الاخبار العاجلةسياسة

مشاهد من تحت الأنقاض.. منقذ في شمال غزة يروي تفاصيل الموت

غزة- لمّا فار تنّور غزة، كان نوح الشغنوبي يتهيأ لصنع سفينة النجاة، لينتشل أرواحاً تغرق في بحار الموت، يحمل على متن السفينة الناجين ويرسو بهم على برّ الحياة، محققاً بذلك الحلم الذي كان يراوده منذ كان طفلاً بأن يظفر بلقب “بطل الإنقاذ” وقد صار بالفعل.

ويوم السبت السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وبينما تقرع الحرب طبولها، فزّ الشغنوبي مجهزا حقيبته ليشد الرحال إلى الدفاع المدني، وبينما هو كذلك كانت أمه تتبعه وتتلو عليه تراتيل التحصين، وتذكره بالنية “لوجه الله يمّا” وهي المرة الأخيرة التي رأى فيها وجه أمه منذ تلك الساعة.

“ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا” حسمت هذه الآية القرآنية قرار الشاب البالغ “24 عاماً” في الانضمام إلى جهاز الدفاع المدني قبل 4 أعوام، بعد أن كان لاعبا محترفاً لرياضة ستريت ورك آوت “رياضة الشارع” التي هيأته جسدياً ومنحته اللياقة والمرونة اللتين ساعدتاه فيما بعد على تسلق الحيطان، والانسياب في ثغرات الجدران، وتحمل الضغط لساعات طويلة.

نوح-في-رمضان-العام-الماضي-و-رمضان-الحرب-!01
الشغنوبي كان لاعبا محترفا في رياضة الشارع التي هيأته جسديا (الجزيرة)

حرب من نوع آخر

“وصلْنا في بعض الأحيان لدرجة أن ننقذ فقط من يتنفس، حتى نتمكن من تلبية المناشدات والمهمات التي تنتظرنا “يصف الشغنوبي للجزيرة نت حجم الضغط الذي يتعرضون له خلال هذه الحرب التي لا مجال لمقارنتها بالحرب السابقة التي عايشها كفرد في الدفاع المدني.

ليلاً كان ضجيج الصمت المدوي يمنح الشغنوبي فرصة لاستجلاب الأحداث التي عاشها خلال يومه، فالظلام الذي يراه حين يغلق عينيه يصير مسرحاً تكتظ فيه لقطات الأجساد المهشمة ويعلو فيه أنين المكبوسين تحت الأنقاض وتنبعث منه رائحة الموت.

وبينما يروي الشغنوبي لوالدته النازحة إلى جنوب القطاع ما يعيشه، كانت تعلّق “اخلع السترة يمّا والله خايفة عليك” لكنّ مطلبها اليومي الملح كان يُقابل من الشغنوبي “والله ما بيهون عليّ يما واللي كاتبو ربنا بنشوفه”.

خبرة إنقاذ الحياة

“دفاع مدني في حد سامعنا في حد عايش؟!” يتحدث الشغنوبي للجزيرة نت عن تفاصيل ما يقومون به وقت وصولهم لموقع الاستهداف، حيث يقول “إن هذا النداء يعطي العالقين تحت الأنقاض الأمان بأن هناك أملا في الخروج من مقابر الموت”.

يستخدم الشغنوبي “أذنه” لإيجاد دليل على الحياة، ويسترق السمع للبحث عن أحياء، ينصت للصوت المنبعث من ثغرات الجدران، ويتمنى في كل مرّة أن ينجو أحدٌ ليدلهم على أعداد الأحياء والمفقودين.

7 أشهر من الإنقاذ كانت كفيلة بصنع خبرة واسعة للشغنوبي، خبرة تجاوزت استراق صوت العالقين تحت الأنقاض، والوصول إليهم وانتشالهم من تحت أسقف إسمنتية بيدين عاريتين وإسعافهم بشكلٍ أوليّ تجاوزت ذلك إلى تقدير عمر الموت.

“من شكل الجثة ورائحتها أعرف متى انقطع عنها النفس” ذكرها الشغنوبي ثم صمت قليلا وقال “الأشخاص الذين لم يتحللوا وانبعثت منهم رائحة المسك لا حصر لهم، أذكر منهم أمّا طلبت من بناتها أن يزغردن حين فاحت ريح ابنها مسكاً في أرجاء المشفى وهي متهللة “عريس في الجنة يما، عريس متعطّر”.

الأمانة شرط

ظهر الشغنوبي مع مجموعة من أفراد الدفاع المدني -في مقطع مصور تداولته مواقع التواصل الاجتماعي- وهو يسلم ناجية من عائلة “خورشيد” مبالغ مالية ضخمة وحقائب من مصاغ ذهبي كان لسيدات من العائلة استشهدن في استهداف الفيلا الخاصة بهم.

ولأول مرة يجرّب الشغنوبي شعور “الملل” من جمع المال المبعثر بين ركام الفيلا المستهدفة، وفي كل مرة كان ينكفئُ فيها لجمع المال أكثر كانت تتعاظم لديه القناعة “بهزلية الدنيا، حيث مُسحت العائلة من السجل المدني بعدما تركوا سيارات فارهة وبيتاً واسعاً ومالا كثيرا وحليًّا وبضائع ومخازن ولم ينج منهم أحد”.

يقول الشغنوبي إن “الأمانة والخوف من الله” شرطان أساسيان لابد من وجودهما في رجل الدفاع المدني الذي ليس مستأمنا على أرواح الناس فحسب، بل على عوراتهم وأموالهم وما تبقى منهم ولهم، خاصة أنهم أول من يطأ موضع الاستهداف قبل أي أحد.

اقرأ ايضاً
الإيكونوميست: الطائرات المسيّرة الخاصة "تغيّر" مسار الحرب في أوكرانيا

وفي الوقت الذي كان رجال الدفاع المدني يبذلون جهداً في الوصول إلى مناشدات العالقين تحت الأنقاض، كان الشغنوبي يتطلع لطريقة تصل فيها أصوات المحاصرين شمال القطاع إلى العالم، خاصةً في ظل افتقار الشمال للصحفيين بعد نزوح عدد كبير منهم إلى جنوبه، الأمر الذي دفعه إلى ممارسة دور مصور يوثق استهدافات الاحتلال وبنك أهدافه بعد أن كان هاويا يصور جمال المدينة التي يحبها.

لم يثنه التهديد

“ليش بتنشر؟!” هو سؤالٌ من المفترض أن يكون عاديا وإجابته حين سألته إياه الجزيرة نت “كي أفضح إجرام إسرائيل” كما قال، لكنّ الإجابة لابد أن تختلف حين يطرح السؤال ضابط إسرائيلي باتصال مباشر مع الشغنوبي “مش خايف على حالك وعلى أهلك؟!” هدده الضابط، ليناور الشغنوبي ويجيب “أنا أقوم بعملي كرجل دفاع مدني ومن مهامي أن أوثق إنجازاتنا كفريق إنقاذ”.

سرى تأثير المكالمة في نفسية الشغنوبي مدة يوم كامل، حاصرته هواجس أن يكون السبب في أي ضرر يلحق بأهله النازحين جنوباً، فارقته الهواجس سريعاً لمّا تذكر أن هناك مطمورين أسفل كتل إسمنتية بحاجته “وأنه يقوم بواجبه الإنساني الذي تحميه الشرائع والأعراف بل وتحضُّ عليه”.

لكن بخلاف ذلك فإن هذه الحرب كان واضحاً أنه لا حصانة فيها لأحد، فقد كان الدفاع المدني هدفاً مدرجاً ضمن بنك أهداف الاحتلال بأفراده وسيارته ومعداته ومقاره حتى تلك التي نزحوا إليها بعد تدمير مقرهم الرئيسي.

لم يُخفِ الشغنوبي -الذي رفض النزوح إلى الجنوب رغم وجود أهله هناك- دمعه في الليلة الأولى لابتعاد عدد من زملائه في الميدان، ومع كل دمعة كان يلعن إسرائيل التي شملتهم في حرب الإبادة.. “سوف نبقى هنا” يدندن الشغنوبي وهو مستلقٍ على الأرض وبجواره أصدقاؤه الذين آثروا البقاء.

بعد-12-محاولة-فاشلة-لتحصيل-كيس-دقيق-من-المساعدات-،-يظفر-نوح-بواحد-ويوزعه-للمحتاجين
الشغنوبي يظفر بكيس دقيق من المساعدات ويوزع على المحتاجين (الجزيرة)

توثيق يدين إسرائيل

علا نجم الشغنوبي على صفحات التواصل، وبلغ عدد الواصلين إلى حساباته أكثر من 35 مليون متابع، وصار مصدراً معتمداً لصفحات ووكالات عالمية، حتى إن الأمر تعدى ذلك لتُستخدم مقاطعه المصورة دليلا واضحا وصارخا يوثق جرائم إسرائيل، ويستخدم ضدها وفي محاججتها في محكمة العدل الدولية.

وعن كيفية قدرته على المزج بين المهمتين كمنقذ وموثق، قال الشغنوبي “كل الأماكن التي ندخل للإنقاذ فيها مظلمة، لذا أقوم بتشغيل كشّاف هاتفي لإنارة المكان وتفحصه والتعرف عليه، وفي الوقت ذاته تكون الكاميرا مفتوحة للتسجيل”.

وفي كثير من الأحيان يثبّت الشغنوبي هاتفه على منطقة عمله ويوجه الكاميرا عليها، وحين الانتهاء من تنفيذ المهمة يطلب من الناجين السماح له بنشر ما تم توثيقه.

كان آخر ما لقى رواجاً للشغنوبي قبل أيام وهو يسجد لله شكرا بعدما ظفر بكيس “طحين” بعد 12 محاولة فاشلة لتحصيله، ويقول الشغنوبي “اقتربت من المكان الذي تقف فيه شاحنات المساعدات، وقبل الوصول بقليل ظهر شخص لا أعرفه فتح باب سيارته أمامي ورمى عددا من الأكياس استأذنته بأخذ أحدها فسمح لي”.

حينها سجد الشغنوبي شكراً لله لأنه أوفى بوعده الذي قطعه لعدد من السيدات اللواتي لا معيل لهن بتأمين الدقيق لعائلاتهن، حتى أنه لم يتبقَ له إلا كيلو واحد من أصل 25.

مشروعه القادم

“هل ما زلتَ فعلاً تشعر بالناس رغم قولك المتكرر بأن مشاعرك تبلّدت من هول ما رأيت؟” سألته الجزيرة نت ليجيب “أكبر نعمة أعيشها خلال هذه الفترة هي نعمة التجاوز والنسيان لولاها لصرت مريضا نفسيا أو مجنونا”.

ولم يُخفِ الشغنوبي حاجته إن كتبت له النجاة بعد الحرب -كما يقول- أن يريح بصره من التشوه الذي حلّ بمدينته، وأن يجد له فسحة من مشاهد الدمار والدماء والأشلاء “سأسافر وحدي فترة قصيرة من الزمن إلى مكان بعيد أخلو به مع نفسي وأستعيد ما فقدت وأسترد سلامتي النفسية”.

هذا مشروعه القادم بعدما تحط الحرب أوزارها، يعقبه سريعاً “طبعاً سأفعل ذلك إن لم تتحقق أمنيتي بالشهادة، لكن بكل الأحوال أنا مستحيل مستحيل أترك غزة أو أهاجر منها”

أكثر من 185 يوماً ما زال الشغنوبي يُنقّب عن الحياة بالقدر الذي تسكب فيه إسرائيل على الفلسطينيين الموت، عُدَّته في ذلك يداه العاريتان يُجابه بهما ترسانة قتل تتوعد بالإبادة والتهجير.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى