البدون في السعودية/ عبد الله، شاب في الثلاثين من عمره، وُلد في قرية صغيرة شمال المملكة. أبوه وجده من قبيلة عريقة عاشت على هذه الأرض قبل أن تُرسم الحدود. عبد الله، مثل أي شاب سعودي، يحلم بأن يدرس، يعمل، ويبني عائلة.
لكن حياته مختلفة تمامًا. لا يملك بطاقة هوية وطنية، بمعنى أنه لا يستطيع فتح حساب بنكي، أو الالتحاق بجامعة، أو حتى السفر. مرة، وهو في المستشفى مع أمه المريضة، طُلب منه تقديم أوراق لا يستطيع توفيرها.
تخيلوا شعوره وهو يرى أمه تعاني ولا يستطيع مساعدتها. عبد الله ليس وحده، فهناك الآلاف مثله، يعيشون في بلدهم لكنهم كأنهم غير مرئيين. ما قصة “البدون في السعودية”؟ ولماذا سُمّوا بدون؟ ومتى بدأت معاناتهم؟
بعد قرائتك هذه المقالة، ستحصل على أجوبة هذه الأسئلة و أكثر؛
- ما هي أبرز التحديات التي يواجهها البدون في السعودية في الحصول على الخدمات الصحية الأساسية؟
- كيف أثرت رسم الحدود في أوائل القرن العشرين على وضع البدون في السعودية؟
- ما الفئات الرئيسية للبدون في السعودية، وكيف تختلف معاناتها بين هذه الفئات؟
- هل يُعتبر البدون في السعودية جزءًا من النسيج الاجتماعي، أم أنهم يُعاملون كغرباء في بلدهم؟
- ما دور الجمعيات لحقوق الإنسان في حل قضية البدون في السعودية؟
- كيف يؤثر عدم وجود هوية رسمية على فرص العمل لدى البدون في السعودية؟
- ما هي الوعود الحكومية السابقة بحل مشكلة البدون في السعودية، وهل تم تنفيذها فعليًا؟
- كيف يمكن للبدون في السعودية الوصول إلى التعليم رغم الحرمان من الأوراق الثبوتية؟
- ما التداعيات الأمنية والاجتماعية الناتجة عن تجاهل قضية البدون في السعودية؟
- ما الحلول العملية المقترحة لمنح الجنسية للبدون في السعودية دون تمييز؟
معاناة البدون في السعودية
تخيل أن تعيش طوال عمرك في بلد أبوك، عمك، جدك، جيرانك، وأصدقائك، كلهم من نفس المكان. تصحو كل يوم تقول: “أنا من هذه الديرة”، ثم تأتي الحكومة وتقول لك: “لا يا حبيبي، أنت مالك ملف، وما لك هوية، وما لك شيء. أنت، ببساطة، بدون”. لنرجع بالتاريخ قليلاً لنفهم قضية البدون.
عندما بدأت الدولة تتأسس في أوائل القرن العشرين، لم يكن هناك نظام واضح للجنسية. كثير من البدو الرحل، الذين كانت حياتهم ترحالاً بين السعودية والدول المجاورة، كانوا يتنقلون وراء المراعي والماء مع حلالهم من إبل وغنم. وقتها، لم تكن هناك حدود واضحة، ولا نظام تسجيل مدني، ولا حتى مفهوم الجنسية الرسمية. لم تكن هناك “السعودية” كما نعرفها اليوم.
اليوم، يتركز معظم البدون في شمال المملكة، ويوجدون أيضًا في مناطق أخرى مثل الجنوب وعلى حدود عمان. البدون محرومون من أوراق تثبت أنهم سعوديون، لذا يُطلق عليهم “بدون”، أي بدون جنسية، بدون أوراق، وبدون حقوق أصلاً. وللمعلومية، هناك دول مثل أمريكا وكندا وأوروبا تمنح الجنسية للمولود على أراضيها حتى بدون إقامة.
فئات البدون في السعودية
ينقسم البدون في السعودية إلى عدة فئات. الفئة الأولى هي القبائل النازحة. كثير من القبائل مثل عنزة، شمر، بني خالد، ساعدة من عتيبة، كانت تتنقل بين السعودية والكويت والعراق وسوريا والأردن.
عندما رُسمت الحدود، لم يُدرج العديد من أفراد هذه القبائل لا هنا ولا هناك، لأنهم كانوا يعيشون في مناطق حدودية أو لم يكونوا موجودين يوم التسجيل الرسمي لأنهم بدو رحل، فأهمل التسجيل وصاروا بدون. باختصار، الجماعة صاروا موجودين لكنهم غير محسوبين معنا.
الفئة الثانية هي قبائل الجنوب، وهم من البدو النازحين من جنوب الجزيرة العربية، مثل قبائل الكثير والمصعبين وبعض قبائل العوالق والكرب وهمام وبالحارث وبعض قبائل قحطان وهمدان.
في مقال كتبته صحيفة “سبق” الإلكترونية، تحدثوا عن قضية البدون وقابلوا بعضهم. يقول شيخ قبيلة سبعة من عنزة: “الحكومة فتحت باب التجنيس في السبعينات الميلادية، لكن تجاهلناه وذهبنا منذ القدم لنبحث في البادية عن الكلأ والمراعي لحلالنا. كثير منا عاد وحصل على الجنسية السعودية”.
وعند سؤاله عن أسباب عدم تجنيس بعض أبناء هذه الفئة، قال الشيخ طراد: “لقد تأخروا في العودة”. حتى الذين تم تجنيسهم خضعوا للمادة التاسعة التي تنص على عدم حصول أبنائهم على وظائف عسكرية أو رسمية، ولا يحق لهم الالتحاق بالتعليم، كما لا حق لهم في العلاج، وحتى البنوك لا تتعامل معهم.
في فترات لاحقة، مثل بعد حرب الخليج، تم التشكيك في ولاء بعضهم وسُحبت هوياتهم بحجة عدم نظامية حصولهم على الهوية الوطنية. وذكر تقرير عن أحوال حقوق الإنسان في السعودية، صادر عن الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان برئاسة مفلح القحطاني، أن أشخاصًا سُحبت هوياتهم دون سبب معروف، ولم يُمنحوا أي سند يدل على جنسيتهم السعودية. وأشارت بعض الشكاوى إلى أنهم أقروا بذلك بسبب الإكراه أو التعذيب عند القبض عليهم.
الفئة الثالثة هي المهاجرون والمهجرون قسريًا من الجاليات الآسيوية. كثيرون جاءوا للحج واستقروا في مكة والمدينة المنورة والطائف وجدة، وبدأوا يعملون في التجارة، مثل البخارية والتركستان والبرماوية والإندونيسية. لكن عندما تأسست الدولة، لم يكن هناك نظام يمنحهم جنسية أو يوثق وجودهم.
الفئة الرابعة هي المحرومون لأسباب أمنية أو سياسية. كانت الدولة ترفض منح الجنسية لبعض الأشخاص لأسباب أمنية أو سياسية، إذا رأت أنهم غير موالين أو قد يشكلون خطرًا سياسيًا، فتمنعهم من التسجيل. صارت الجنسية عند البعض مثل الجائزة، تُمنح حسب المزاج وتُحرم لأسباب غير منطقية.
كم عددهم؟
لا توجد أرقام رسمية دقيقة. آخر إحصائية نُشرت في 2016 من المنظمة الأوروبية السعودية لحقوق الإنسان تقول إن عددهم يصل إلى 250,000 شخص. لكن من بعدها، لم تسمح السعودية لأي جهة، داخلية أو خارجية، بجمع إحصائيات جديدة. تقارير أخرى تقول إن عددهم اليوم حوالي 70,000 أو أكثر، لكن لا أحد يعرف بالضبط.
ما الذي ينقص البدون؟
باختصار، كل شيء تقريبًا. دعونا نرتبها:
الحقوق الإدارية والقانونية
لا يستطيعون تسجيل مواليدهم، زواجهم، أو حتى شهادات الوفاة. حتى دفن ميت يحتاج مجهودًا مضاعفًا. إذا سُجن أحدهم، لا يُعامل كالسعوديين، بل مع الوافدين، وتكون ظروف سجنهم أسوأ بكثير. لا يستطيعون تملك أي شيء، ولا يملكون بطاقة أحوال، ولا حتى رخصة قيادة.
الحقوق الاجتماعية
التعليم، وهو حق طبيعي لكل إنسان، ممنوع عنهم لعدم وجود أوراق رسمية. في 2019، مُنعت طفلة تُدعى أنوار العنزي من الالتحاق بمدرسة في حفر الباطن لأن والدها ليس لديه أوراق ثبوتية، وكانت قضيتها رائجة. أما الصحة، فلا يستطيعون العلاج في المستشفيات الحكومية، ولا يملكون تأمينًا طبيًا. امرأة من البدون ولدت في سيارة أمام المستشفى لأنهم رفضوا استقبالها.
العمل
صعب جدًا. معظمهم يعملون في وظائف غير رسمية ليتمكنوا من كسب لقمة العيش. يقول أبو سلطان في صحيفة “سبق”: “لقد عملت في سوق الخضار أجيرًا عند وافد آسيوي لأكسب رزق أطفالي، ومارست العمالة الوافدة عليّ كل أنواع الضغوط والإهانة، حتى أصبح حال المقيم أفضل من حالنا”.
المساعدات الحكومية: صفر. لا ضمان اجتماعي، لا سكن، ولا تنمية. حريتهم في التنقل مقيدة، فبدون هوية لا يستطيعون السفر أو حتى الخروج من مدينتهم.
يقول الشيخ طراد المرشد من شيوخ سبعة من عنزة: “بالنسبة لمن لا يحملون جنسية، يمكن القول إن حال هؤلاء لا يسر. فأبناؤهم لا يُعالجون في المستشفيات، تعليمهم يواجه مصاعب، وما عندهم فرص للحصول على وظائف، ما يجعلهم عالة على المجتمع”.
ماذا فعلت الدولة؟
الحلول قليلة جدًا. أصدرت الدولة بطاقة عمل أو تنقل، تُعرف بـ”البطاقة السوداء” أو “بطاقة حفر” نسبة لحفر الباطن، موطن الكثير من البدون.
لكن في 2014، توقف تجديدها إلا بتعهد بإحضار جواز سابق من إحدى الدول المجاورة، وهكذا عادوا إلى نقطة البداية. لا تزال الدولة تشكك فيهم كمواطنين لدول أخرى، رغم أنهم أبناء قبائل عريقة يمتد نسبهم إلى آلاف السنين وعاشوا في هذه الأرض.
في 2001، صدر مرسوم ملكي يمنح البدون الجنسية بشرط إثبات انتمائهم لإحدى القبائل السعودية، لكن في الواقع، مُنحت الجنسية لبعض الأشخاص الذين يملكون واسطة، بينما بقي الباقون على حالهم.
في 2012، قال مفلح القحطاني، رئيس الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان، في حوار مع صحيفة “الوطن”: “لدى بعض هؤلاء أوراق تفيد بأنهم سعوديو الأصل والمنشأ، وما زال شيوخ قبائلهم يشهدون ويؤكدون أنهم أصول سعودية، ومع ذلك لم يُحل وضعهم حتى الآن”. وحذر من أن عدم حل هذا الملف له تداعيات أمنية وسياسية واجتماعية.
في 2018، وعد الأمير محمد بن سلمان بحل مشكلة البدون، لكن بعد ثلاث سنوات، كان الهاشتاغ المتصدر هو #البدون_في_السعودية. الآن، في 2025، العمر يمر، ومعاناتهم تزداد. والأمر الأكثر إيلامًا هو أن الجنسية تُمنح لأشخاص بعيدين كل البعد عن السعودية، فقط لأن لديهم واسطة أو علاقة مع شخصيات نافذة، مثل عمرو أديب ومجموعته، أو حتى أشخاص مثل الحسيني، وهو عميل إسرائيلي عليه حكم قضائي، بينما أبناء القبائل العريقة، الذين عاش أهلهم هنا من قرون قبل تأسيس الدولة، لا يحصلون على شيء.
في مقال صحيفة “سبق”، يروي عبد السلام العنزي، 52 سنة، قصته: “كابدت مرارة الألم والشتات بعد تقاعدي، على الرغم من التحاقي بالسلك العسكري بالحرس الوطني. تعطلت معاملتي في الجنسية لسنوات طويلة”.
وشوهدت شهادات الشكر معلقة على جدران بيته، حصل عليها خلال خدمته العسكرية، بالإضافة إلى مشاركته في حادثة جهيمان ودوره في حرب تحرير الكويت في 1990.
الحلول المقترحة
الجميع يعلم أن الحكومة قادرة على إيجاد حلول. منها:
- فتح باب التجنيس بشروط واضحة ومنطقية، بحيث لا يُحرم من الجنسية شخص عاش هنا طوال عمره.
- مراعاة سنوات الإقامة والعلاقات الإنسانية، وتعديل القانون ليشمل من وُلدوا هنا، فهم فعليًا من أهل الديرة.
- إنشاء قاعدة بيانات شاملة لتسجيل جميع من لا يملكون هوية، ودراسة أوضاعهم بالتعاون مع جمعيات حقوق الإنسان لضمان الشفافية والعدالة.
- منح وثائق مؤقتة تتيح لهم التعليم، الصحة، التملك، والتوظيف، حتى تُحل مشكلتهم نهائيًا.
- حمايتهم من التهجير القسري، ووقف طرد العوائل من بيوتهم في جدة ومكة بحجة أنهم ليسوا من السكان الأصليين. كثير منهم ساكنون منذ زمن ويستحقون الاستقرار.
يقول الدكتور عبد العزيز الفايز، الأخصائي الاجتماعي: “وجود شرائح من البدون في المجتمع السعودي وفي مختلف المناطق يعتبر من المشكلات الاجتماعية الخطيرة التي تتفاقم عامًا بعد عام. لذلك، لابد أن تتحرك الدولة لإيجاد حلول عاجلة نظرًا لوجودهم بهذه الأعداد الكبيرة، وفي ظل هذه الأوضاع المعيشية الصعبة التي تهدد استقرار المجتمع”. وأضاف: “عدم قدرة هذه الفئة على الحصول على الخدمات والحقوق يجعل أفرادها يلجؤون إلى الجريمة، من سرقات، بيع مخدرات، دعارة، والإرهاب”.
البدون ليسوا لاجئين، ولا هاربين من العدالة، ولا يعيشون في الظل بإرادتهم. أُجبروا على أن يكونوا بدون. النظام تجاهلهم. هم أبناء هذه الأرض، وتجاهل قضيتهم لا يحلها، بل يزيدها تعقيدًا. إذا كانت رؤية 2030 تهدف إلى التطوير ورفاهية المجتمع، فعليها أن تشمل كل فئاته، ومن أهمها هذه الفئة التي عاشت بيننا من سنين لكنها لم ترَ سوى التجاهل. قضية البدون ليست سياسية، بل هي أولاً وآخرًا إنسانية.
ما رأيكم؟ ما الحلول التي ترونها مناسبة لهذه الفئة؟ وهل فعلاً الحكومة تريد حل هذه المشكلة؟ شاركونا آراءكم في التعليقات.
المصدر: رأي الخليج