هل الجيش الروسي جاهز لحرب عالمية ثالثة في 2025؟
مع بداية العام الماضي، خرج الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قبيل فوزه في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري بولاية نيو هامبشاير يوم 22 يناير/كانون الثاني 2024، قائلًا في بيانٍ حاد اللهجة، إن بإمكانه إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، محذرًا من أن العالم يقف اليوم على حافة الحرب العالمية الثالثة، وهو الوحيد الذي بإمكانه تحقيق السلام.
لم يكن تصريح ترامب عن حرب عالمية وشيكة استثناءً، فقد صرح وزير الدفاع البريطاني حينها غرانت شابس هو الآخر قائلًا إننا انتقلنا من “عالم ما بعد الحرب العالمية” إلى “عالم ما قبل الحرب”، وهو ما أكدت عليه صحيفة “تليغراف” البريطانية في تقرير يشير إلى أن الجيش الروسي يتجهز لصراع قادم، بل ودعا التقرير إلى ضرورة إعادة تسليح الجيوش الأوروبية وعدم الاعتماد الكامل على قوة الولايات المتحدة، لأنها إن أدارت ظهرها، ستكون أوروبا قد خسرت بالفعل حربها القادمة قبل أن تدخلها.
اقرأ أيضا
list of 2 items
هل تقبل بكين أن تعوّض خسائر الغاز الروسي؟
ترامب لن يدمر النظام العالمي.. لأنه ميت بالفعل!
end of list
تزامنت هذه التصريحات مع أخبار أوردتها صحيفة “بيلد” الألمانية العام الماضي عن سيناريو تُعِد له روسيا حاليًا لشن حرب شاملة ضد أوروبا ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو) بحلول عام 2025، وذلك وفقًا لوثيقة سرية مسربة -بحسب الصحيفة- من وزارة الدفاع الألمانية، وهو السيناريو الذي تداولته بعض الصحف في أوروبا والولايات المتحدة مؤكدة على نية روسيا توسيع نطاق الحرب الأوكرانية.
نفت موسكو ما تردد في الصحف الألمانية، وشكك المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف فيما إذا كانت الوثائق التي استخدمتها الصحيفة صادرة بالفعل عن مقر القيادة العليا لحلف الناتو في أوروبا. كما زعم البعض أن ما نشرته الصحيفة الألمانية لا يتجاوز كونه نتاج عمل مركز مستقل قدم آراءه للجهات المختصة الألمانية. رغم ذلك، ما زالت الصحف العالمية تتداول أخبارًا عن نية موسكو مهاجمة إحدى دول الناتو في غضون 5 سنوات.
هل تخطط روسيا لحرب طويلة الأمد؟
بعدما أنهكتها الحرب المستمرة منذ أكثر من عامين، تزايدت المخاوف الغربية من أن تخسر أوكرانيا حربها أمام روسيا، خاصة بعد انسحاب الجيش الأوكراني من مدينة أفدييفكا، في خطوة اعتبرتها بعض المصادر انتصارًا رمزيًا لروسيا التي عملت على تقوية شوكتها وتثبيت أقدامها في الأرض. وفي برنامج عُرض على قناة “دويتشه فيله” الألمانية، أشار المحللون السياسيون إلى أن هناك استعدادًا غربيًا لحربٍ كبرى قد يؤججها الانتصار الروسي في أوكرانيا، خوفًا من أن تتبع روسيا ذلك بالهجوم على واحدة من دول الناتو، الأمر الذي استدعى من الحلف أن يبدأ أكبر حركة مناورات عسكرية منذ الحرب الباردة تحت اسم “المدافع الصامد”، وهي المناورة التي من المقرر أن يشارك فيها 90 ألف جندي من 31 دولة، للتدرب لمدة أربعة أشهر على أسوأ سيناريو يمكن للعالم أن يواجهه، وهو “الحرب الشاملة”.
بحسب الخبراء، هناك حالة من العسكرة تجتاح دول الغرب، وذلك عقب تقرير نشرته “مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي” يشير إلى أن روسيا لأول مرة في تاريخها الحديث، قررت زيادة ميزانية الإنفاق الدفاعي لعام 2024 لتصل إلى 6% من الناتج المحلي الإجمالي، الأمر الذي فسره التقرير بالعلامة الواضحة على أن روسيا لا تنوي إنهاء الحرب مع أوكرانيا في وقتٍ قريب، بل على العكس من ذلك هناك تخطيط روسي لحرب طويلة الأمد قد تنضم إليها أطراف أخرى، وهو ما استدل عليه التقرير من كون الإنفاق الدفاعي الروسي للعام الماضي يفوق مقدار الإنفاق الاجتماعي، مما يعني إعطاء الأولوية الكبرى للحرب الروسية الأوكرانية، وإذا ما قلت حدة الصراع، فستذهب الميزانية -بحسبهم- نحو تجديد الترسانة العسكرية الروسية وإنتاج المعدات الجديدة.
في هذا السياق، صرح الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، أن روسيا تُعِد اقتصادها لحرب طويلة، وهو ما يستدعي من الحلف تجهيز نفسه لصراع قد يستمر عقودا من الزمن، وقال إنه في حال فوز روسيا في حرب أوكرانيا، فليس هناك ما يضمن أن الصراع لن يمتد إلى دول أخرى. وأضاف أن دعم أوكرانيا والاستثمار في تعزيز القدرات العسكرية للحلف هما أفضل الأدوات الدفاعية ضد روسيا.
نفس الأمر أكد عليه وزير الدفاع الدنماركي، ترولز لوند بولسن، في تصريحاته الأخيرة التي قال فيها إنه يتعين على الدنمارك تسريع استثماراتها العسكرية، خاصة أن المعلومات الاستخباراتية كلها تشير إلى أن روسيا تعمل على قدم وساق لإعادة تسليح جيشها بوتيرة متسارعة، الأمر الذي يجعلنا لا نستبعد أن تبادر روسيا بمهاجمة إحدى دول الناتو خلال فترة تتراوح بين ثلاث إلى خمس سنوات، بحسبه.
ورغم إنكار الكرملين نية روسيا الدخول في حرب شاملة، يبدو أن دول الناتو بدأت بالفعل التجهيز لصراعٍ عالمي وشيك، ففي مؤتمر صحفي عقد يوم 14 فبراير/شباط الماضي، أعلن ستولتنبرغ أن ميزانية الدفاع لدول الحلف لعام 2024 ستصل إلى 380 مليار دولار، وأنه يتوقع في العام نفسه أن تلتزم 18 من الدول الأعضاء بإنفاق ما لا يقل عن 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، وهي النسبة التي اتفق رؤساء دول وحكومات الناتو على تخصيصها للإنفاق الدفاعي في العام 2014، وذلك ردًا على ضم روسيا شبه جزيرة القرم، ونظرًا لحالة عدم الاستقرار المحتدمة في منطقة الشرق الأوسط. وبالفعل شهد الإنفاق الدفاعي لحلف الناتو ارتفاعًا غير مسبوق في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، إذ زاد في العام 2023 وحده بنسبة 11%.
يعتبر البعض فوز روسيا في الحرب على أوكرانيا أمرًا كارثيًا، ومنهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي صرح بأن انتصار روسيا في تلك الحرب يعني “انعدام الأمن في أوروبا”، فهم يعتبرون ذلك خطوة أولى في طريق تكوين “إمبراطورية روسية كبرى”، إذا استوعبت أوكرانيا داخل حدودها، فلن يستطيع أحد الوقوف في وجه المد الروسي تجاه دول الناتو، وهو السيناريو الأسوأ الذي يخشاه الحلف.
على عكس هذه الحيطة الغربية، أنكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نية بلاده مهاجمة بولندا أو توسيع نطاق الحرب الأوكرانية كما يزعم البعض، وذلك في حوارٍ له مع الصحفي الأميركي تاكر كارلسون، إذ أشار بوتين إلى أن نشوب أي حرب شاملة ليس من الحكمة والتفكير السليم، ويرى أن الغرب يحاول التلويح بورقة “التهديد الروسي” لتخويف شعوبهم تارة، وجمع الأموال تارة أخرى من دافعي الضرائب لتمويل الحرب الأوكرانية.
في الوقت ذاته، ألقى الرئيس الروسي باللوم على الدول الغربية قائلًا إن تحركاتها هي التي تدفع الإنسانية إلى حافة صراع عالمي، خاصةً بعدما أرسلت الولايات المتحدة وبولندا وجورجيا جنودها للمحاربة كمرتزقة على الجبهة الأوكرانية. وقد برر بوتين حربه على أوكرانيا بكونها ردعا لما تواجهه روسيا من تهديد استراتيجي، بعدما توسعت القواعد العسكرية لحلف الناتو إلى الشرق بشكل كبير في العقود الفائتة، الأمر الذي يجعل من انضمام أوكرانيا إلى الحلف -وفقًا له- تصعيدًا خطيرًا من قبل الغرب، لأنه يعني إضافة قاعدة عسكرية جديدة على الحدود الروسية، وهو أمر لطالما اعترض الاتحاد الروسي عليه، وهو الوضع الذي حفز ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 ومن ثم شن الهجوم على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022.
الجدير بالذكر، أن هناك خلافا مفاهيميا حول ما يمكن أن نطلق عليه “حربًا عالمية”، إلا أنها في كل الأحوال تتضمن صراعا مسلحا بين كتلتين من القوى العظمى في العالم بهدف الهيمنة، وعادة ما يجري ذلك في أكثر من مسرح للمعارك. وبالرغم مما يجري الترويج له إعلاميًا، من أننا نشهد حاليًا ما يمكن أن نطلق عليه “إرهاصات الحرب العالمية الثالثة”، يرى بعض المؤرخين، مثل الأستاذ الفخري بجامعة “ييل” الأميركية ومدير أبحاث السياسات الخارجية في معهد بروكينغز، جاي وينتر، أنها مجرد لغة مبالغة إعلامية لا يمكن للواقع استيعابها، وهو ما أكد عليه تقرير مجلة “تايم” الأميركية الذي أشار إلى أن الساسة يستخدمون مثل هذه اللغة من أجل اللعب بمشاعر الجماهير.
ووفقًا لرأي الخبراء، فإن التوترات بين الولايات المتحدة والصين ووجود أكثر من ساحة حرب مفتوحة في أوكرانيا وغزة، لا ترقى إلى مستوى حرب عالمية جديدة، إذ جاي وينتر، لا يوجد ما يكفي من الترابط بين الصراعات الجارية على الأرض في الوقت الراهن ليثير هذا النوع من القلق.
“سوخوي” وسباق الهيمنة على السماء
لكنْ هل حقًا تجهز روسيا نفسها لحرب عالمية ثالثة؟ من واقع تحليل بسيط للتطوير القائم في جميع الجوانب الخاصة بالجيش الروسي، نرى أن هذا ممكن لا شك، لم لا وقد أصدر موقع “غلوبال فاير باور” تقريره السنوي للتصنيف العالمي لجيوش 145 دولة مؤخرا، وفيه احتلت روسيا المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة مباشرة، وذلك رغم العقوبات الغربية المفروضة عليها، ودخول حربها مع أوكرانيا عامها الثالث.
وتأتي الصين بعد روسيا في المرتبة الثالثة ومن بعدها الهند. ووفقًا لما جاء في التقرير، تمتلك القوة الجوية الروسية ما مجموعه 4255 طائرة، لتحتل بفارق كبير المركز الثاني بعد الولايات المتحدة التي تمتلك 13209 طائرات. وفيما يخص الطائرات المقاتلة، تمتلك روسيا 809 مقاتلات، بفارق كبير أيضًا لصالح الولايات المتحدة التي تمتلك ما يصل إلى 1854 مقاتلة.
رغم ذلك، تسعى روسيا بوتيرة متسارعة لمواكبة ما يشهده العالم من تقدم في التكنولوجيا العسكرية وإستراتيجيات الحروب، وهو أمر نستطيع أن نلحظه في تصميمات المقاتلات الروسية الحديثة. في عام 2021 وبحضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، جرى الكشف عن مقاتلة شبحية جديدة من مقاتلات الجيل الخامس، وذلك في معرض “ماكس” الجوي بموسكو، وهي “سو-75،التي يُفترض أن نشهد قريبًا اختبارات الطيران الخاصة بها في وقت مبكر من هذا العام، ويتوقع الخبراء أن تتفوق الشبح الروسية الأحدث على غيرها من المقاتلات الغربية.
أطلقوا على المقاتلة الشبحية اسم “كش مات”، وهو اسم مستلهم من لغة لاعبي الشطرنج، ولديها القدرة العملياتية الفائقة التي تضمن لها السيطرة الى الأجواء التي تحلق فيها، وهي من تصميم شركة “سوخوي” الروسية الشهيرة، التي أدمجت عام 2006 داخل “شركة الطائرات المتحدة”، وذلك ضمن خطط تطوير التسليح في روسيا.
وبإمكان هذه الطائرة إطلاق أسلحة موجهة وغير موجهة وصواريخ جو-جو وجو-أرض. بالإضافة إلى ذلك، تستطيع “كش مات” حمل ما يصل إلى 7 أطنان من المتفجرات، كما تمتاز بقدرتها على المناورة وسط تضاريس صعبة وظروف مناخية قاسية، كل هذا مدمج مع قدرات فائقة على التخفي. ومن المتوقع أن تكون تكلفة “كش مات” أقل بثلاث مرات من تكلفة طائرة “إف-35” الأميركية، وإن كانت أقل في القدرة. ولذلك، صممت المقاتلة الشبح “سو-57″ لتكون المعادل الروسي للمقاتلة الشبح متعددة المهام “إف-35” التي أنتجتها شركة “لوكهيد مارتن” الأميركية، وهي من مقاتلات الجيل الخامس الأكثر تطورًا في العالم، وتمتلكها الولايات المتحدة إلى جانب حلفائها من الدول الأعضاء في حلف الناتو.
قبل إنتاج “سو-57” كان الكرملين بحاجة إلى مقاتلة شبحية بإمكانها أن تحل محل “سو-27” و”ميغ-29″، وقد تستغرب إن عرفت أن تصميمها يعود إلى ما قبل سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1979، وهو المشروع الذي بدأ وتراجع بانهيار الاتحاد عام 1991 نظرًا لنقص الأموال، لكنه عاد إلى الواجهة مرةً أخرى بداية من الألفية الجديدة.
من أجل تصميم المقاتلة، اعتمدت شركة “سوخوي” الروسية على نموذج طائرة “سو-27″، لكنها طورته وأضافت إليه التقنيات التكنولوجية الأحدث. وعلى الرغم من أن الرحلة الأولى للطائرة كانت عام 2010، فإن النماذج الأولية منها عانت الكثير من المشكلات، وذلك حتى اجتازت المقاتلة اختبار قدراتها بنجاح إبان الحرب السورية عام 2018. وفي ديسمبر/كانون الأول 2020، استلمت القوات الجوية الروسية أول مقاتلة من طراز “سو-57” مزودة بمحرك المرحلة الأولى التشغيلي، وفي عام 2022، أدخلت الجوية الروسية “سو-57” في عملياتها العسكرية الخاصة ضد أوكرانيا.
تمتاز “سو-57” بكونها مقاتلة تعمل بمحركين ويصل مداها إلى 3500 كلم، وهي بذلك تتفوق على “إف-35” الأميركية أحادية المحرك، كما تتفوق في السرعة أيضًا على المقاتلة الأميركية، إذ تصل سرعتها إلى 2778 كلم/ساعة، في حين لا تتعدى السرعة القصوى للطائرة الأميركية 1975 كلم/ساعة.
أما فيما يخص تقنيات التخفي، فالمقاتلتان تمتازان بقدرات فائقة تجعل من الصعب على أجهزة الرادار رصدهما، أضف إلى ذلك خفة الحركة والقدرة على القيام بمهام متعددة وإطلاق صواريخ جو-جو وجو-أرض وصواريخ مضادة للسفن. كما جُهزت “سو-57” بمدافع هوائية من عيار 30 ملم لعمليات القتال المباشر، واحتوى تصميمها على مقصورتين كبيرتين كل منهما قادرة على حمل أربعة صواريخ جو-جو من طراز “K-77M”.
إذا قارنا نقاط القوة بين كلتا المقاتلتين، سنجد الطائرة “إف-35” مجهزة بأجهزة استشعار تستخدم في المراقبة والاستطلاع وجمع المعلومات، ومزودة بأنظمة أسلحة متطورة وتقنيات الذكاء الاصطناعي، وتتفوق بالقدرة المذهلة على المناورة في المنعطفات وتقاطعات الطرق الضيقة، وذلك بفضل نظام الدفع الموجه، وهي تتمتع في الوقت ذاته بالقدرة على الإقلاع والهبوط بشكل عمودي دون الحاجة إلى مدرج، وبحسب الخبراء العسكريين هي الأفضل في القيام بالعمليات التعاونية.
وبالنظر إلى قدرات “سو-57” نجدها تتألق هي الأخرى في المناورات، أضف إلى ذلك أنظمة الرادار القوية، مثل جهاز رادار المسح الإلكتروني (AESA) الذي يستخدم في الكشف عن الأهداف وتتبعها، كما أنها مجهزة بذخيرة موجهة وغير موجهة، وبإمكانها حمل ما يصل إلى 8 أطنان من المتفجرات. وتضم الشبح الروسية بعض تقنيات الجيل الخامس، وتُعد المقاتلة الوحيدة على مستوى العالم التي تستخدم الطيران بواسطة نظام “الأسلاك”، وهو نظام إلكتروني يستخدم للتحكم في حركة الطائرة، وفيه تقوم مجموعة من الحاسبات بإدارة الطائرة عوضًا عن أدوات التحكم الميكانيكية، مما يجعلها واحدة من أكثر المقاتلات تقدمًا على مستوى العالم، وهي بحسب الخبراء العسكريين تتفوق في الاشتباكات الديناميكية.
روسيا تعيد هيكلة أسطولها البحري
في يوليو/تموز 2022، نشرت روسيا العقيدة البحرية الجديدة، التي أظهرت نية موسكو بأن تصبح “قوة بحرية عظمى”، إذ ركزت العقيدة على زيادة النفوذ البحري الروسي من خلال تطوير قطاع النقل البحري، وحماية مناطق نفوذها في البحار والمحيطات ومنطقة القطب الشمالي، خاصةً بعدما أصبحت محاصرة من قبل الدول الغربية في بحار ومحيطات العالم، وهو ما اعتبرته روسيا تهديدًا استراتيجيا لمصالحها وأمنها القومي، لذلك تهدف موسكو إلى النهوض بإمكاناتها البحرية كأحد شروط تحقيق التنمية المستدامة خلال القرن الـ 21.
وبالنظر إلى نفوذ روسيا البحري، نجد أن موسكو تعاني من نقطة ضعف رئيسية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالبحار، فهي لا تمتلك سوى حاملة طائرات وحيدة معطوبة تعتبر إرثها من فترة الحرب الباردة. ولتخطي هذه العقبة، تسعى روسيا حاليًا للعمل على عدة مشروعات في وقتٍ واحد، أحدها تجديد الحاملة القديمة وإعادتها إلى العمل، والثاني تصميم حاملة طائرات جديدة من المتوقع أن تصبح الأكبر في العالم، كما أنها تعمل بجد لإعادة إحياء المشاريع السوفياتية التي تراجعت بانهيار الاتحاد.
قالوا عنها إنها “حاملة طائرات ملعونة”، فقد دخلت حاملة الطائرات الروسية “كوزنيتسوف” الخدمة أول مرة عام 1985، لكنها لم تشارك إلا في عملية قتالية واحدة إبان الحرب السورية عام 2016، فقدت خلالها طائرتين نتيجة الأعطال التقنية، لتقبع بعدها خارج الخدمة منذ ذلك الحين. وفي الوقت الذي تمتلك فيه الولايات المتحدة 11 حاملة طائرات تعمل بالطاقة النووية، بقت روسيا عالقة مع “كوزنيتسوف” العتيقة التي ما زالت تعمل بالمازوت، ولا تملك تقنيات التخفي، بل على العكس من ذلك تغطيها سحابة دخان سوداء تجعلها مرئية بوضوح أمام دفاعات العدو. هذا الأمر وقف عائقًا بين موسكو وتحقيق ما تطمح إليه من استعادة نفوذها على البحار والمحيطات.
لهذا وفي منتصف عام 2022، أعلنت روسيا عن مشروع عودة “الأدميرال كوزنيتسوف” إلى الخدمة مرة أخرى بعد تجديدها، والذي كان مقررا أن يحدث بنهاية العام 2024 وفقًا لما ذكرته وكالة “تاس” الإخبارية.
إلى جانب ذلك، كشف مركز أبحاث كريلوف ((KRSC الروسي قبل عدة سنوات عن النموذج الأولي لحاملة الطائرات الأكبر في العالم، المشروع “23000 إي” الذي أطلقوا عليه اسم “شتورم” أو العاصفة، وتبلغ تكلفته حوالي 9 مليارات دولار. عرفنا ذلك عندما صرح مصدر مسؤول لوكالة “تاس” الإخبارية الروسية، أن قسم البحث والتطوير (R&D) سيبدأ تصنيع أول حاملة طائرات روسية تعمل بالطاقة النووية في العام 2023، وذلك ضمن خطة لإدخالها الخدمة بحلول العام 2027. وكانت البحرية الروسية قد ذكرت في وقت سابق أن الأسطول الروسي يتوقع تسلم حاملة الطائرات المتطورة بحلول عام 2030.
تمتاز حاملة الطائرات المنتظرة بقدرة إزاحة قرابة 100 ألف طن من المياه، ويبلغ طولها 330 مترًا وعرضها 40 مترًا، وبإمكانها حمل ما يصل إلى 90 طائرة، تشمل الطائرات الهجومية وطائرات الاستطلاع، ومعها بالطبع مقاتلات الجيل الخامس الروسية الشهيرة (سو-57). كما سيتم تزويدها بأنظمة أسلحة مضادة للغواصات وأنظمة حرب إلكترونية متقدمة. ومن المقرر أن يجري تزويد “شتورم” الروسية بنظام دفاع (إس 500) روسي الصنع، وهي منظومة دفاع صاروخية أرض – جو مضادة للصواريخ الباليستية، يصل مداها إلى 600 كلم، وبإمكانها الاشتباك مع 10 أهداف في الوقت ذاته، فضلا عن أنه يُعد نظام دفاع فريدا من نوعه، إذ بإمكانه تدمير الأقمار الصناعية ذات المدار المنخفض، والأسلحة التي يجري إطلاقها من الفضاء، والطائرات والمسيرات التي تفوق سرعتها سرعة الصوت.
كل هذا يجعل من “شتورم” منافسة شرسة لحاملة الطائرات الأميركية الأحدث في العالم “جيرالد فورد” المزودة بمفاعلين نوويين من طراز “أي-1 بي” يسمحان لها بالإبحار لمدى غير محدود من الكيلومترات، وتصل إزاحتها لحوالي 100 ألف طن. كما تمتلك فورد قدرات عالية على التخفي، ويبلغ طولها 333 مترًا وارتفاعها 76 مترًا. أما عن ميزتها الكبرى، فتتمثل في النظام الكهرومغناطيسي الذي يسمح بإقلاع الطائرات الثقيلة والخفيفة على حدٍ سواء، هذا بالإضافة إلى حمولة تصل إلى 90 طائرة، تشمل المقاتلة الشبح “إف-35”. كل هذا جعلها حاملة طائرات باهظة الثمن، إذ بلغت تكلفتها الإجمالية 13 مليار دولار.
المسيّرات.. ذخيرة روسيا المتسكعة في سماء أوكرانيا
وصفت الحرب الروسية الأوكرانية بأنها أول معركة حقيقية للمسيّرات في العالم، حيث استخدمت هذه الطائرات في مهام الاستطلاع والتجسس وتوجيه الضربات على الأرض للأهداف الاستراتيجية، خاصةً مع صعوبة رصدها من قبل أنظمة الدفاع التقليدية، ناهيك عن تكلفتها الزهيدة التي تسمح بإنتاجها بكميات كبيرة.
الجدير بالذكر، أن روسيا لم تكن تمتلك قبل عقد من الزمان سوى 200 طائرة مسيرة، ولكنها أدركت أنه لا يمكنها خوض حرب كبرى بأي حال من الأحوال دون تغيير جذري في هذا السياق، وتمكنت في غضون السنوات الفائتة من اللحاق بركب الصناعة المتطورة للمسيرات، وحققت تقدما كبيرًا بشأن تطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي فيما يخص الطائرات، حتى أصبح بحوزتها اليوم أكثر من 2000 طائرة. كما عملت الشركات الروسية على قدم وساق في مجالات البحث والتطوير حتى أصدرت نسخها الخاصة من المسيرات الإيرانية “شاهد-136″ و”شاهد-131”.
في البدء، عملت الشركات الروسية على تصنيع إصدارات قليلة من الطائرات المسيرة متوسطة المدى، منها “أورلان-10″، وهي مسيرة متعددة المهام استخدمت عادة من أجل المراقبة والاستطلاع، إذ نجدها مجهزة بتقنيات الحرب الإلكترونية وكاميرات تصوير الفيديو والتصوير الحراري، كما أنها مزودة بأجهزة إرسال لاسلكي توفر إرسال المعلومات الاستخباراتية مباشرة إلى وحدات التحكم الأرضية. تليها طائرة “كورسار” القتالية، وهي مسيّرة تزن حوالي 200 كلغ ويبلغ طول جناحيها 6.5 أمتار، وتمتاز بقدرتها على توجيه الضربات الموجهة وغير الموجهة، كما استخدمت في العمليات الاستطلاعية ذات الارتفاعات العالية.
هذه البدايات المتواضعة لم تنبئ بما نشرته المواقع الإخبارية المختلفة في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، من أن روسيا طورت سلاحا جديدا استطاع تجاوز الدفاعات الأوكرانية المضادة للطائرات المسيرة. كان هذا السلاح الفعال عبارة عن “مسيّرات صغيرة” يمكن إطلاقها من مقاتلات الجيل الخامس الروسية “سو-57″، الأمر الذي سمح لموسكو بالتحايل على أنظمة الدفاع الأوكرانية، وفقًا للتقارير.
لدى روسيا اليوم، أنواع مختلفة من المسيرات المتطورة، أشهرها المسيرة “لانسيت”، وهي طائرة طورتها شركة “زالا” (Zala) الروسية، وجرى اعتبارها السلاح الروسي الأكثر فاعلية في مواجهة آليات الحرب الأوكرانية، بداية من الدبابات والمدافع ووصولا إلى قواعد إطلاق نظام الدفاع الجوي “إس-300″، فهي مجهزة بمستشعرات متقدمة، وتبلغ سرعتها القصوى 300 كلم/ساعة، ويبدأ مداها من 7 كلم ويصل إلى قدرات المسيّرة الانتحارية الإيرانية “شاهد-136” التي يبلغ مداها 2000 كلم. وقد استطاعت “لانسيت” إظهار قدراتها الحربية المذهلة في أرض المعركة، خاصة بعدما دمرت مقاتلتين أوكرانيتين، واحدة من طراز “ميغ-29” والأخرى من طراز “سو-25″، كما جرى استخدامها بكميات كبيرة من قبل الروس في توجيه الضربات الأرضية، وهو ما عزز سيرتها لكونها تمثل تطورًا كبيرًا في مجال صناعة المسيرات.
على الرغم من قدرات “لانسيت” الفائقة، فإن روسيا لم تتوقف عن محاولة تطويرها، ففي سبتمبر/أيلول 2023، أعلنت شركة “ايروسكان” الروسية المتخصصة في إنتاج الطائرات المسيرة، عن طائرة انتحارية جديدة من طراز “إيتالماس”، تُعد نسخة مطورة من “لانسيت”، ويطلقون عليها اسم “الذخيرة المتسكعة”، لطريقتها في الاستهداف، فهذا النوع من المسيرات يحوم في البدء حول الهدف المنشود حتى التأكد منه ومن ثم توجه إليه ضربة قاضية.
أما عن مميزات المسيرة الجديدة، فلا تتوفر معلومات كثيرة حول خصائصها التقنية، لكنهم أشاروا إلى أنها مجهزة برأس حربي أكبر ومدى إطلاق يصل إلى 200 كلم، ويقال إنها شديدة الشبه بالمسيرة الإيرانية “شاهد-136” في الشكل وطريقة الإطلاق.
كما أعلنت روسيا مؤخرًا عن دخول مسيرة جديدة مرحلة الإنتاج التسلسلي، وهي “Okhotnik-B”، التي يُتوقع أن تكون مسيّرة هجومية شبحية تُعد الأحدث والأكثر تقدمًا، فهي تمتاز بقدرتها على التخفي والإفلات من الرادارات. تصنف مسيرة Okhotnik من مقاتلات الجيل السادس، ويرجع تصميمها إلى العام 2009، عندما عملت شركتا “سوخوي” و”ميغ” على تصميم مسيرة هجومية تبلغ سرعتها القصوى 1000 كلم/ساعة، ويصل وزنها إلى 20 طنًا، كما أدخلوا إليها بعض تقنيات المقاتلة الروسية الشبحية “سو-57″، وقد اختبرت روسيا النماذج الأولية منها في منتصف عام 2023 خلال الحرب الدائرة في أوكرانيا.
“أسلحة ارتجالية” داخل العتاد الروسي.. هل الدفاعات الغربية جاهزة؟
دخول روسيا إلى حرب عالمية ثالثة، لا يتوقف فقط على قدراتها الجوية والبحرية، بل هناك شقان هامان لهما علاقة بالعمليات البرية، وهما العتاد والذخائر. وفي هذا النطاق نجد الجيش الروسي يحتل المرتبة الأولى عالميًا من حيث عدد الدبابات التي تبلغ 14777 وحدة، والمدفعية ذاتية الدفع التي يبلغ عددها 6208 وحدات، والمدافع المقطورة بعدد 8356 وحدة، وذلك وفقًا لتقديرات “غلوبال فاير باور” لعام 2024. وهنا تأتي النقطة الأهم، إذ تحتل روسيا المركز الثاني عالميًا في راجمات الصواريخ التي يبلغ عددها 3056 وحدة، كما تمتلك مجموعة من راجمات الصواريخ المتقدمة، أشهرها “توس-1 أي” (Tos-1A)، التي يعتبرها البعض أسوأ كابوس يمكن أن يواجهه أي جيش في العالم، إذ قالوا عنها إنها قادرة على تحويل الهواء إلى نيران.
وصممت راجمة الصواريخ “توس-1 أي” بحيث تكون قادرة على إطلاق رؤوس حربية من نوعين: صواريخ حارقة تقليدية، وأخرى حرارية من عيار 220 ملم تعرف باسم “الرؤوس الحربية الوقودية الهوائية”، وتعمل هذه الرؤوس على توليد سحابة من الغازات الحارة قادرة على التسرب داخل المباني والأماكن المغلقة، وأثناء تفاعلها مع مادة متفجرة ثانية تُحدث انفجارًا شديدًا، ولهذا يطلقون عليها اسم “الشمس الحارقة” أو “لهيب الشيطان”، بل ويعتبرونها واحدة من أكثر الأسلحة الروسية فتكًا.
تمتاز هذه الراجمة بقدراتٍ قتالية عالية، ولهذا تستخدم في المهام الصعبة مثل استهداف المخابئ أو تدمير الآليات العسكرية للعدو، وقد شاهدنا نبذة عن قدراتها إبان العمليات العسكرية الروسية داخل أوكرانيا إذ استخدمت “الشمس الحارقة” في مواقع عسكرية بأكملها نظرا لخصائصها وقدرتها على عزل وتحييد مناطق معينة عن طريق قطع خطوط الإمداد.
وتحتوي الراجمة “توس-1 أي” على 24 أنبوبًا للإطلاق، وبالتالي يمكنها إطلاق 24 صاروخًا في ثوان معدودة، وهي تعمل بالوقود الصلب، وتزن حوالي 45 طنًا، كما تصل سرعتها إلى 60 كلم/ساعة، وتأتي مثبتة على دبابة من طراز “تي-90 إس”، وبإمكانها تغطية منطقة قتال بمساحة 40 كلم2. وفي مايو/أيار 2020، كشفت روسيا خلال عرض عسكري عن نسخة محدثة ومطورة من “توس-1 أي” تحت اسم “توس-2” أو “توسوشكا”، بمدى إطلاق يبدأ من 3.5 كلم وحتى 100 كلم، وهو ما يفوق مدى النسخة القديمة الذي لم يتعد 6 كلم.
لكن راجمات الصواريخ المدمرة ليست اللعبةَ الوحيدة التي تقف أمام الجيوش الأوروبية في حال اندلاع حرب شاملة مع روسيا، فهناك “أسلحة ارتجالية” حديثة ومفاجئة، إلى درجة تجعل الدفاعات الغربية غير جاهزة لمواجهتها. خير مثال على ذلك “القنابل الانزلاقية” التي أغرقت سماء أوكرانيا باللعب، وتُعد نوعًا جديدًا من الذخائر لم نسمع عنه إلا مؤخرًا إبان العمليات الروسية داخل أوكرانيا، إذ لعبت دورًا كبيرًا في إلحاق خسائر فادحة بالقوات الأوكرانية.
في حديث نشر بصحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، قال الجنود الأوكرانيون يواجهون “بوابات الجحيم” التي فتحتها روسيا على الخطوط الأمامية الأوكرانية، وكانوا يقصدون “القنابل الانزلاقية” التي أدخلتها روسيا إلى ساحة معاركها ضد أوكرانيا مطلع مارس/آذار 2023، وتطلق منه ما لا يقل عن 20 قنبلة يوميًا قادرة على الوصول إلى المخابئ تحت الأرض وتدميرها، إلا أن الدفاعات الأوكرانية لم تكن مستعدة لمواجهة مثل هذه الأسلحة المرتجلة.
كانت وزارة الدفاع الروسية قد أفادت أنها أدمجت قدرات الانزلاق إلى قنابل “FAB-500” المعروفة بحمولة تصل إلى 500 كلغ من المواد المتفجرة، والتي زادت حمولتها إلى 900 كلغ بعد التعديلات الأخيرة. ونجد أن القنابل بعد تعديلها أصبحت مزودة بأجنحة تمنحها مدًى أطول قد يصل إلى قرابة 70 كلم اعتمادًا على الارتفاع الذي يجري إطلاقها منه، كما جهزت بأنظمة ملاحية من أجل مسار طيران أكثر دقة. هذا الأمر غيّر قواعد اللعبة فيما يخص قدرة القوات الروسية على تقديم الدعم الجوي لجنودها خلال المعارك البرية.
تمتاز القنابل الانزلاقية عن غيرها من الأسلحة بقدرتها على التحليق بارتفاعات منخفضة، وهو ما جعل الدفاعات الأوكرانية غير فعالة في مواجهة مثل هذه الذخيرة التي استهدفت في قصفها البنى التحتية والمؤسسات الأوكرانية الإستراتيجية. ولأنها زهيدة التكلفة، إذ تُعد أرخص من صواريخ كروز والصواريخ الباليستية على حد سواء، عملت روسيا على إنتاجها بكميات هائلة، وهو ما ساعد في توفير الإمدادات الجوية اللازمة في وقت أسرع مما تستطيع أوكرانيا وشركاؤها مجاراته، خاصةً أنه لإسقاط مثل هذه الذخائر فإن على القوات الأوكرانية اختيار أحد أمريْن أحلاهما مُر، إما أن تستخدم صواريخ “باتريوت” أو “سام” الدفاعية باهظة الثمن، أو تحرك أنظمتها الدفاعية بعيدا عن المدن، وهو ما لا يمكنها القيام به.
الجحيم النووي الروسي
منذ بداية الحرب الأوكرانية، انتهزت روسيا كل الفرص المتاحة للتلويح بأسلحتها النووية كوسيلة للردع وحل أخير قد تلجأ إليه لإنهاء النزاعات التي قد تهدد وجود الاتحاد الروسي. وبينما يعتبر البعض “التهديد” باستخدام السلاح النووي مجرد مناورة سياسية، يخشى البعض الآخر من إمكانات روسيا التي تتعلق بالأسلحة النووية، خاصة أن موسكو لا تحتكم إلى القوانين الدولية فيما يتعلق بالردع النووي، إذ لديها عقيدة نووية خاصة تجلت عبر إحدى الوثائق التي نشرتها الحكومة الروسية في يونيو/حزيران 2020. وبالنظر إليها نجد أنها قد تمنح الضوء الأخضر لاستخدام الأسلحة النووية في حالتي تهديد وجود الدولة الروسية، أو ردًا على العدوان الغربي باستخدام الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل، سواء كان ذلك موجهًا ضدها أو ضد أحد حلفائها بما قد يعرض مصالح موسكو للخطر.
يبلغ المخزون العالمي الإجمالي من الأسلحة النووية 12512 وحدة، يوجد منها 5889 في روسيا وحدها، مما استدعى من أمين مجلس الأمن في الاتحاد الروسي، نيكولاي باتروشيف، أن يصرح بأن روسيا تفوقت على منافسيها لأول مرة في تاريخ الأسلحة النووية، وهو ما نقله الموقع الروسي “نيوز ري”، مشيرًا إلى أن الأسلحة الإستراتيجية التي طورتها روسيا في السنوات الأخيرة تستطيع أن تحفظ أمن البلاد لعقود، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن ماهية هذه الأسلحة التي يتحدثون عنها.
وفقًا للمعلومات الاستخباراتية الأميركية، تمتلك روسيا بحوزتها قرابة 2000 سلاح نووي تكتيكي، هذا بخلاف 4500 رأس نووي من الأسلحة الإستراتيجية، منها 1500 رأس جرى نشرها بالفعل حول العالم، و1500 أخرى وُضعت خارج الخدمة في انتظار التفكيك وإعادة التشغيل، والبقية هي رؤوس نووية صغيرة ذات قدرة تدميرية أقل. ولندرك أهمية أسلحة روسيا الإستراتيجية، علينا أن نعرف الفرق بين الرأس النووي الإستراتيجي والتكتيكي.
الرأس النووي الإستراتيجي يمتاز بمدى أطول وحمولة تفجيرية قد تصل إلى 800 كيلو طن من المواد شديدة التفجير، مما يجعل قدرته التدميرية هائلة، في حين أن الرأس التكتيكي مداه أقل وحمولته التفجيرية لا تتخطى 100 كيلو طن، ويقال إنه يستخدم لضرب مساحات صغيرة من الأرض لتجنب التسرب الإشعاعي. لكن بالنهاية ووفقًا للعديد من الخبراء، تظل عواقب استخدام الأسلحة النووية غير مضمونة، ولا يمكن التنبؤ بها.
في هذا السياق، تمتلك روسيا نظامين صاروخيين يستخدمان في حمل الرؤوس النووية التكتيكية، أحدهما صاروخ “كاليبر” الذي يتراوح مداه بين 1500 إلى 2500 كلم، ويطلق من السفن والغواصات، والآخر نظام صواريخ أرض-أرض المعروف باسم “إسكندر”، والذي يصل مداه إلى 500 كلم. والآن دعونا نلقي نظرة على أسلحة روسيا الإستراتيجية الحديثة.
أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مارس/آذار 2018، عن مبادرة لتطوير جيل جديد من الأسلحة المتقدمة، من ضمنها صاروخ باليستي عابر للقارات، وأسلحة نووية تحت الماء، هذا إلى جانب أسلحة الليزر والصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت ويمكن تزويدها برؤوس حربية نووية أو تقليدية، وهي الأسلحة التي جرى الكشف عنها واختبرت موسكو نماذجها الأولية خلال الأعوام الماضية.
ويتضح قدر التطوير الروسي العسكري في منظومة صواريخ “سارمات” الباليستية العابرة للقارات، التي يطلقون عليها لقب “الشيطان” أو “صواريخ يوم القيامة”، حيث وصفها الرئيس بوتين في أحد تصريحاته بأنها أسلحة “لا تُقهر”. ويُعد “سارمات” السلاح الروسي الأكثر فتكًا لما يمتاز به من قدرات خارقة، فهو صاروخ باليستي خفيف الوزن يعمل بالوقود السائل، ويسمح له المخزون الطاقي بالتحليق عبر القطبين الشمالي والجنوبي بمدى يصل إلى 18 ألف كلم، مما يعني أنه قادر على استهداف أي مكان على وجه الأرض.
وكانت روسيا قد أدخلته إلى الخدمة في خضم الحرب الدائرة في أوكرانيا وبالتوازي مع التوترات المتصاعدة بين روسيا ودول حلف الناتو، مما جعل البعض يعتبر دخول “سارمات” إلى الخدمة القتالية في هذا الوقت بالتحديد، مناورة سياسية روسية، وإنذارا للولايات المتحدة ودول الغرب.
بإمكان سارمات حمل ما يصل إلى 50 ميغا طن من مادة “تي.أن.تي” المتفجرة، وهو مزود بنحو 10 رؤوس نووية، لدى كل منها توجيه مستقل، هذا بخلاف الرؤوس الحربية الصغيرة التي يصل عددها إلى 16. كما يمتاز بالمرونة في تغيير الارتفاع والاتجاه والسرعة، ويأتي مجهزًا بأنظمة دفاعية مضادة للصواريخ، ناهيك عن أنه لا يقضي سوى الحد الأدنى من الوقت داخل الغلاف الجوي، مما يضمن له الحصانة ضد الاستهداف من قبل دفاعات العدو.
أما عن القوة التدميرية “للشيطان الروسي”، فيقال إنها تفوق قنبلتي هيروشيما وناغازاكي بحوالي 2000 مرة، وبإمكانك أن تتخيل كيف يمكن لصاروخ كهذا وفي مدة لا تتعدى ثلاث دقائق أن يمحو بلدانًا كاملة عن وجه الأرض، إذ تشير بعض التقديرات إلى أن بإمكانه تدمير ما يعادل مساحة دول مثل فرنسا وبريطانيا. كل هذا يجعل من “سارمات” أهم سلاح إستراتيجي بحوزة موسكو.
منذ عام 2014، تعكف الولايات المتحدة هي الأخرى على تصميم صاروخ عابر للقارات، وهو المشروع الذي أطلقوا عليه اسم “إل جي إم-35 أي سنتينل” الذي يُتوقع أن يصل مداه إلى 5500 كلم، وبإمكانه حمل رأس نووي حربي يمكن أن تنفصل في منتصف الرحلة ليتم توجيهها ناحية الهدف، وهو ما يستغرق حوالي 30 دقيقة. ومن المفترض أن يدخل الصاروخ الخدمة عام 2029 لينافس صاروخ “يوم القيامة” الروسي.
رغم ذلك، نجد أن روسيا رتبت أوراقها جيدًا فيما يخص “الغزو النووي” للعالم، فإذا كانت الصواريخ الباليستية العابرة للقارات ستستخدم في توجيه “الضربة الأولى”، فإن موسكو قد طورت ضمن أسلحة الجيل الجديد سلاحًا يمكن استخدامه ما بعد الصواريخ الباليستية، وذلك من أجل ضمان “ضربة قاضية”، وهو صاروخ “بوريفيستنيك” الذي أطلق عليه حلف الناتو اسم “سكاي فول” (Skyfall) ووصفوه بالسلاح الانتقامي، قائلين إن روسيا طورت هذا السلاح خصيصًا حتى تنهي مهمتها بالقضاء على البنى العسكرية التحتية لخصومها فلا تترك لهم فرصة البقاء.
أما بخصوص “بوريفيستنيك”، فهو صاروخ شبح كروز يمتاز بقدرته على التخفي، كما أنه مزود برأس نووي ويعمل بالطاقة النووية، مما يمنحه ميزة التحليق بمدى غير محدود يتراوح بين 10 آلاف إلى 20 ألف كلم. ويحلق الصاروخ الشبح الروسي على ارتفاع منخفض ويمتاز بإمكانية تغيير مساره باستمرار، مما يجعل حركته صعبة التنبؤ بها من قبل أنظمة الصواريخ المضادة. وفور الإعلان عنه في نهاية عام 2023، صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن روسيا انتهت الآن من تطوير أسلحتها الإستراتيجية الحديثة التي تضمن أمنها لعقود قادمة، وما هي إلا مسألة وقت حتى تعمل على إدخالها إلى الخدمة العسكرية.
ولا تتوقف قدرات روسيا النووية عند منظومة “سارمات” الباليستية وصواريخ “كروز”، بل تتعدى ذلك إلى إحكام السيطرة على البحار من خلال طوربيد “بوسيدون” الفائق، وهو أحد أسلحة الجيل الجديد التي انضمت مؤخرًا إلى ترسانة روسيا النووية. وقد قالت عنه وسائل الإعلام إنه “سلاح نهاية العالم”، وذلك لقدرته على حمل رؤوس نووية لمسافات طويلة عابرة للقارات بحمولة تصل إلى 100 ميغا طن، مما يعني أن قوته التدميرية هائلة، والأدهى أن بإمكانه الوصول إلى السواحل الأميركية، وبضغطة زر قد يستهدف مدنا أو حاملات طائرات إذا أرادت روسيا ذلك.
عُرف “بوسيدون” أولًا باسم “Status-6″، وهو يعتبر سلاحا بحريا إستراتيجيا يمتاز بكونه يعمل بالطاقة النووية ويصل مداه إلى 10 آلاف كلم، كما أنه ذاتي القيادة، ويمتاز بإمكانية إعادة توجيهه عن بعد. ويبلغ طول الطوربيد حوالي 20 مترًا. وبحسب المصادر الروسية يمكن لسرعة “بوسيدون” أن تتخطى 200 كلم/ساعة، إلا أن البعض يشير إلى أن سرعته الفعلية أقل من ذلك بكثير، بحيث لا تتعدى 90 كلم/ساعة.
وإلى جانب قدراتها النووية، تعمل روسيا على تطوير ترسانتها في نطاق هام وهو الصواريخ الفرط صوتية، فبعد الهجوم الذي شنته روسيا على العاصمة الأوكرانية في 7 فبراير/شباط الفائت، صرح معهد كييف للبحث العلمي أنه بعد تحليل الحطام تبيّن أن روسيا استخدمت صاروخا متقدما تفوق سرعته سرعة الصوت، وذلك في حادثة تُعد الأولى من نوعها منذ بدء الحرب الأوكرانية. كان هذا الصاروخ هو “تسيركون”، الذي وصفته المصادر الأوكرانية بأنه “يكاد يستحيل اعتراضه أو إسقاطه”، ويُعد هذا هو الاستخدام الأول له في ساحة القتال.
يُعتبر “تسيركون” أحد الصواريخ المرعبة التي تمتلكها روسيا وتثير قلق الغرب، إذ يصل مداه إلى قرابة 1000 كلم، وتبلغ سرعته القصوى حوالي 9500 كلم/ساعة، وبإمكانه التحليق على ارتفاع 20 كلم.
تتفوق الصواريخ التي تتعدى سرعتها سرعة الصوت على الصواريخ الباليستية العادية في خاصية هامة جدًا، وهي القدرة على الإفلات من رادارات أنظمة الدفاع التقليدية، وهو أمر ناتج عن شقين: الأول هو السرعة الفائقة التي تعمل على توليد سحابة من البلازما أمام الصاروخ أثناء تحركه، مما يساعد على امتصاص موجات الراديو بشكلٍ يصعب على أنظمة الرادار رصده. أما الشق الثاني، فيتعلق بالارتفاع المنخفض، إذ عادة ما تحلق الأسلحة الفرط صوتية على ارتفاعات أقل بكثير من الصواريخ الباليستية التقليدية، وهو ما يمنحها ميزة تجنب أنظمة الرادار لأطول فترة ممكنة. أضف إلى ذلك، قدرة هذه الصواريخ على تغيير مسارها في منتصف الرحلة. كل هذه المميزات تجعل من الصعب إسقاطها قبل الوصول إلى هدفها. وتشير العديد من المصادر الغربية إلى أنه إذا تمركزت الصواريخ الفرط صوتية الروسية في أراضي كاليننغراد، ستصبح العواصم الأوروبية في مرمى نيران موسكو، وهو ما يشكل تهديدًا واضحًا لدول حلف الناتو.
ولم تكن صواريخ “تسيركون” الفرط صوتية هي الوحيدة التي استخدمتها روسيا خلال عملياتها العسكرية داخل أوكرانيا، ففي مارس/آذار 2023، أشارت وزارة الدفاع الأوكرانية إلى أن موسكو استخدمت صواريخ فرط صوتية من طراز “كينغال” (الخنجر باللغة الروسية)، وهو الصاروخ الذي استخدمته روسيا أكثر من مرة لضرب أهداف إستراتيجية أوكرانية منذ بدء الحرب.
قالت عنه موسكو إنه صاروخ يصعب اعتراضه، ويرجع ذلك إلى قدرة “كينغال” الفرط صوتي على تغيير مساره على مستويين أفقي ورأسي، إذ يمنحه ذلك قدرة عالية على المناورة، بالإضافة إلى ميزة الإفلات من الصواريخ المضادة. ويتراوح مدى “كينغال” بين 1500 إلى 2000 كلم، وتصل سرعته إلى 14.7 ألف كلم/ساعة، أي أسرع من الصوت بنحو 12 مرة. أما عن رأسه الحربي، فبالإمكان تزويده برأس نووي أو تقليدي بحمولة 500 كلغ من مادة “تي.أن.تي” المتفجرة، وعادة ما يجري إطلاقه من طائرات مقاتلة مثل “ميغ” على ارتفاع 18 كلم، كما يمكن إطلاقه من السفن أو الغواصات.
أضف إلى هذه الترسانة صاروخ “أفانغارد”، ويعني بالروسية “الطليعة”، إذ يمتاز هو الآخر بقدرته على حمل رأس نووي أو تقليدي من المواد المتفجرة. كما تصل سرعته القصوى إلى 33 ألف كلم/ساعة، ويبلغ مداه 6000 كلم، ويُعد من أبرز الصواريخ الروسية التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، فهو معزز بمركبات انزلاقية، ويصل إلى أقصى ارتفاع له وهو 100 كلم عبر صاروخ باليستي لتنفصل بعدها مركبة الانزلاق عن الصاروخ. وقد صُمم ليكون عابرًا للقارات وقادرًا على الوصول إلى أهداف إستراتيجية جنوب الولايات المتحدة، وذلك لقدرته على التحليق في مسارات فوق القطب الجنوبي.