أفغانستان.. عام في “بازار” طالبان
في قلب العاصمة الأفغانية كابل وقبل 15 عاما أنشئ سوق أطلق عليه اسم “بوش باز” تيمنا باسم الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن الذي أمر بغزو أفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001.
وبعد حوالي شهرين من الانسحاب الأميركي في أغسطس/آب من العام الماضي، غيرت حركة طالبان التي أحكمت سيطرتها على البلاد تسمية السوق وأطلقت عليه اسم “مجاهدين بازار”.
لم يختلف مصير “بوش بازار” الأميركي عن مصير بازار سابق كان يطلق عليه اسم “بريجنيف بازار” تيمنا باسم الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف الذي أمر بغزو أفغانستان في ديسمبر/كانون الأول 1979 حين كانت كابل مسرحا لسلسلة من الانقلابات والانقلابات المضادة فتحت الباب أمام الغزو السوفياتي.
أغلق “بريجنيف بازار” بعد فترة وجيزة من مغادرة السوفيات الذين مكثوا في أفغانستان نصف المدة التي قضاها الأميركيون هناك.
البضاعة التي تباع في “بوش بازار” كانت مهربة من القواعد الأميركية في أفغانستان، بينها معدات عسكرية مثل نظارات الرؤية الليلية، إلى جانب الأزياء العسكرية الأميركية والأفغانية والتي استغلها المقاتلون المناهضون للوجود الأميركي حينئذ.
وإلى جانب تلك المعدات كانت الأطعمة والمشروبات التي تباع في “بوش بازار” دخيلة على المجتمع الأفغاني مثل عبوات البيرة ومشروبات الطاقة، وفي كثير من الأحيان كانت عبوات الطعام المبيعة منتهية الصلاحية، تم التخلص منها أو تسليمها من قبل القوات الأجنبية.
ومن بين تلك الأطعمة التي طرحت في “بوش بازار” وجبات أكل جاهزة كانت مخصصة للإعاشة العسكرية الأميركية التي لم يدرك من أقبل على شرائها من بعض سكان كابل أنها تحوي لحم الخنزير، فهم لا يعرفون الإنجليزية لتميز ما تحتويه فضلا عن تاريخ الصلاحية..
لم يختلف الأمر كثيرا عن بضائع “بريجنيف بازار” وسط كابل الذي كان مزدهرا ثمانينيات القرن الماضي حيث باع الجنود السوفيات التجار المحليين كل شيء من الزي الرسمي إلى قطع غيار الشاحنات، إلى جانب منتجات أخرى سوفياتية مثل الكافيار والفودكا (نوع من الخمور) وهي كلاحقتها الأميركية دخيلة على المجتمع الأفغاني.
البازار واحد والمكان واحد، لكن التسمية تغيرت، كذلك البضاعة المعروضة في “البازار” بطبعاته السوفياتية التي دامت نحو 10 سنوات، ثم الأميركية التي استمرت 20 عاما وأخيرا “الطالبانية” المفتوحة، على فضاء أفغاني واسع وحافل ليس بالبضائع والمنتجات التي تباع وتشترى، ولكن بملفات كثيرة تتعدد عناوينها لتشمل السياسي والأمني والاقتصادي الاجتماعي وعلاقات الجوار.
فكيف تبدو أبرز ملامح أفغانستان الآن بعد عام من خروج الأميركان وعودة طالبان؟ وماهي طبيعة الأولويات في هذه المرحلة الحرجة للانتقال من الفوضى أملا في تحقيق الاستقرار، وسط تحديات مروعة في المجالين الإنساني والاقتصادي؟
الاسم والشعار
في النصف الأول من العام الأول لحكم طالبان في طبعتها الجديدة بعد الانسحاب الأميركي قبل عام، غيرت حكومة الحركة اسم الدولة من جمهورية أفغانستان إلى إمارة أفغانستان الإسلامية.
وكما غيرت الحركة اسم الدولة غيرت علمها أيضا المكون من الألوان الثلاثة (الأسود والأحمر والأخضر) واستبدلته براية بيضاء كتب عليها بالأسود عبارة “لا إله إلا الله محمد رسول الله” وأقامت حفلا حاشدا في كابل بهذه المناسبة مطلع أبريل/نيسان الماضي.
ابتعدت حكومة طالبان عن كل أشكال الحكم الأفغانية التاريخية السابقة سواء ملكية أو جمهورية أو شيوعية وركزت على إرساء شكل مبسط للقانون والنظام، انطلاقا من فهمها لتطبيق الشريعة الإسلامية في “الإمارة الإسلامية”.
ومع تغيير الاسم والراية، بدت طالبان أكثر براغماتية، وأقل راديكالية، مقارنة بما كانت عليه بطبعتها الأولى التي أطاح بها الغزو الأميركي لأفغانستان قبل أكثر من عقدين حيث تعهدت الحركة بالالتزام بحقوق الإنسان، وتشكيل حكومة شاملة، وتقديم العفو لموظفي الحكومة السابقين وعدم السماح للبلاد بالعمل كملاذ آمن للإرهابيين.
الأمن
المراقب للوضع الأمني في أفغانستان -خلال العام الأول لحكم طالبان- يلحظ انحسارا لأعمال العنف مقارنة بما كان عليه الحال الأعوام السابقة، وظل الوضع الأمني مستقرا وفي أكثر من مناسبة أكدت حكومة طالبان تكريس جهودها لإرساء الأمن في أشلاء الدولة.
يشهد لها في هذا الملف بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى أفغانستان التي سبق وذكرت في تقرير لها أن الأمن قد تحسن، وأن طالبان اتخذت خطوات “تهدف إلى حماية حقوق الإنسان وتعزيزها”.
كما يشهد لها أيضا خصمها حامد كرزاي أول رئيس لأفغانستان بعد الغزو الأميركي الذي قال في مقابلة مع صحيفة “india today ” الهندية قبل يومين إن الشعب الأفغاني سعيد لعدم اندلاع حرب العام الماضي، وإن المزيد من الأفغان لم يفقدوا أرواحهم على جانبي الصراع” مضيفا أنه “باستثناء هذه الحالة، فإن كل شيء كان سلبيا”.
ويرجع المراقبون الاستقرار الأمني النسبي إلى الهيبة التي فرضتها طالبان التي بدأت فترة حكمها الثانية من موقع قوة رمزية استثنائي حيث فصلت المحاكم الخاصة بها في النزاعات المحلية، فكانت العدالة الناجزة فعالة مقارنة بمنظومة القانون الأفغاني العقيمة، والآثار المدمرة للحملة العسكرية التي قادها الغرب.
ورغم ذلك لم يخل العام الأول من حكم طالبان من بعض أعمال العنف والاغتيالات التي راح ضحيتها علماء دين، كما شهد تفجير معبد للسيخ في كابل، وسوق مزدحمة في ننغرهار، ومسجد في مقاطعة قندوز.
ترد اقتصادي
خلال العام الحالي شهدت أفغانستان أسوأ موجة جفاف منذ ما يقرب من 30 عاما قد أثرت على 3 أرباع ولاياتها، مما أثر على إنتاج المحاصيل ليضاعف من معاناة الاقتصادية التي تعيشها البلاد والتي جعلتها على شفا الانهيار.
ويذكر رامز الأكبروف نائب الممثل الخاص والمنسق المقيم ومنسق الشؤون الإنسانية بأفغانستان أن اقتصاد البلاد تقلص بنسبة تتراوح بين 30 و40% منذ أغسطس/آب 2021، كما انخفض الناتج والدخل بنسبة تتراوح ما بين 20 و30%.
وتشير بعض التقديرات ـحسب الأكبروف- إلى أن معدلات الفقر قد ترتفع لتصل إلى 97% بحلول نهاية 2022. والأمر الأكثر إثارة للقلق في رأيه أن 82% الأسر مثقلة بالديون.
وتوقع أن يواجه الشعب أزمات إنسانية متكررة يحتمل أن تحفز الهجرة الجماعية وتهيئ الظروف المناسبة للتطرف وتجدد الصراع المسلح، مشيرا إلى أن الأزمة الاقتصادية الحالية تعتبر “القضية الوحيدة الأكثر أهمية كمحرك محتمل للصراع فضلا عن كونها محركا للبؤس”.
وبعد يوم من الزلزال المدمر الذي ضرب ولايتي باكتيكا وخوست في 9 أغسطس/آب الماضي، وأودى بحياة ما يقرب من 800 شخص، طالب مندوب روسيا في الأمم المتحدة بـ “ضرورة إيجاد مسارات واقعية لإلغاء تجميد الأصول المالية والخدمات المصرفية المشروعة لأفغانستان”.
وحث المندوب الروسي مجلس الأمن على ضمان ألا تعرقل العقوبات الحالية تقديم المساعدة الإنسانية أو الموارد الاقتصادية لأفغانستان، كما دعا الولايات المتحدة والناتو إلى تحمل المسؤولية عن نتائج وجودها لمدة 20 عامًا بأفغانستان بدلا من فرض عقوبات عليها.
هذه الأزمة الاقتصادية قد تدفع أيضا لعودة زراعة الأفيون في أفغانستان، على الرغم من قرار حكومة طالبان حظر زراعته، فقد رصدت بعض الحالات مواطنين عادوا إلى زراعة تلك الآفة مضطرين لإطعام أسرهم وسط تفاقم الأزمة وعدم وجود بديل.
الاعتراف
ترتبط الأزمة الاقتصادية في أحد جوانبها بأزمة الشرعية والاعتراف بحكومة طالبان التي لم تعترف بها أي من دول العالم، على عكس ما كان عليه الحال في طبعتها الأولى حين ظهرت قبل أكثر من ربع قرن ونالت حينها اعتراف 3 دول هي باكستان والسعودية والإمارات.
علاقات طالبان الخارجية محدودة ومحصورة في شبكة صغيرة، ووسط تلك العزلة عن العالم تتعالى الانتقادات الغربية لموقف طالبان من المرأة ومنعها من السفر من دون محرم وفرض غطاء الوجه عليها، كذلك موقفها من تعليم الفتيات وإغلاقها مدارسهن الثانوية، وتسريح الموظفات، وإلغاء وزارة شؤون المرأة واستبدالها بوزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وتشمل الانتقادات الموجهة لطالبان أيضا استئثار عرقية البشتون بالحكومة والوظائف القيادية، وتجاهل العرقيات الأخرى مثل الطاجيك والأوزبك والهزارة مع التطلعات الأفغانية.
والواقع أن جانبا من المسؤولية عن الانتقادات الموجهة إلى طالبان بالملفات السابقة لا يقع على الحركة وحدها بل يعود أيضا إلى طبيعة المجتمع الأفغاني الذي يظل قبليا محافظا في أغلبه، وتختلف عادات سكان المدن خصوصا في العاصمة عنها في المناطق النائية، فيما يتعلق بالمرأة، مظهرا وتعليما وعملا.
أما مشاركة العرقيات الأخرى في الحكم، وضمان عدم استئثار البشتون، فهي معضلة أفغانية تاريخية، تتطلب نضحا سياسيا لم يتحقق خلال فترة الوجود الأميركي في البلاد، أو حتى قبلها.
معضلة
وتظل المعضلة بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وحتى جيران أفغانستان، والأفغان أنفسهم، أن انهيار حكومة طالبان وفشل الدولة نذير حرب أهلية جديدة، وما يصاحبها من كوارث إنسانية مفجعة من قتل ومجاعات ونزوح ولجوء لدول الجوار حيث لم تنته بعد أزمة اللاجئين الأفغان لديها في مراحل الصراع الأفغاني المختلة.
الجانب الآخر للمعضلة الأفغانية أن الدول الرافضة للاعتراف بحكومة طالبان ترى أن إقامة علاقات دبلوماسية وروابط اقتصادية معها يعني ترسيخا أكبر لحكم طالبان وإحباطا لمعارضيها، لذا تكتفي بالمساعدات الإنسانية المحدودة للشعب الأفغاني والتي أصبحت محدودة لا تقارن بما كانت عليه من قبل.
قد يبدو المجتمع الدولي مشغولا عن أفغانستان، ورغم عدم الاعتراف بحكومة طالبان فإن دولا مثل الصين والهند تنسج علاقات اقتصادية معها في مجالات مختلفة، فهل ينتبه المجتمع الدولي وينخرط مع حكومة طالبان عمليا للمساهمة في إعادة الإعمار وترسيخ المصالحة الوطنية؟
أفغانستان أمامها طريق طويل لتقطعه حتى يتحقق السلام والتنمية والوحدة.