عقلانية طوفان الأقصى في ظل اختلال موازين القوة بين إسرائيل وحماس
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تثور العديد من الأسئلة حول مبرر عملية طوفان الأقصى ومدى عقلانيتها وجدواها ومعناها السياسي، بفعل ما فيها من مخاطرة عالية وما يحيطها من اختلال فادح في موازين القوى.
وازدادت هذه التساؤلات عقب مرور عام من الحرب، واستمرار وتوسع جرائم الاحتلال بحق أهل قطاع غزة، وتصاعد الاشتباك على جبهة لبنان، وتوسع الاعتداءات الإسرائيلية في الضفة الغربية، ومساعي اليمين الإسرائيلي المتطرف لاستغلال الفرصة لتمرير أجندة التهجير والتوسع الإقليمي التي يؤمن بها.
وهذا مما يدعو إلى استكشاف الخيارات التي كانت متاحة أمام حركة المقاومة الإسلامية (حماس) حينئذ، ومنطق اتخاذ القرار لديها بهذا الشأن.
خيارات مصيرية لدى الشعب والحركة
أُسّست حركة حماس بهدف مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ورفضت اتفاقية أوسلو للتسوية السياسية للقضية الفلسطينية عام 1993، لما فيها من اعتراف بحق دولة الاحتلال في 78% من أراضي فلسطين، ونالت بموقفها هذا تأييدا شعبيا واسعا، وانخرط آلاف من أبناء الشعب الفلسطيني في صفوفها مبكرا، وراهنوا على الاستمرار في العمل المسلح إلى حين إجبار الاحتلال على الرحيل.
واستمرت إستراتيجية الحركة القائمة على العمل المقاوم ورفض الواقع الناتج عن الاتفاقية إلى عام 2005، حين قررت المشاركة في الانتخابات التشريعية للسلطة الفلسطينية، وذلك بفعل استمرار الانقسام الشعبي بين خياري المقاومة والتسوية، وتراجع زخم انتفاضة الأقصى، وعدّت ذلك تكتيكا يسعى إلى “حماية المقاومة” رغم ما فيه من تعارض مع طبيعة العمل المقاوم.
وهو ما اتضح في الموقف الغربي الرافض لفوزها الكاسح في تلك الانتخابات، ثم بتعزز الانقسام الفلسطيني عقب رفض العديد من أجهزة السلطة التعاون مع الحكومة المنتخبة، وصولا إلى الحسم العسكري في غزة وانفراد الرئيس محمود عباس بإدارة الضفة عام 2007، وما تبعه من تعزيز للحصار الإسرائيلي على قطاع غزة.
حيث كان الاحتلال قد فرض حصارا سياسيا واقتصاديا على الضفة الغربية وقطاع غزة، منذ فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، ثم تركز هذا الحصار على غزة عام 2007.
وفي التعامل مع هذا الواقع المستجد، اعتمدت حماس إستراتيجية “مراكمة القوة” القائمة على استثمار كونها السلطة في القطاع لتعزيز قدرات المقاومة المدنية والعسكرية، وهو ما قطعت فيه شوطا كبيرا على مدار 17 عاما من الحكم.
وعلى الرغم من توظيفها هذه القوة في الضغط على الاحتلال لرفع الحصار عن غزة، وتقليل تغوّله على القدس والأسرى وسواها من القضايا الرئيسة للشعب الفلسطيني، فإن ذلك لم يفض إلى حل لهذه الأزمات المستعصية، في ظل الموقف الإسرائيلي بشأن مستوى الحصار على القطاع.
هذا بالإضافة إلى ضعف الردود العربية والدولية على جرائم الاحتلال، وتحول مسار السياسة الإقليمية باتجاه التطبيع مع دولة الاحتلال دون ربط ذلك بإعادة أي من الحقوق الفلسطينية.
وبالتوازي، لجأت حماس إلى تكتيكات الضغط الشعبي، كما في مسيرات العودة التي بدأتها في “يوم الأرض” عام 2018 واستمرت بشكل أسبوعي على مدار عام ونصف، إلا أنها خلّفت مئات الشهداء وآلاف الجرحى والمعاقين، دون أن تسفر عن تغيير دائم في وضع القطاع، إذ كان الاحتلال يتراجع سريعا عن أي مكاسب تحققها الضغوط الشعبية مستفيدا من تواطؤ الإدارة الأميركية وضعف تأثير بقية الأطراف الإقليمية والدولية.
ولكن لم تسفر محاولات المصالحة -التي تعززت منذ وصول السنوار إلى قيادة قطاع غزة عام 2017- عن نتيجة؛ إذ اشترط عباس في نهاية المطاف إعلان حماس قبول الاتفاقات الموقعة مع الاحتلال قبل الشراكة معها في الحكومة أو منظمة التحرير.
وهو ما يعني -في حال حدوثه- انقلاب حماس على نفسها وإدانة تاريخها وإعادة تجربة حركة فتح التي لم توصل إلى التحرر، بل وفرت لإسرائيل عقودا من الاحتلال الرخيص الكلفة، عززت خلالها الاستيطان وتهويد القدس والتطبيع الإقليمي.
وفي الوقت نفسه، كانت حماس وسواها من الأطراف الفلسطينية يلاحظون تراجع جدوى مراكمة القوة في ظل الردع الإسرائيلي الناتج عن حجم الضحايا الكبير لأي مواجهة عسكرية مع جيش الاحتلال، واضطرار الحركة إلى المحافظة على الهدوء أغلب الوقت، في حين تستفرد إسرائيل ببقية ملفات القضية الفلسطينية، ويستمر عدوانها المتمثل في الحصار الخانق على القطاع.
وفي هذا الشأن، اعتمدت حركة الجهاد الإسلامي “إستراتيجية المشاغلة” القائمة على مبدأ إدامة الاشتباك مع الاحتلال، حتى لو كان ذلك بمستوى منخفض، وذلك لمنعه من الراحة والتمدد.
وأدى التباين بين إستراتيجية الحركتين إلى احتكاكات متكررة بينهما، وصولا إلى خوض حركة الجهاد جولتي مواجهة منفردتين لها مع الاحتلال، في شهر أغسطس/آب 2022، وفي مايو/أيار 2023.
وهو ما وضع حركة حماس أمام سؤال وطني صعب، إذ كيف تقبل حركة تحرر وطني أن يقع عدوان إسرائيلي على أرض تحكمها مع اغتيال أكبر القيادات العسكرية لحركة مقاومة أخرى، دون أن تنخرط حماس بشكل مباشر في معركة كهذه.
أما ما كان يدفع باتجاهه الاحتلال وداعموه بخصوص قطاع غزة في ذلك الحين، فهو شكل من أشكال السلام الاقتصادي، بحيث يخفف الحصار على القطاع بالتوازي مع تخلّيه عن أي دور وطني متعلق ببقية فلسطين، بما يشمل التكامل مع منظومة الاحتلال وتوفير الأيدي العاملة الرخيصة التكلفة لأعمال الزراعة والصناعة والبناء في إسرائيل.
وهو ما فتحت الباب له في الأعوام الأخيرة، حين سمحت لعشرات الآلاف من أهل القطاع بالعمل داخل حدودها، مع ربط عدد التصاريح التي تصدرها لهم بمستوى الهدوء الامني. وبذلك، فقد كانت حركة حماس أمام مفترق طرق لا يسعها إلا أن تختار أحدها:
- إما القبول بالتعايش مع منظومة الاحتلال وتعزيزها، من خلال الإذعان لمطالبها بتوفير الأمن وقمع أي مساع لمشاغلة الاحتلال، مع ما يحمله ذلك من تغيير لجوهر هويتها ومسارها السياسي، وما يحمله من مخاطر احتراب فلسطيني داخلي.
- وإما محاولة “قلب الطاولة” على الاحتلال، والسعي لإلحاق ضربة كبرى به تصنع واقعا سياسيا جديدا. وبطبيعة الحال، فقد اتخذت حماس هذا الخيار على ما فيه من مخاطر كبرى.
مسألة اختلال ميزان القوى
أما السؤال التالي بهذا الصدد، فهو: كيف تتخذ حماس قرارا كهذا في ظل اختلال لموازين القوى العسكرية؟ وللإجابة عنه تلزم ملاحظة الأساس الفكري الذي تقوم عليه حماس كحركة مقاومة؛ من نواح عدة:
فمن ناحية، فإن الأصل النظري لمقاومة الاحتلال لا يفترض تكافؤ القوى المادية وإن كان يتطلب قدرا من التوازن. وبهذا الصدد، يشير المنظر العسكري ورئيس الأركان الأسبق لحلف الناتو أندريه بوفر -في كتابه “مدخل إلى الإستراتيجية العسكرية”- إلى أن حروب التحرر تراهن على تعظيم عامل القوة المعنوية وتراهن على المدى الزمني الطويل لمواجهة الاختلال في موازين القوى المادية الذي يكون لمصلحة المحتل عادة.
ومن جهة أخرى، فإن الأصل الشرعي الذي ترتكز عليه المرجعية الفكرية لحركة حماس لا يشترط توازن القوى في “جهاد الدفع”، وهو المتعلق بمواجهة عدوان خارجي، بل يشجع كل مسلم على الدفاع عن بيته وماله في مواجهة العدوان ولو أدى ذلك إلى استشهاده.
وهذا لا يتعارض مع الأخذ بالأسباب، والتخطيط الساعي إلى النصر، ففي حين يشجع الإسلام على نيل “إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة”، فقد جعل أولاهما هي النصر، فهي المطلوب الأول الذي يسعى إليه المسلم، فإن فاته فما بعده حسنى أيضا، وليست أمرا يعاب عليه في منطق الشرع.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق، أن أي ثورة شعبية كانت أو مسلحة تعد مغامرة غير مضمونة النتائج وأنها معرضة لاحتمالات الفوز والخسارة، إلا أن التحرر لا يحصل عادة إلا بمحاولات عديدة تؤول في النهاية إلى رفع كلفة الاحتلال إلى درجة لا يستطيع معها البقاء.
ومن ناحية ثالثة، يبدو أنه قد تبلور لدى حماس تقدير بإمكان تضافر قوى تفرض واقعا جديدا على الاحتلال. فبتتبع السياق التاريخي لقرار طوفان الأقصى، يظهر أن المواجهة السابقة له، وهي معركة سيف القدس عام 2021، شهدت قدرا كبيرا من التفاعل الشعبي في الداخل الفلسطيني المحتل 1948 والضفة الغربية وعبر الحدود الأردنية واللبنانية مع فلسطين، وهو ما دفع الاحتلال إلى إيقاف الحرب خلال 11 يوما، مما حقق مكاسب فلسطينية بشأن المسجد الأقصى وأبطأ مساعي الاحتلال إلى تهويده.
بل كان ما شهدته العديد من المناطق المحتلة عام 1948 والتي يقطنها خليط من الفلسطينيين واليهود أشبه ببوادر حرب أهلية، اضطرت نسبة من اليهود إلى الجلاء المؤقت عنها، وأعاقت تنقل قوات الاحتياط وقوافل إمداد الجيش المتجهة إلى حدود غزة.
وعلى الصعيد العسكري، كانت الإشارات بشأن توجّه حزب الله إلى التصعيد العسكري مع دولة الاحتلال تتزايد؛ بفعل عوامل تقديره بأن الأزمة الاقتصادية الحادة التي يواجهها لبنان جزء من حرب اقتصادية موجهة ضده.
وظهر هذا التأهب في الاحتشاد العسكري غير المسبوق للحزب جنوب نهر الليطاني، كما رصده بعض الإعلاميين، وتزايد جرأته في استهداف مستوطني الاحتلال في الشمال، كما في عملية مجدّو في مارس/آذار 2023.
وعززت هذه المعطيات من فرضية انخراط الحزب المبكر في الاشتباك مع إسرائيل، مما قد يفرض واقعا ضاغطا على الاحتلال ويجبره على وقف الحرب وفقا لتوازن ردع جديد وظروف سياسية أفضل للطرفين الفلسطيني واللبناني.
وسعى القائد العام لكتائب القسام، محمد الضيف، إلى زيادة فرص تحقق هذا السيناريو من خلال الدعوة العلنية لمحور المقاومة وعموم الأمة العربية والإسلامية إلى اغتنام فرصة ارتباك الاحتلال صبيحة السابع من أكتوبر/تشرين الأول ومهاجمته بأقصى قوة يمكن أن تشكل تهديدا وجوديا له.
ولكن حجم عملية طوفان الأقصى فاجأ حزب الله، كما فاجأ غيره، ولم يكن سقف التصعيد الذي يريده يصل إلى هذا المستوى، مما دفعه إلى الاكتفاء بمساندة جزئية لجبهة غزة، لكي يتجنب حربا شاملة. ولكن ذلك لم يفلح أيضا؛ إذ عاد الاحتلال إلى تشديد الضغط عليه عقب إضعافه جبهة غزة -التي تمكن من التركيز عليها قرابة عام كامل- وتراجع فرص تحقيق أهداف سياسية تلبي مطالب حكومة الاحتلال المتطرفة بشأن القطاع.
وأما على صعيد الفعل الشعبي، فقد استفاد كل من الاحتلال والسلطة الفلسطينية والعديد من الأنظمة العربية من التجارب السابقة للحراك الشعبي، فأوجدوا بيئة معيقة للتأثير الشعبي، وطبقوا الدروس المستفادة بشكل حثيث قبل هذه الجولة وخلالها، وبرز ذلك في أمور منها:
- العمل القانوني والأمني الاستباقي.
- وامتصاص الغضب الشعبي من خلال خلق تفاؤل كاذب يدفع الشعوب إلى خانة المشاهدة بدلا من الفعل.
- وتشويه الوعي الشعبي من خلال إغراق وسائل الإعلام بالمعلومات الخطأ والأفكار المناهضة للمقاومة.
- وإثارة الانقسامات الاجتماعية وتخويف مكونات الشعب من بعضها.
- واستمالة الشعب أو بعض نخبه من خلال تقديم الحوافز أو الرشاوى الاقتصادية.
وأسهمت هذه التكتيكات بالفعل في تراجع مستوى الفعل الشعبي الرافض للعدوان الإسرائيلي والمتضامن مع قطاع غزة.
وبالإجمال، فقد كانت عملية طوفان الأقصى تمردا عنيفا على مساعي الاحتلال إلى تصفية القضية الفلسطينية والإدماج القسري للقطاع في منظومة متعايشة معه أمنيا واقتصاديا.
وفي حين نجحت العملية في تحويل اتجاه السياسة الإقليمية، وفرضت واقعا باهظ الكلفة على الاحتلال، فقد كانت الكلفة باهظة أيضا على أهل القطاع، بفعل مستوى التواطؤ الغربي مع دولة الاحتلال، وحالة العجز الرسمي والشعبي لعموم الدول العربية والإسلامية، وخصوصا المجاورة لفلسطين.
ولكن زوال أي احتلال لا يكون متوقعا من دون تعرضه لألم شديد، وهو ما يرد عليه عادة بمعاقبة الشعب الواقع تحت الاحتلال. وفي حين لا يمكن التنبؤ بالوقت الذي يمكن فيه للعمل المقاوم أن ينهي قدرة المحتل على البقاء، فإن استمرار هذا العمل هو الطريق الحتمي لإيصال الاحتلال إلى هذا الحال.