الاخبار العاجلةسياسة

بونغ بونغ يعيد آل ماركوس إلى قيادة الفلبين

حين أطاحت ثورة شعبية في الفلبين بالدكتاتور فرديناند ماركوس قبل 36 عاما لم يرد بخيال أحد أن ابنه الذي يحمل نفس الاسم سيعود يوما ويدخل القصر الرئاسي الذي فر منه والده وآله وحاشيتهم هاربين إلى الولايات المتحدة التي طالما دعمت حكمه رغم الفظائع التي ارتكبها بحق مواطنيه.

يتأهب ماركوس “جونيور” الابن الوحيد للدكتاتور الراحل لتولي مهام منصبه رسميا رئيسا للبلاد بعد غد الخميس ليصبح الرئيس الـ 17 للفلبين خلفا للرئيس المثير للجدل رودريغو دوتيرتي الذي سبق وأدت ابنته سارة اليمين الدستورية نائبة للرئيس الجديد قبل أسبوعين.

حقق جونيور “بونغ بونغ” فوزاً ساحقا في الانتخابات الرئاسية التي جرت في 9 مايو/أيار الماضي، وهزم 9 معارضين آخرين بفارق كبير، وحصل على 31 مليون صوت، مقابل 14 مليونا لأقرب منافسيه ليني روبريدو نائب الرئيس دوتيرتي المنتهية ولايته.

المراقبون يعتبرون هذا النصر نكسة إضافية لأمة كانت تحظى ذات يوم بالإعجاب باعتبارها واحدة من الديمقراطيات القليلة جنوب شرق آسيا، لكنها تواصل السير على طريق الشعبوية حيث يخلف ماركوس الابن الرئيسَ دوتيرتي المعروف بإهاناته الفظة، وحربه على المخدرات التي خلفت آلاف القتلى خارج نطاق القانون.

وصدم فوز ماركوس (64 عاما) الفلبينيين الذين عاشوا فترة حكم والده والتي يعتبرونها واحدة من أحلك الفترات في تاريخ البلاد، وأكثرها قتامة وفسادا، جعلت الفلبين “رجل آسيا المريض” ولم تنته إلا بثورة شعبية عام 1986عرفت باسم “سلطة الشعب” نجحت في إسقاط والده، وطرده ليموت منفيا في هاواي بعد ذلك بمدة 3 سنوات عن عمر يناهز 72 عامًا. فما الذي حدث وأفرز تلك الحالة الصادمة لقطاع كبير من الفلبينيين الذين ظنوا أنهم ودعوا حقبة ماركوس إلى غير رجعة؟

غروب

ما بين غروب ثم شروق آل ماركوس، قصة سياسية تتنوع فصولها وتفاصيلها بالتوازي مع شروق ثم غروب “ربيع الفلبين” وثورتها الشعبية قبل أكثر من 3.5 عقود، وهو أمر قد يغرى بمقارنة مصير “الربيع الفلبيني” المبكر الذي لا يجد له مكانا في ذاكرة الأجيال الجديدة في الفلبين، بـ “الربيع العربي” الذي لا يزال حضوره غضا في ذاكرة الشهود، لاستشراف المآلات.

كان “جونيور” في الثامنة من عمره عندما تم انتخاب والده رئيسا عام 1965، لتلك الدولة الواقعة جنوب شرق آسيا البالغ تعداد سكانها 110 ملايين نسمة لمدة 21 عاما منها 9 أعوام بالأحكام العرفية، قمع خلالها المعارضة السياسية بوحشية وقتل الآلاف من منتقديه وخصومه، واعتقل عشرات الآلاف وتعرضت أعداد كبيرة منهم للتعذيب والاعتداء الجنسي على أيدي الجنود في السجون.

بعد اغتيال السياسي نينوي أكينو المناهض لماركوس عند عودته من المنفى في الولايات المتحدة، احتشدت حركة معارضة ضخمة حول أرملته كورازون أكينو التي وقفت ضد ماركوس بانتخابات رئاسية مبكرة عام 1986. وعندما أُعلن فوز ماركوس وسط عمليات تزوير انتخابية واسعة النطاق، اشتعلت احتجاجات ضخمة بلغت ذروتها في ثورة “سلطة الشعب” التي دعمتها الكنيسة الكاثوليكية بتوجيه من الكاردينال خايمي سين. كما تمرد كبار ضباط الجيش على ماركوس وتدفق الفلبينيون إلى الشوارع لحمايتهم. ورفضت القوات الموالية إطلاق النار على الحشود. وبعد 4 أيام من الاحتجاجات الجماهيرية، فر ماركوس إلى هاواي وتم انتخاب كورازون رئيسة في نفس العام.

هروب آل ماركوس وحاشيتهم، بمخزون مذهل من الثروة المنهوبة التي بلغت ـحسب الإعلام الأميركي في ذلك الوقتـ 7.7 ملايين دولار نقدا وما قيمته 4 ملايين دولار من الأحجار الكريمة والمجوهرات، بما في ذلك تاج ذهبي و3 تيجان مرصعة بالألماس. لكن هذا لم يكن سوى جزء ضئيل من الأموال المنهوبة والمقدرة بملايين الدولارات.

وفي العقود التالية، تعرض فرديناند الابن، والأم إيميلدا ماركوس ـالشهيرة بما تمتلكه من آلاف الأحذية الباهظة الثمن- لتهم جنائية ومدنية بالاحتيال في الولايات المتحدة واتهامات من قبل الحكومة الفلبينية بأن الزوجين وحاشيتهم نهبوا مليارات الدولارات من الوطن الأم، خبؤوها في حسابات بنكية في سويسرا وهونغ كونغ، وحاولوا الاستفادة من الاستثمارات السرية بالعقارات في نيويورك.

العودة

بعد عامين من وفاة ماركوس، سُمح لإيميلدا بالعودة، ومنذ ذلك الحين لم تخف العائلة خططها لاستعادة السلطة والنفوذ السياسيين وإعادة تأسيس ما يسمى “إرث” ماركوس. وتم انتخاب جونيور عام 1992 حاكما في مقاطعة إيلوكوس سور الشمالية معقل شعبية ونفوذ العائلة، وأصبح عضوا في مجلس الشيوخ عام 2010، أما شقيقته إيمي فهي عضو في مجلس الشيوخ وحاكم سابق، وكانت والدتهما البالغة من العمر 92 عامًا عضوة بمجلس النواب 4 فترات.

وخلال فترة رئاسته شكر الرئيس دوتيرتي عائلة ماركوس مرارا وعلنا لدعم ترشيحه بالانتخابات الرئاسية لعام 2016. ولم يكتف بالشكر بل عاد تأهيل اسم ماركوس، بعد شهور قليلة من توليه المنصب وفاجأ الفلبينيين بدفن رفات الدكتاتور ماركوس في مقبرة “أبطال الأمة” بضاحية تاجويج في العاصمة مانيلا بمراسم عسكرية تكريمية أحيطت بإجراءات أمنية مكثفة بعد نقل الرفات من الولايات المتحدة في تكتم شديد، كما طرح دوتيرتي علنًا فكرة إنهاء البحث عن ثروته المخفية.

وترشح ماركوس الابن لمنصب نائب الرئيس عام 2016 ليخسر بفارق ضئيل أمام بينينو “نوينوي” أكينو جونيور نجل بينينو “نينوي” أكينو الأب، المنافس اللدود لولده الراحل، لكن جونيور اعتبر هزيمته بمثابة جولة تحضيرية لحملة رئاسية عام 2022.     

ولدى إعلانه الترشح للانتخابات الرئاسية الأخيرة، سارع مدافعون عن حقوق الإنسان وسياسيون يساريون بإدانة ترشحه، وتعهدوا بشن حملة ضده لإحباط أي محاولة لإحياء المكانة السياسية لعائلته. وقال تحالف ضد عودة آل ماركوس إلى السلطة، يُعرف باسمه المختصر “كارما” إن محاولة الترشح للرئاسة “عرض وقح لتجاهل واحتقار آلاف الفلبينيين الذين تعرضوا للقتل والاختفاء والتعذيب والتشريد والاعتداء” خلال فترة حكم والده.

كيف فاز؟

في محاولة للإجابة عن السؤال السابق، يقول مراقبون إن فوزه يعكس الإحباط من فشل الإدارات السابقة في توفير إصلاحات كافية وملموسة في أعقاب ثورة “سلطة الشعب” التي أطاحت بماركوس الأب. وينبه آخرون إلى أن جونيور يتمتع بشعبية كبيرة بين العديد من الشباب، كما أن العائلة تحظى بدعم في مقاطعة إيلوكوس نورتي المعقل التقليدي شمال البلاد، بينما يرى بعض المحللين فوزه استمرارا لموجة شعبوية بدأت بالرئيس دوتيرتي.

أما الرهان على الذاكرة التاريخية للحيلولة دون هذا الفوز فباء بالفشل خصوصا وأن أكثر من 50% من الناخبين تتراوح أعمارهم بين 18 و41 سنة، مما يعني أنهم لا يتذكرون الحكم الوحشي لماركوس لأنهم إما لم يولدوا أو أصغر من أن يفهموا الاعتقالات الجماعية والتعذيب والانتهاكات الأخرى في تلك الحقبة، كما ينبه الأكاديميون إلى أن هذه الفترة لم يتم تدريسها بشكل كامل في المدارس.

فقدت الذكريات التاريخية زخمها، وكان من الممكن أن تمنع عودة ماركوس آخر إلى السلطة في حملة تعديلية دؤوبة ومنهجية نظمها بنجاح فريق ماركوس، باستخدام منصات تواصل ووسائط اجتماعية مختلفة. وأدت الجهود، التي قيل إنها كانت في طور الإعداد لعقد من الزمان، إلى فوز ساحق غير مسبوق لجونيور الذي ساهم ثراء أسرته في الإنفاق ببذخ على حملته الانتخابية واستخدام منصات التواصل بصورة مكثفة لإقناع الناخبين بأفضليته.

العلاقات السياسية

في الفلبين تهيمن العائلات السياسية على المشهد، وأسرة ماركوس من بين أكثر العائلات شهرة، ويجسد الرئيس الجديد ونائبته تلك الحالة حيث وحدا قواعد دعمهما شمال وجنوب البلاد، في شراكة توسطت فيها الرئيسة السابقة جلوريا ماكاباجال أرويو، مما لا يعكس فقط الحفاظ المتبادل على عائلاتهم، بل أيضًا النظام الأوسع للعائلات السياسية التي تهيمن على السياسة في الفلبين، ولو لم تكن أرويو قد توسطت في هذا التحالف لكانوا قد تقاتلوا ضد بعضهم البعض، وكان ذلك سيؤدي إلى تفكيك قواعدهم.

ومع وجود سارة دوتيرتي (43 عاما) سيحمي جونيور سلفه من التحقيقات والملاحقات القضائية المحتملة لانتهاكات حقوق الإنسان وقتل الآلاف خارج نطاق القانون خلال سياسته “الحرب على المخدرات” التي أطلقها دوتيرتي وفتحت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقا بشأنها، ومن المرجح أن يواجه جونيور مطالبات بمحاكمة دوتيرتي على آلاف عمليات القتل، لكن ماركوس الابن سبق وقال إنه يرحب بمحققي المحكمة الدولية كسائحين فقط.

كيف سيحكم؟

خلال حملته الانتخابية تجاهل جونيور جميع المناظرات الرئاسية، وترك الكثيرين يخمنون كيف ستتعامل إدارته مع التحديات العديدة التي تواجه الفلبين. وهناك مخاوف من عودة ماركوس الابن العودة إلى الاضطهاد الذي كان سائداً أيام والده، ويقول مراقبون “إن ذلك قد يشير إلى حقبة جديدة من سياسات الأسرة الحاكمة، بدلاً من الدكتاتورية الوحشية”.

لكن عند إعلان فوز جونيور أصدر المتحدث باسمه بيانا يقول للعالم: احكموا علي ليس من خلال أسلافي، ولكن من خلال أفعالي. لكن المراقبين للمشهد يرون أن أي تحليل لمستقبل الفلبين في ظل رئاسة سليل عائلة ماركوس سيبدو أجوف دون النظر إلى الماضي. وقد يسعى جونيور إلى تغيير دستور عام 1987، ويحاول تغيير مادة تمنع الرؤساء من السعي لإعادة انتخابهم نهاية فترة 6 سنوات.

وإلى جانب الملف الحقوقي، تعاني البلاد وضعا اقتصاديا خانقا ويعيش خمس الفلبينيين في فقر مدقع، وانهارت أعداد ضخمة من الشركات الصغيرة. لكن ماركوس لم يقدم رؤية أو برنامجا لكيفية معالجة هذه المشاكل مكتفيا بالصورة التي قدمتها حملته الانتخابية على أنه نصير للفقراء.

السياسة الخارجية

كثيرا ما كانت الفلبين حليفا عسكريا تقليديا للولايات المتحدة، لكن العلاقات بين واشنطن ومانيلا توترت في عهد دوتيرتي وأعلن “انفصال” بلاده عن الولايات المتحدة رغم أن الرئيس السابق دونالد ترامب أكد أن العلاقة لا تزال “عظيمة”. ومن غير الواضح كيف سيغير انتصار جونيور علاقة البلاد بالصين، فهل سيواصل سياسات سلفه ويمضى في إرضاء الزعيم الصيني شي جين بينغ وسط النزاعات الإقليمية بين البلدين في بحر جنوب الصين أم سيتخذ موقفا أكثر ليونة مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية؟

كان الرئيسان الأميركي جو بايدن والصيني من بين أوائل قادة العالم الذين هنؤوا جونيور على فوزه الواضح بالانتخابات، مما يشير إلى أن الخصمين ينظران إلى الفلبين على أنها محور رئيسي في منطقة المحيطين الهندي والهادي ذات الأهمية الإستراتيجية.

الواقع يؤشر إلى أنه سيتعين على ماركوس الابن أن يتعامل بحذر شديد فيما يتعلق بالعلاقات مع الولايات المتحدة، فرغم مليارات الدولارات من الاستثمارات الصينية في الفلبين، لا تزال البلاد تعتمد على الولايات المتحدة باعتبارها الداعم الرئيسي لها حيث يعتبر الجيش الأميركي مصدرا رئيسيا للأسلحة والتدريب.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى