أي تحدٍّ خلقه الطوفان لإسرائيل؟.. تقييمات جنرالات الجيش
تمكن هجوم “حماس” في السابع من أكتوبر خلال ساعات معدودة من زعزعة المبادئ الثلاثة الأساسية من العقيدة العسكرية للجيش الإسرائيلي: وهي الإنذار والردع والدفاع. أما المبدأ الثالث، أي الحسم، فإنه يبدو حتى الآن صعب المنال على الرغم من الحرب الضارية التي يخوضها الجيش الإسرائيلي على جبهتي غزة ولبنان من دون تحقيق “النصر المطلق”، الهدف الذي وضعه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في بداية المعارك.
لقد أحدث هجوم 7 أكتوبر صدمة عميقة في الوعي الإسرائيلي، وأظهر أكبر إخفاق استخباراتي وعسكري وسياسي شهدته إسرائيل في تاريخها لا يرقى إليه حتى الإخفاق الذي عرفته إسرائيل في حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973. خلال ساعات طويلة من ذلك اليوم ظهرت دولة إسرائيل عاجزة عن الدفاع عن سكان غلاف غزة، وانهارت الدفاعات الإسرائيلية والتحصينات على السياج الحدودي مع غزة مثل حجارة الدومينو، وبدا الجيش الإسرائيلي أشبه بـ”نمر من ورق”.
اقرأ أيضا
list of 2 items
موجز تاريخ تجنيد الحريديم.. من التسوية إلى الحسم
ماذا يعني أن يصبح المحتل نازحًا.. تداعي المجتمع الإسرائيلي بعد الطوفان
end of list
كل ذلك أسهم في خلق شعور بالخطر المضخم وبأن إسرائيل تتعرض لخطر وجودي يهدد جوهر بقائها في المنطقة. انطلاقا من هذا الشعور المبالغ فيه بالخطر على الوجود، والمشاعر الانتقامية للنيل من العدو الذي تجرأ على تحديهم والذي يجب أن يدفع الثمن، خاضت إسرائيل حربها على قطاع غزة بهدف معلن، وهو القضاء على قدرات “حماس” العسكرية، وإطلاق سراح المخطوفين، والأهم استرجاع قدرة إسرائيل على الردع وترميم مكانتها بين دول المنطقة وأمام العالم.
الحرب على غزة التي أطلق عليها الإسرائيليون في البداية اسم حرب “السيوف الحديدية” إلى أن طلب نتنياهو تغيير الاسم إلى حرب “نهضة” إسرائيل، كانت منذ الأشهر الأولى لنشوبها موضوع تحليل ومراجعة عن قرب من طرف جنرالات إسرائيليين سابقين وخبراء وبحاثة، حاولوا بصورة خاصة درس تداعيات ما حدث في 7 أكتوبر على العقيدة العسكرية الإسرائيلية التي كانت سائدة حتى ذلك الوقت، وانتقدوا سيرورات الحرب والأهداف التي وُضعت لها وأداء القيادة السياسية خلال الحرب. وبرزت في هذه التحليلات بصورة خاصة الانتقادات الإسرائيلية عدم تحديد أهداف إستراتيجية للحرب، وتجنب القيادة السياسية في إسرائيل طرح رؤيتها للـ”اليوم التالي”، وعدم توضيح مسار للخروج من هذه الحرب.
يستعرض هذا المقال تداعيات حرب غزة على العقيدة العسكرية الإسرائيلية والتغييرات التي فرضتها على هذه العقيدة، كما يعرض أهم المراجعات النقدية للحرب ومساراتها ومآلاتها الصادرة عن مسؤولين عسكريين إسرائيليين سابقين أو مسؤولين سياسيين وخبراء وباحثين عسكريين نشرت في إسرائيل خلال الأشهر الأربعة عشر الماضية للحرب.
هل غيّر الطوفان عقيدة الأمن الإسرائيلية؟
من الواضح تماما أن هجوم “حماس” في 7 أكتوبر شكّل مفاجأة للقيادة العسكرية في إسرائيل التي كانت شبه متأكدة من أن “حماس” مرتدعة وليست بصدد شن مثل هذا الهجوم عليها، ولم تكن لدى هذه القيادة خطط عسكرية جاهزة للرد على هجوم بهذا الحجم، والدليل على ذلك تشكيك شخصيات بارزة في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية في “قدرة الجيش الإسرائيلي على القيام بعملية برية والدخول إلى غزة من أجل تدمير البنية العسكرية الكبيرة التي أقامتها حماس في غزة والضغط عليها من أجل إطلاق سراح المختطفين الإسرائيليين. وكان هناك من حذّر من الدخول البري ودعا إلى الاكتفاء بالهجمات الجوية أو بتوغلات برية محدودة. وهذا كان أيضا الموقف الأميركي”.
لكن سرعان ما حُسم الأمر وبعد أيام من القصف الجوي العنيف، اتُّخذ قرار الدخول برا إلى القطاع انطلاقا من اعتبار أساسي، وهو أن عدم الرد الشامل على هجوم 7 أكتوبر سيشجع “الأحلام الجهادية بالقضاء على إسرائيل في كل الشرق الأوسط، وسيحوّل حلقة النار التي أقامتها إيران حول إسرائيل إلى واقع سياسي إستراتيجي لا حدود له يمنع استمرار الحياة الطبيعية في إسرائيل. وأن قوة الردع الإسرائيلية كانت وستبقى الشرط الضروري لوجود إسرائيل في الشرق الأوسط”.
في رأي “عيدو عيخت”، الخبير في الشؤون العسكرية والمحاضر في جامعة بار إيلان والباحث في مركز بيغن-السادات للدراسات الإستراتيجية، أنه بعكس ما قيل فإن هجوم 7 أكتوبر لم يحدث نتيجة انهيار العقيدة العسكرية الإسرائيلية، بل بسبب سوء تطبيقها، وكتب: “الإخفاق الإستراتيجي للجيش في الحرب الحالية، سواء الإخفاق الدفاعي الكبير في 7 أكتوبر 2023 أو الإنجازات غير الكافية على الصعيد الإستراتيجي والسياسي للهجمات الإسرائيلية في غزة ومجموع الهجمات في جنوب لبنان، ليست كما يقال نتيجة انهيار عقيدة الأمن القومي القديمة في إسرائيل، بل هي نتيجة الفشل في تطبيق هذه العقيدة في مواجهة التهديدات الراهنة”.
ويتابع: “هذا الفشل ناجم عن قرار الجيش تقليص قدراته القديمة بحجة أن جزءا من التهديدات لم يعد موجودا ولا حاجة لوجود القدرات المطلوبة لمواجهتها، أو بحجة أن لدى الجيش الإسرائيلي قدرة جديدة (تكنولوجيات جديدة) تفوق القدرات القديمة وتشكل ردا أفضل على التهديدات. لكن اتضح مرة أخرى (كما في كل مرة جرت فيها محاولة إحداث تغيير جوهري في عقيدة الأمن القومي لإسرائيل) أن العقيدة التي وضعت في الخمسينات والناجمة عن ظروف تأسيس دولة إسرائيل لا تزال صحيحة حتى الآن. ربما الفوارق بين أيامنا هذه وبين فترة منتصف الخمسينات تتطلب تغييرات في طريقة التطبيق وفي درس المكونات المختلفة للعقيدة التي ما تزال تصلح للواقع الناشئ”.
“خلال العقود الثلاثة الأخيرة، نشأت فجوة بين التهديدات وبين طابع الحروب وبين فهم الجيش الإسرائيلي لطبيعة التهديدات والحروب التي من المتوقع أن تواجهها دولة إسرائيل، وذلك مع انتهاء عهد الحروب شديدة القوة والقتال النظامي وبروز ظاهرة الحروب الجديدة. ولقد ازدادت هذه الفجوة مع مرور السنوات وأدت إلى تغيير في أسلوب تطبيق مبادئ العقيدة العسكرية القديمة لإسرائيل، وفي أسلوب استخدام قوة الجيش وبناء قدراته. بعض هذه الأمور قام بها الجيش بصورة جيدة، وبعضها الآخر لم ينجح فيها. وفي الخلاصة، التغييرات التي أدخلت أثمرت عن النتيجة الإستراتيجية السيئة التي نواجهها اليوم، وإنجازات الجيش التي حققها ضد “حماس” وحزب الله لم تؤدِّ إلى النتيجة العسكرية المطلوبة بالنسبة إلى دولة إسرائيل”.
في دراسته الطويلة، يحاول هكيت أن يثبت أن مركزية مبدأ الردع لم يسقط ولا يوجد خيار بدلا منه، بل الذي يجب أن يتبدل هو زيادة اليقظة والتقليل من الغطرسة، وضرورة الأخذ في الاعتبار على الدوام قدرات الخصم وعدم التقليل من شأنها. كما يتطرق الباحث إلى إخفاق مبدأ الدفاع في 7 أكتوبر، مستعرضا الأسباب التي أدت إلى ذلك، ليخلص من هذا كله إلى القول إن المطلوب هو “إعادة بناء منظومة دفاعية مناطقية ضمن إطار المخطط القديم مع تعديلات تتلاءم مع أيامنا”.
عصر الحرب الطويلة
برزت خلال الحرب مواقف إسرائيلية أخرى رأت أن أحداث 7 أكتوبر أظهرت الحاجة إلى رؤية أمنية جديدة مختلفة عن العقيدة القديمة. هذا مثلا هو رأي غور لينش، الباحث في مركز بيغن-سادات للدراسات الإستراتيجية، الذي نشر دراسة تحدثت عن ظاهرة الحروب الطويلة، وردَ فيها: “حطّمت كارثة السابع من تشرين الأول/أكتوبر العديد من المعتقدات والمفاهيم السائدة في المجتمع الإسرائيلي. وفي الواقع، فإن الحرب التي تخوضها إسرائيل منذ ذلك الحين تختلف عن الحروب السابقة. لكن السؤال هنا هو: هل فشلت الرؤية الأمنية السائدة وباتت إسرائيل بحاجة إلى رؤية جديدة، أم أن الخطأ كان في تطبيق الرؤية الأمنية السائدة منذ بداية الحرب؟”.
ويتابع: “كان كلٌّ من بن غوريون وزئيف جابوتنسكي يؤمنان بأن جولات الحرب التي يتحطم فيها العدو على “الجدار الحديدي” ستجعل دول المنطقة، في نهاية المطاف، تتقبل وجود إسرائيل، وتغيّر إستراتيجيتها، وتختار طريق السلام، كما فعل السادات والملك حسين لاحقا. إن هذا الفهم القائل إنه لا يمكن فرض إنهاء النزاع بالقوة، أو ضمان تطوّر إسرائيل في أثناء الحرب المستمرة، وهو ما قاد بن غوريون إلى بلورة رؤيته الأمنية التي ظلت مطبّقة حتى السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023″.
“احتاجت الرؤية الأمنية لإسرائيل إلى حل مشكلة أساسية: فإسرائيل موجودة في منطقة معادية لا تقبل وجودها، لكنها لا تستطيع الاحتفاظ بجيش كبير في الحياة اليومية، وأن تواصل تطورها اقتصاديا واجتماعيا، في الوقت نفسه.
وقد تمثّل حل هذه المعضلة، حتى تشرين الأول/أكتوبر 2023، من خلال امتلاك جيش نظامي صغير يوفر حلولا للمشكلات الأمنية اليومية، ومحاولة تأجيل الحروب عن طريق ردع الأعداء عن تنفيذ مقاومتهم المبدئية، والاعتماد على جيش احتياطي كبير يتم تجنيده سريعا بناء على إنذار استخباراتي. وبما أن تجنيد الاحتياط يشلّ نشاط الاقتصاد الإسرائيلي، فإن الرؤية الأمنية كانت تفضل الحروب القصيرة”.
“هذه الرؤية كانت تفترض أن إسرائيل لا تستطيع فرض إنهاء النزاع بالقوة على الجانب الآخر، لأنها صغيرة جدا بالنسبة إلى العالمَين العربي والإسلامي. وهذه هي الركيزة الأولى للرؤية الأمنية. خلقت هذه المقاربة دينامية [الجولات القتالية].
كانت إسرائيل مضطرة إلى الانخراط في حرب كبيرة واحدة، مرة كل بضعة أعوام، لتضرب العدو عبر حرب قصيرة وشديدة ومباغتة، ومن ثم تكسب بضعة أعوام من الهدوء النسبي. لقد استغلت إسرائيل الهدوء والمكاسب التي حققتها في الحرب (الوقت، الأراضي، الردع، الاستقرار الإستراتيجي)، لتتحول من دولة صغيرة وفتية إلى قوة إقليمية عسكرية واقتصادية. لم تكن هذه الفترات الممتدة ما بين الجولات الحربية (أي حالة الروتين الأمني) هادئة أمنيا، ففي الواقع، منذ تأسيس دولة إسرائيل، لم يمر شهر من دون حدث أمني في إحدى جبهات النزاع. هذا الروتين هو الاسم المعتاد للوضع الأمني الإسرائيلي، هو روتين المواجهة المحدودة”.
“وعلى مدار تاريخها القصير، لم تتمكن إسرائيل قط من القضاء على أي تهديد أمني. بعد 10 أيام على الانتصار الكبير في حرب الأيام الستة وانهيار الجيش المصري، جددت مصر إطلاق النار. وحتى النجاحات الإستراتيجية، على غرار “طرد” منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان بعد حرب لبنان، لم تؤد إلى اختفاء العداء الفلسطيني من لبنان، ولم تقضِ على تطور وتعزيز قوة حزب الله. وحتى عملية الدرع الواقي (اجتياح مناطق السلطة الفلسطينية بعد الانتفاضة الثانية)، واستبدال عرفات بأبي مازن الذي تحول عن سياسة دعم [الإرهاب]، لم تقضِ على [الإرهاب] الفلسطيني. وحتى اليوم، يجد الجيش الإسرائيلي نفسه مضطرا إلى تنفيذ عمليات، تقريبا كل ليلة، لمحاربة [الإرهاب] الفلسطيني في الضفة الغربية”.
“لقد استغلت إسرائيل [فترات الروتين] هذه جيدا، وتحولت من دولة صغيرة وضعيفة وفقيرة إلى قوة إقليمية من جميع النواحي. فإلى جانب تعاظمها الاقتصادي، تعززت إسرائيل عسكريا، وضربت أعداءها مرارا وتكرارا، وهو ما جعل بعضهم يضعف ويتغير. لكن، وكما كان متوقعا، لم تتمكن إسرائيل من فرض إنهاء النزاع على أعدائها، وكما قال بن غوريون: [إننا لن نعيش المعركة الأخيرة]”.
ويتابع: “قد يعتقد البعض في أنه إذا كان مقدَّرا لإسرائيل الدخول في حرب كبيرة كل فترة فإن كل النشاط الأمني والسياسي في فترة الروتين لا طائل منه ولا يأتي بنتائج، لأن النتيجة ستكون دائما الدخول في حرب. لكن الأمن اليومي، الدفاعي والهجومي، يمكن أن يؤجل الحرب، ويحافظ على مستوى مقبول من العنف في فترة الروتين. لماذا تسمح إسرائيل للطرف الآخر بالتسلح أكثر مما يمكن أن يُفترض أنه مريح لها؟ لماذا لا تعمل قبل أن يتسلح الطرف الآخر؟
الإجابة واضحة، إسرائيل تستغل فترات الروتين للتطور والنمو. صحيح أن الحروب المتكررة كثيرا قد تعيق أعداءها عن التطور، لكنها كانت ستدمر الإستراتيجيا الإسرائيلية المبنية على فترات الروتين. إن هذا [الإدمان على الهدوء]، حسبما يسميه أحيانا معارضو الرؤية الأمنية البن-غوريونية، ليس علامة ضعف، بل هو تطبيق للرؤية الأمنية”.
ويعرض الباحث أهمية مبدأ الردع في النظرية الأمنية الإسرائيلية، فكتب: “إذا لم تستطع إسرائيل الاحتفاظ بجيشها كله مجندا وناشطا، وتعيّن عليها الاكتفاء بنواة صغيرة نظامية، فما الذي يمنع أعداءها من مهاجمتها ذات يوم في ظل عدم تجنيد الاحتياط؟ ولماذا لم نشهد، عبر تاريخنا، هجمات كهجمة السابع من تشرين الأول/أكتوبر كل يوم؟ هنا يجب علينا الحديث عن الردع.
عادة يكون أعداء إسرائيل مردوعين عن شن حرب جديدة ضدها لأنها أثبتت لهم أنها أقوى منهم وأن الحرب ستتسبب بأذى لا يقدرون على تحمله. فالردع يُبعد الحروب ويحافظ على مستوى مقبول من العنف في فترة الروتين، لكنه لا يقي من الحرب إلى الأبد ولا يمنع العنف في فترات الروتين. تحاول إسرائيل المحافظة على الردع على الرغم من علمها أن الحرب ستندلع في نهاية المطاف. وهي تستمر في جهود الدفاع… وفي العمل الاستخباراتي”.
في رأي الباحث أن الحرب على غزة خرجت عن العقيدة الأمنية العسكرية لإسرائيل بشأن خوض حروب قصير، وأنها تدخل ضمن إطار “ظاهرة الحرب الطويلة” التي تتطلب إعداد الجيش الإسرائيلي والتزود بالسلاح وإعداد الجنود لحرب تستمر أعواما.
ويقدم دليلا على ذلك أنه لو جرى خوض “حرب السيوف الحديدية وفقا للرؤية الأمنية القديمة، لطبق الجيش الإستراتيجيا التالية من خلال توجيه ضربة قوية إلى حماس، من دون أن يوجه ضربة إلى جميع أراضي القطاع وينشئ منطقة عازلة في شمال غزة ستصبح لاحقا نواة لإقامة حكم بديل. ولكانت إسرائيل توصلت بسرعة إلى اتفاق لتبادل الأسرى”.
لكن الكاتب يعارض نظرية “الحرب الطويلة الأمد”، ويرى أنها “لا تشكل حلا لمشكلات إسرائيل ولن تمكننا من التوصل إلى النصر المطلق، لكن يمكن أن توصلنا إلى إخفاق تام إذا بقينا نطارد النصر المطلق وقتا أطول من اللازم من دون أن نفكر في حدود قوتنا واقتصادنا ومجتمعنا”.
مشكلة الحرب الطويلة
ينتقد عاموس يادلين، اللواء في الاحتياط والذي شغل منصب رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، مفهوم الحرب الطويلة التي تخوضها إسرائيل في حربها على غزة، ويقول: “لقد أضحت إسرائيل غارقة بالفعل في حرب استنزاف تتعارض مع نقاط قوتها الأساسية، أي توجيه ضربة ساحقة، وهي تكشف عن نقاط ضعفها، أي مسألة طول النفس، لذا علينا العودة إلى المفهوم الأمني المتمثل بالحروب القصيرة في داخل أراضي العدو، والعودة إلى بناء الدولة والاقتصاد والمشروع الصهيوني عموما.
إنها إستراتيجيا إخراج الخصوم من الصورة وإزالة التهديدات التي يفرضونها علينا بالتدريج…، في نهاية المطاف نحن على حافة التدهور إلى حرب إقليمية متعددة الجبهات، وفي مواجهة مجموعة من التهديدات التي لم نواجه مثلها من قبل، وفي ظل الانزلاق إلى حرب شاملة هي حلم السنوار الذي سعى من خلال المواجهات في غزة إلى إشعال جميع الجبهات وتوحيدها من خلال قتال عالي الكثافة، وهذه هي الإستراتيجية الإيرانية التي أقامت حلقة من النار حول إسرائيل إلى أن تنهار من الداخل. وعلى إسرائيل أن تعمل بناء على إستراتيجيا تتماشى مع مفهوم أمنها القومي: حروب قصيرة وانتصار في كل معركة بدعم من القوى العظمى وتحالف إقليمي يشكل وزنا مضادا للمحور المتطرف”.
خطة الجنرالات: المفقود في رؤية الحرب
برز اسم اللواء في الاحتياط “غيوا آيلند”، وهو الذي شغل سابقا العديد من المناصب العسكرية وكان رئيسا لمجلس الأمن القومي، جراء الخطة التي اقترحها منذ بداية الحرب على غزة والتي عرفت لاحقا بـ”خطة الجنرالات”، وهي خطة أثارت جدلا كبيرا وسط إسرائيل. في رأي آيلند أن الحرب على “حماس” يجب ألا تقتصر على الجانب العسكري، بل يجب إدخال العنصر الأهم في حروب اليوم، وهو السكان، وكتب: “تبنت إسرائيل ثلاثة قرارات إستراتيجية خاطئة، تمثل الخطأ الأول في تبني السردية التي تقول إننا نحارب في غزة تنظيما [إرهابيا]، ما حدث هو أن دولة غزة التي تأسست في 2007 شنت حربا ضد دولة إسرائيل. وفي الحرب بين الدول يجب استخدام التفوق النسبي على العدو، وتفوقنا لا يتمثل في الجانب العسكري، بل في القدرة على خنق الطرف الآخر اقتصاديا”.
وتابع: “يتمثل الخطأ الثاني في تبني شعار [الضغط العسكري فقط]، وهذه الفكرة لا تدرك طبيعة الحروب في القرن الواحد والعشرين، لأن العنصر الأهم في حروب اليوم هو السكان…، أما الخطأ الثالث فهو عندما سأل بايدن نتنياهو عن اليوم التالي للحرب كرر نتنياهو الخطأ الذي ارتكبه كل واحد من هؤلاء، بيغن وشامير ورابين وباراك وشارون، بطرق مختلفة، وهو أن مشكلة الفلسطينيين هي مشكلتنا ونحن من يحلها”.
ويخلص إلى الفكرة الأساسية: “أحد الخيارات الذي كان يجب تنفيذه منذ 10 أشهر هو السيطرة الكاملة على شمال القطاع. يجب على إسرائيل أن تعلن لـ300 ألف من السكان الذين ما يزالون في هذه المنطقة عليهم الانتقال جنوبا خلال أسبوع، ومن بعدها وقف دخول الإمدادات إلى المنطقة، بحيث يكون أمام 5,000 مقاتل من حماس 3 خيارات: الاستسلام، أو الموت جوعا، أو استغلال الممرات المخصصة لخروج المدنيين للهرب. وخلال بضعة أشهر لن يبقى عدو هناك”.
الحرب الاستباقية
بعد مرور 9 أشهر على الحرب على غزة، تحدث ميليشتاين، وهو مستشرق سبق أن شغل مناصب في شعبة الاستخبارات العسكرية، ويعتبر خبيرا في الموضوع الفلسطيني؛ عن رؤيته لهذه الحرب التي اعتبرها مختلفة عن غيرها ووصفها بأنها “مواجهة بين إسرائيل والمعسكر الإقليمي الذي يرفع شعار المقاومة. وأطراف هذا المعسكر هم وراء الصراعات التي تخوضها إسرائيل في النصف القرن الأخير.
وهي تختلف عن الحروب التي خاضتها إسرائيل في الماضي ضد جيوش ودول. وتعتمد عقيدة المقاومة على عدد من الأسس، فهي بقيادة تنظيمات غير دولاتية، وتؤمن برؤية إسلامية متطرفة، وتخوض حرب عصابات ومواجهة غير متناظرة، عبارة عن حروب قصيرة من غير حسم، وهي حروب تثير عموما مشكلات أخلاقية وضغطا دوليا، ويمكن أن تتطور إلى حرب استنزاف تهدف إلى إيقاع خسائر ومنع الحياة المستقرة في إسرائيل”. ويخلص إلى القول: “الطابع الخاص للمعركة الحالية يفرض التوصل إلى استنتاجات جزء منها صعب، وهي:
- العقيدة الحالية لم تؤد إلى تقويض حماس أو تحرير المخطوفين، وتثبت أن علينا الآن الاختيار بين احتلال غزة كلها، الأمر غير الممكن، أو تحرير المخطوفين.
- استيعاب الدروس يفرض علينا التخلي عن النظرية التي استندت إليها إسرائيل في العقود الأخيرة، وفي طليعتها السلام الاقتصادي ومفهوم [المعركة بين الحروب]، واستبدالها بضربات استباقية واسعة النطاق خصوصا ضد حماس.
- في الموضوع الفلسطيني الذي امتنعت إسرائيل عن اتخاذ قرار بشأنه في بداية الحرب، المطلوب كيفية الفصل بين الشعبين بصورة أحادية، ومنع نشوء تهديد وجودي ناجم عن استقلال فلسطيني”.
معضلة اليوم التالي
من أبرز الانتقادات الإسرائيلية التي وُجهت إلى الحكومة الإسرائيلية في إدارتها للحرب أنها لم تحدد الأهداف الإستراتيجية لها، وتأجيلها الحديث عن رؤيتها “لليوم التالي” في غزة، وأنها اكتفت بوضع الأهداف التالية للمعركة بالتدرج من حيث الأهمية: تدمير القدرة العسكرية لـ”حماس”، وتحقيق النصر المطلق، وإعادة المخطوفين، ثم أضافت الحكومة الإسرائيلية لاحقا هدفا آخر وهو تحقيق العودة الآمنة لسكان مستوطنات الشمال في إسرائيل كهدف لتوسع الحرب ضد حزب الله في لبنان.
ورأى أكثر من محلل أن الحكومة اكتفت بوضع أهداف تكتيكية للجيش ولم توظف الإنجازات العسكرية التي حققها الجيش الإسرائيلي من أجل تحقيق أهداف إستراتيجية بعيدة الأمد أو وضع تصور لعملية سياسية يمكن أن ترسم أفق “اليوم التالي” للحرب سواء في قطاع غزة أو في جنوب لبنان.
من بين التحليلات الإسرائيلية التي تطرقت إلى هذه المسألة برز مقال كتبه كل من يائير غولان، الذي شغل سابقا منصب نائب رئيس هيئة الأركان العامة وحاليا هو زعيم حزب “الديمقراطيون” (الاسم الجديد لحزب العمل الإسرائيلي)، وتشاك فرايليخ، النائب السابق لمستشار الأمن القومي، ومما جاء فيه: “تواجه إسرائيل صراعا متعدد الجبهات، ويتعين عليها بلورة إستراتيجيا شاملة لليوم التالي التي يجب أن تتضمن أهدافا سياسية تستند إلى الإنجازات العسكرية.
ومن دون هذه الإستراتيجيا الشاملة التي تشمل رؤية سياسية وآليات لإنهاء النزاع فإن إسرائيل ستغرق في احتلال طويل الأمد في غزة ولبنان”، وتابعا: “قد يكون حل الدولتين هو الضحية الأساسية لأحداث 7 أكتوبر. كما عززت الحرب التوجهات الشعبوية والاعتماد على القوة العسكرية بمعزل عن رؤية سياسية طويلة الأمد. إن ضم أرض يقطنها ملايين الفلسطينيين من دون عملية منظمة في صنع القرار يمثل الخطر الوجودي الأكبر على إسرائيل. في مثل هذه الحالة فإن الحل الوحيد المتاح هو الانفصال المدني بما يشمل ترسيم الحدود المستقبلية لإسرائيل مع الحفاظ على حرية العمل العسكري للجيش في جميع المناطق.
وهناك خيار كونفدرالية أردنية-فلسطينية بحيث تشكل أغلبية مناطق الضفة المكون الفلسطيني في الكونفدرالية، ويجب القيام بذلك من دون تهديد استقرار الأردن”، ويخلصان إلى القول: “وحده التقدم في المسار الفلسطيني سيمنع تفاقم عزلة إسرائيل ونزع الشرعية عنها وحتى فرض العقوبات. إن القيود المفروضة على تصدير السلاح إلى إسرائيل من بريطانيا وألمانيا واعتراف إسبانيا ودول أخرى بالدولة الفلسطينية يمكن أن يتحول إلى سيل من التحركات المناهضة لإسرائيل ويشمل حظرا رسميا على السلاح والتجارة، ويمكن أن يمنع تقدم إسرائيل وازدهارها”.
السياسة لم تقطف بعد
من بين الأصوات المنتقدة لاستمرار الحرب والداعية إلى حل سياسي، برز صوت اللواء في الاحتياط إسحاق بريك، الذي شغل عدة مناصب عسكرية وعمل لسنوات قائدا للكليات العسكرية وكان مسؤولا عن استقبال الجنود، وكان أول من تنبأ بالإخفاق العسكري في 7 أكتوبر وحذّر طوال سنوات من مغبة إهمال تطوير سلاح المشاة وتقليص فرقه. ولقد لُقب بـ”نبي الغضب” لمواقفه الحادة ضد القيادة السياسية والعسكرية للحرب، وطالب أكثر من مرة باستقالتهم، ومؤخرا كتب: “بسبب حرب السيوف الحديدية المستمرة منذ عام، والتي لا تبدو نهايتها في الأفق، بتنا نخسر دعم دول العالم. والعديد من هذه الدول ترى أن إسرائيل تجاوزت الخطوط الحمر وارتكبت جرائم حرب.
يتجلى هذا في فرض العقوبات الاقتصادية وفرض حظر على شحنات الأسلحة حتى من دول صديقة لنا، وهناك وصمة رهيبة تضعها علينا محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، وتتحول دولة إسرائيل بالتدريج إلى دولة منبوذة”. كما حذر بريك من تداعيات استمرار الحرب على الداخل الإسرائيلي: “أدت حرب الاستنزاف إلى خلق استقطاب فظيع في داخل المجتمع الإسرائيلي، حيث تستعر الكراهية العمياء بين القطاعات المختلفة، وتنعدم الثقة بينها، وهناك أحاديث عن تمرد مدني وخيانة للوطن، وانقسام الشعب بين [دولة إسرائيل] و[دولة يهودا]…، وهذه الشروخ آخذة في الاتساع في صفوف المجتمع الإسرائيلي، وقد تؤدي إلى انهيار دولتنا…، يجب أن نقرع أجراس الإنذار، وعلى كل عاقل أن يفهم إذا استمرت حرب الاستنزاف وواصلت نحو عامها الثاني فإن دولتنا على وشك الانهيار القريب”.
ومن المواقف النقدية المهمة تلك الموجهة إلى الإدارة السياسية للحرب، هو الحديث عن “فشل سياسي”. وبحسب عوفر شيلح، عضو كنيست سابق، وحاليا باحث في معهد دراسات الأمن القومي؛ “الفشل السياسي يظهر من خلال الرفض القاطع لوضع الحرب برمتها في إطار مواجهة إقليمية في مقابل محور المقاومة الإيراني، والتي لا يمكن تحقيق الانتصار فيها إلا في إطار الشراكة مع دول المنطقة بقيادة الولايات المتحدة وبمشاركة السلطة الفلسطينية. هذا الرفض لن يمنعنا من تحقيق أهداف القتال في لبنان، بل سيجرنا حتما إلى معركة كبيرة في لبنان، ستكون نتائجها هدامة، وستكون إسرائيل وحدها في مواجهة المحور، وببساطة لن تستطيع تحقيق الانتصار”.
ويقترح عوفر عددا من الخطوات للخروج من الوحل، من بينها “صفقة تحرير رهائن تتضمن وقفا للقتال وتحرير الرهائن ووقف لإطلاق النار لعدة أشهر، إذا لم يتحقق ذلك العمل على وضع خطوط دفاعية في داخل القطاع وإقامة الإطار الأمني لليوم التالي، العمل مع الولايات المتحدة والشركاء في المنطقة لبناء تحالف وازن ضد محور المقاومة الذي تقوده إيران، الذهاب نحو انتخابات إسرائيلية والبدء بمسار ترميم الاقتصاد والمجتمع ومكانتنا الدولية”.
يقظة اليمين المسياني
من أهم النتائج لعدم وضع أهداف سياسية للحرب أنها أيقظت أوهام اليمين المتطرف الإسرائيلي المسياني لتحقيق أحلامهم بضم الضفة الغربية بالإضافة إلى احتلال غزة والاستيطان فيها. عن مخاطر مشاريع اليمين المتطرف، كتب إيهود أولمرت، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، محذرا: “إن الهدف الأهم للثنائي بن غفير وبتسلئيل سموتريتش ليس احتلال قطاع غزة والاستيطان هناك، بل هناك هدف أعلى للمجموعة المسيانية المهووسة التي سيطرت على الحكم في دولة إسرائيل بحيث تكون غزة هي المقدمة والنموذج الذي تريد هذه المجموعة أن تبني عليه المعركة الحقيقية التي يتطلعون إليها، المعركة على الضفة الغربية وحرم المسجد الأقصى، بينما الهدف النهائي لهذه المجموعة تطهير الضفة الغربية من سكانها الفلسطينيين، وإخلاء المسجد الأقصى من المصلين المسلمين، وضم المناطق إلى دولة إسرائيل”.
ويتابع: “مجموعة المجانين هذه نجحت في الانتصار في المرحلة الأولى تحضيرا للفوضى والحرب الشاملة التي يريدونها، ولقد سيطروا على حكومة إسرائيل وحولوا رئيسها خادما لهم. واحتمال أن يسقطوا الحكومة وطرد رئيسها ليست فكرة مجنونة، وهذا يحدث الآن مرحلة تلو مرحلة.
لقد قرر بن غفير وسموتريتش التضحية بالمخطوفين لمنع نهاية ناجحة للحملة العسكرية التي حققت حتى الآن أهدافا لافتة حتى لو كان الثمن كبيرا. ومن الواضح أننا بعيدون عن [النصر المطلق]”. وبعد أن يستعرض أولمرت مخاطر استمرار الحرب على العلاقات مع مصر ومع الأردن وحتى مع الولايات المتحدة، يحمل أولمرت نتنياهو المسؤولية عن عواقب خضوعه المطلق للمجموعة المجنونة التي تسيطر حاليا على الحكومة، ويحذره من أن هذا سينتهي بسفك دماء كثيرة.
المزاج الشعبي عسكري أيضا
يتضح من كل ما سبق أن الحرب الإسرائيلية على غزة حرب مختلفة عن كل الحروب الإسرائيلية السابقة، سواء من حيث الزمن الذي استغرقته أم الأهداف المعلنة الموضوعة لها، وتكشف أهدافا ضمنية أكثر خطورة بكثير على مستقبل الوجود الفلسطيني في القطاع وفي الضفة وعلى مصير النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، في وقت يبدو أن هناك رغبة إسرائيلية في فرض وقائع جديدة على أرض القطاع، من خلال القتل المنهجي والتدمير وسياسة التجويع والحصار، سيكون لها تداعيات كبيرة على مصير الشعب الفلسطيني كله.
ولقد أظهرت هذه الحرب التغيرات التي طرأت على العقيدة الأمنية في إسرائيل، والمشكلات التي تواجهها الخطة العسكرية للجيش الإسرائيلي في غزة التي تفتقر إلى سياسة للخروج من هذه الحرب، ورؤية واضحة لليوم التالي.
وربما الأهم في هذه الحرب أنها كشفت أيضا المزاج الشعبي عموما المتماهي مع أفكار اليمين، والذي يصدق السردية الرسمية بأن إسرائيل تخوض حربا وجودية وأنه لا مدنيين في غزة، المملوء بروح الكراهية والرغبة في الانتقام. ويتغذى ذلك من خلال “آلة السموم” التي تديرها أوساط نتنياهو ضد خصومه وقدرته على التلاعب بالحقائق، وتسخير كل الوسائل بما فيها الاستمرار في الحرب من أجل الدفاع عن بقائه السياسي.
هذا الجزء من الرأي العام يقف ضد تيار آخر يعتبر أن الحرب قد أصبحت عبثية وأن الحكومة الإسرائيلية تخلت عن المخطوفين تحت شعار “النصر المطلق” وأن استمرار الحرب في غزة من دون أفق يخدم مصالح سياسية ضيقة لرئيس الحكومة نتنياهو على حساب المصلحة الوطنية، ناهيك بالأعباء الكبيرة لهذه الحرب الطويلة بالنسبة للجنود في سلاح الاحتياطيين، وتزايد الدعوات إلى التساوي في تحمل عبء القتال من خلال تجنيد المتدينين من الإسرائيليين الحريديم.