضاع داخل المخيم مأساوية، وأغلب السكان يواجهون صعوبة بالغة في توفير احتياجاتهم من الطعام ومياه الشرب.
يأمل هذا الشاب الأعزب أن ينتهي هذا الكابوس ويعود لحياته الطبيعية، ويستكمل دراسته بتخصص الديكور والتصميم الداخلي بكلية الهندسة في جامعة الأقصى، ويقول “صباحات الناس حول العالم تبدأ بالابتسامات والتوجه لأعمالهم ومدارسهم وجامعاتهم، ونحن في غزة ننام ونستيقظ على صرخات الألم ونداءات الاستغاثة ومشاهد الدماء والأشلاء، نحن بشر أيضا ونستحق حياة أفضل، فمتى ينتهي هذا المسلسل الدموي؟”.