من مقتل الباشا إلى جمعة الغضب.. جسر قصر النيل شاهد على تاريخ مصر الحديث
القاهرة- بأسوده الأربعة القابعين على أطرافه، يحكي جسر قصر النيل الذي يربط بين ضفتي النيل، وسط العاصمة المصرية القاهرة، تاريخا من الحوادث السياسية والاجتماعية التي شهدتها البلاد.
فعلى هذا الجسر التاريخي -أو “الكوبري” كما يسميه المصريون- لقي رئيس الديوان الملكي في الأربعينيات مصرعه إثر حادث غامض، وبعدها بأكثر من 6 عقود شهد أعنف مواجهات ثورة يناير/كانون الثاني 2011 بين المتظاهرين والأمن، ومن فوقه أنهى العشرات حياتهم تعبيرا عن ضيق الحال وغياب العدالة الاجتماعية.
وشهد يوم السادس من يونيو/حزيران الافتتاح الثاني للجسر، بعدما قام الملك فؤاد الأول بتحديثه وافتتاحه عام 1933. وفي هذا التقرير، نستنطق البناء التاريخي ليحكي لنا بعضا مما جرى فوق سطحه كشاهد على تاريخ مصر الحديث.
بين عصرين
يعرف المصريون اليوم كوبري قصر النيل بوصفه المعبر الأشهر والأقدم الذي يربط ضفتي النيل في قلب العاصمة، والمتنزه الذي يلجأ إليه البسطاء صيفا هربا من حرارة الجو وغلاء المصايف، ولكن كثيرين لا يعرفون أن الكوبري القائم الآن ليس هو نفسه الذي بناه الخديوي إسماعيل وافتتح عام 1872.
كان الخديوي إسماعيل يحلم بتحويل القاهرة إلى مدينة أوروبية الطراز، وشرع بالفعل في العديد من المشروعات الكبرى، كان من بينها مشروع إنشاء جسر يربط بين ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليا) ومنطقة الجزيرة على الضفة الغربية للنيل، ويسهّل عبور المشاة والدواب بين ضفتي النيل.
أسند المشروع إلى شركة “فيف ليل” الفرنسية التي بدأت العمل في إنشاء الجسر عام 1869 واستمر قرابة 3 أعوام، ليتم افتتاحه في العاشر من فبراير/شباط 1872، بتكلفة بلغت 114 ألف جنيه مصري.
وأصبح الكوبري -البالغ طوله 406 أمتار وعرضه 10.5 أمتار- أول جسر على نيل القاهرة، واشتهر بتماثيل الأسود الأربعة البرونزية التي وضعت عند أطرافه.
قررت السلطات وقتها فرض رسوم عبور مختلفة القيمة على المارة والدواب والعربات، مع استثناء الأطفال دون السادسة، على أن تخصص هذه الرسوم للإنفاق على لوازم الكوبري، كما جاء في نص المرسوم الذي نشرته جريدة “الوقائع المصرية” في 27 فبرایر/شباط 1872.
البناء الثاني
ظل الكوبري صامدا لنحو 60 عاما، حتى بدت الحاجة إلى تطويره وتوسعته ليفي بعمليات النقل المتزايدة والحمولات الحديثة، فتقرر هدم الكوبري القديم وبناء آخر محله.
وتم إسناد مهمة إنشاء الكوبري الجديد لشركة “دورمان لونغ” الإنجليزية بتكاليف وصلت إلى 308 آلاف جنيه مصري، حسب الكاتب والمؤرخ المصري عباس الطرابيلي في كتابه “شوارع لها تاريخ.. سياحة في عقل الأمة”.
وضع الملك فؤاد حجر الأساس للكوبري الجديد في الرابع من فبراير/شباط 1932، وافتتحه في السادس من يونيو/حزيران 1933، وأطلق عليه اسم والده الخديوي إسماعيل، وأصبح طول الكوبرى الجديد 382 مترا وعرضه 20 مترا، واحتفظ بالأسود الأربعة الشهيرة على أطرافه وإن وضعت على ارتفاع أقل من سابقه.
تسمية بأمر الشعب
ترجع تسمية قصر النيل التي حملها الجسر إلى يومنا هذا، إلى وجوده بجوار قصر كبير بناه محمد علي باشا لابنته نازلي هانم على ساحل النيل، وهو القصر الذي هدمه سعيد باشا ليبني مكانه ثكنات قصر النيل العسكرية، ولاحقا أصبح مقر جامعة الدول العربية، لكن المنطقة والجسر احتفظا باسم قصر النيل.
رغم أن الجسر حمل أسماء رسمية عديدة بداية من كوبري إسماعيل إلى كوبري التحرير وكوبري جمال عبد الناصر، غير أن اسمه الأشهر “قصر النيل” ظل صامدا لأن “قرارات الشعوب أقوى من أي مراسيم حكومية”، حسب تعبير عباس الطرابيلي.
مقتل الباشا
التاريخ الطويل للجسر جعله شاهدا على أحداث جسام في تاريخ مصر، ومن بينها حادث مصرع أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي في عهد الملك فاروق عام 1946، والذي لا يزال يثير الجدل إلى يومنا هذا.
لم يكن أحمد حسنين باشا شخصية عادية في تاريخ مصر في تلك الحقبة، فالكثير من المؤرخين يرون أنه كان الرجل الأقوى في البلاط الملكي، والمخطط والمحرك لكثير من سياسات الملك فاروق.
جاءت نهاية الرجل في التاسع من فبراير/شباط 1946 فوق كوبري قصر النيل، حين تعرضت سيارته لتصادم قوي مع شاحنة “لوري” تابعة لجيش الاحتلال الإنجليزي، ليتم نقله مصابا إلى المستشفى ويلفظ أنفاسه الأخيرة.
ظلت الشكوك تحوم حول الحادث، ووجهت بعض الصحف في ذلك الوقت أصابع الاتهام للسفير البريطاني لدى القاهرة السير مايلز لامبسون، لأن حسنين باشا تسبب في نقله من مصر بعد حادثة الرابع من فبراير/شباط 1942 الشهيرة، حين حاصر الجيش البريطاني الملك فاروق وطالبه لامبسون بالتنازل عن العرش أو إسناد رئاسة الحكومة إلى زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس.
جمعة الغضب
بعد أكثر من 6 عقود كان جسر قصر النيل موقعا لواحدة من أشهر مواجهات ثورة 25 يناير/كانون الثاني بين المتظاهرين السلميين وقوات الأمن في يوم 28 يناير/كانون الثاني 2011 الشهير بجمعة الغضب.
في ذلك اليوم، خرجت جموع المتظاهرين المطالبين بسقوط نظام الرئيس حسني مبارك بعد صلاة الجمعة من أنحاء العاصمة في طريقها إلى ميدان التحرير، لكن قوات الأمن تصدت لها على كوبري قصر النيل.
ومع المحاولات المستمرة من المتظاهرين للوصول إلى الميدان، لجأت قوات الأمن إلى تفريقهم بالقنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه.
لكن المتظاهرين ازدادوا صمودا وتصميما على الوصول إلى هدفهم، ليلجأ الأمن إلى استخدام الرصاص المطاطي والرصاص الحي، وفق شهادات العديد من النشطاء المشاركين في المظاهرات، وشرعت المدرعات في دهس المتظاهرين.
استمرت المواجهات بين الطرفين على كوبري قصر النيل لعدة ساعات، ومع آخر أضواء النهار كانت قوات الأمن تتراجع بعد أن أدركت أنها لن تتمكن من الصمود أكثر من ذلك أمام موجات المتظاهرين.
وبعدما كان مسرحا لصمود المتظاهرين، مثّل كوبري قصر النيل معبرا توافد عبره آلاف الثوار إلى ميدان التحرير ليبدأ الاعتصام المفتوح الذي انتهى بتنحي مبارك يوم 11 فبراير/شباط 2011.
شاهد على الطبقية
لم يكن كوبري قصر النيل شاهدا على الأحداث السياسية فقط، لكنه كان محورا لحوادث اجتماعية عدة، عدها البعض دليلا على الطبقية وغياب العدالة الاجتماعية.
أشهر هذه الحوادث كان حادث انتحار الشاب المتفوق عبد الحميد شتا خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 2003، بعدما فشل في تحقيق حلمه بالالتحاق بالعمل في السلك الدبلوماسي لأنه “غير لائق اجتماعيا” وفق مبررات رفضه.
كافح شتا في كليته ليتخرج بتقدير عام جيد جدا، وثابر ليكتسب المزيد من المهارات واللغات ليحقق حلمه في الالتحاق بالسلك الدبلوماسي.
ومع إعلان الجهات المعنية فتح باب التقدم لوظيفة الأحلام التي ينتظرها شتا، سارع بخوض الاختبارات واجتازها بتفوق متقدما على أقرانه من المتقدمين للوظيفة ومعظمهم من أبناء الدبلوماسيين وأصحاب الوساطة، كما نشرت بعض الصحف المصرية وقتها.
لكن أحلام شتا تحطمت حين وجد أمام اسمه عبارة “مرفوض”، أما السبب فإنه “غير لائق اجتماعيا” وهي عبارة تشير إلى بساطة حال أسرته التي يعولها والده العامل البسيط.
أظلمت الدنيا أمام شتا وقادته قدماه إلى كوبري قصر النيل، ليلقي بنفسه في النيل احتجاجا على الظلم الذي تعرض له، وينهي حياته نهاية مأساوية ويصبح كوبري قصر النيل شاهدا على ظلم الطبقية التي تحكم تولي الوظائف في مصر.
ملجأ البسطاء
وكما أنهى شتا حياته هربا من الظلم الاجتماعي، سار على دربه العديد من الأشخاص هربا من الفقر وضيق الحال.
ورغم ذلك فإن كوبري قصر النيل يبقى ملاذا للبسطاء للتنزه والتمتع بنسمات الهواء المنعشة صيفا، محتفظا بين أرجائه بذكريات شعب وتاريخ أمة من تحولات سياسية واجتماعية عبر السنين.