الاخبار العاجلةسياسة

على خلفية الحرب الكلامية بين الحائري والصدر.. ما طبيعة الصراع بين المرجعيات الشيعية في العراق وإيران؟

أثار الخلاف بين المرجع الديني الشيعي كاظم الحائري وزعيم التيار الصدري في العراق مقتدى الصدر الجدل بشأن الصراع القائم بين المرجعيات الشيعية في العراق، وطبيعة الاختلافات بينها.

ففي بيانه الذي أعلن فيه اعتزال العمل المرجعي بسبب المرض وتقدم العمر، والتوصية باتباع مرجعية المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي، انتقد الحائري -المقيم في مدينة قم الإيرانية- الصدر واتهمه ضمنا “بالسعي لتفريق أبناء الشعب العراقي والمذهب الشيعي باسم المرجعين الشيعيين محمد باقر الصدر ومحمد صادق الصدر، والتصدّي للقيادة باسمهما وهو فاقد للاجتهاد أو لباقي الشرائط المشترطة في القيادة الشرعية فهو -في الحقيقة- ليس صدريًّا مهما ادعى أو انتسب”.

ولم يتردد الصدر في الرد على الحائري، وقال في تغريدة له على تويتر: “يظن الكثيرون بمن فيهم السيد الحائري أن هذه القيادة جاءت بفضلهم أو بأمرهم، كلا، إن ذلك بفضل ربي أولا ومن فضل والده محمد صادق الصدر الذي لم يتخلَّ عن العراق وشعبه”.

وقال الصدر إن اعتزال الحائري “لم يكن بمحض إرادته”، مضيفا: “إنني لم أدعِّ يوما العصمة أو الاجتهاد ولا حتى القيادة، إنما أنا آمر بالمعروف وناه عن المنكر… وما أردت إلا أن أقربهم إلى شعبهم وأن يشعروا بمعاناته”، في إشارة إلى القوى السياسية الشيعية المنضوية فيما يعرف بـ”الإطار التنسيقي”.

وبحسب محللين، فإن الصدر يرى أن اعتزال الحائري هي محاولة إيرانية لإنهاء مرجعية آل الصدر.

وما زالت الضبابية قائمة بشأن مفهوم “المرجعية الدينية” التي تقود الطائفة الشيعية، التي تشكل حسب إحصائيات شبه رسمية ما يقدر من 150- 200 مليون شخص حول العالم، أي ما يقدر بنحو 10- 13% من إجمالي عدد المسلمين في العالم.

والمرجعية الدينية تعني -في المفهوم الشيعي- اتباع المسلمين الشيعة المرجع الذي بلغ رتبة الاجتهاد والأعلمية في استنباط أحكام الشريعة، إذ أصبح مؤهلا للإفتاء في الأحكام الفقهية، ويعبر عنه بالمرجع الديني أو “آية الله العظمى”.

ولتسليط الضوء على أبرز المرجعيات الدينية في العراق ومدى الاختلاف فيما بينها من جهة، وعلى المرجعيات خارج العراق من جهة أخرى، أعدت الجزيرة نت هذا التقرير:

image8
معظم المرجعيات في النجف غير عراقيين (مؤسسة العتبة العلوية في النجف)

مرجعيات النجف

معظم المرجعيات في النجف غير عراقيين؛ فالمرجع الأعلى للشيعة الاثنى عشرية في العراق والعالم علي السيستاني ذو أصول إيرانية، ويليه كل من المرجع الشيخ محمد إسحاق الفياض (ذو أصول أفغانية)، والمرجع الشيخ بشير النجفي (ذو أصول باكستانية)، ثم المرجع محمد سعيد الحكيم الذي توفي سبتمبر/أيلول عام 2021 (عربي).

وهناك مرجعيات أخرى أقل تأثيرا، مثل محمود الصرخي (الذي لا تعترف بمرجعيته جميع المراجع)، والشيخ قاسم الطائي، والشيح محمد اليعقوبي، والشيخ عدي الأعسم، وهؤلاء لا يعترف بمرجعيتهم، بيد أن لهم أتباعا ومقلدين كثر، ويمكن أن يعد ذلك خلافا داخل حوزة النجف؛ فالمرجعيات الكبيرة لم تستطع استيعاب تلك الشخصيات لتسير بذات المنهجية الحوزوية لحوزة النجف.

وهناك مرجعيات موجودة في العراق ولها مكاتب، بيد أنها تنتمي لحوزة “قم”، مثل محمد تقي المدرسي، وصادق الحسيني الشيرازي، في حين يقيم المرجع الشيعي كاظم الحائري في قم (وهو أحد أبرز تلامذة محمد باقر الصدر).

الاختلاف ما بين هؤلاء المراجع يتمثل في أن جزءًا منهم يؤمن بولاية الفقيه، والآخر يؤمن بالولاية الحسبية؛ فالشيح محمد اليعقوبي، والشيخ قاسم الطائي يؤمنان بولاية الفقيه، وكذلك محمود الصرخي يؤمن بولاية الفقيه فكرة، ولكنه لا يتبع المرشد الأعلى في إيران علي الخامنئي بل يتبع المدرسة العلمية التجديدية، أي مدرسة الصدرَيْن (محمد باقر الصدر الذي أعدم عام 1980، ومحمد صادق الصدر الذي اغتيل عام 1999)، ولديه مواقف رافضة لجميع مواقف السيستاني، أما البقية فتؤمن بالولاية الحسبية.

وكان محمد صادق الصدر (والد زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر) يؤمن بولاية الفقيه لكن بشكل خاص، بمعنى الولاية التي لا تكتسب من علمية الفقه والأصول، وإنما من الطرق الباطنية؛ لذلك في أثناء مرجعيته ووجوده عارض نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسبن وأصبح يؤثر في المجتمع عبر صلاة الجمعة التي يعتبر إقامتها واجبة، بينما مرجعية السيستاني تؤمن بالولاية الحسبية واعتمدت مبدأ “التقية” حتى الغزو الأميركي للبلاد والإطاحة بصدام حسين عام 2003.

ويميز بينهما أيضا أن هناك قسما منهم يؤمن بمدرسة المرجع محمد محمد باقر الصدر، والقسم الأخر يؤمن بأصول الشيخ محمد رضا المظفر؛ فأصول محمد رضا المظفر -من وجهة نظر محمد باقر الصدر- فيها ثغرات علمية، فهذبها وأخرج حلقات أصول من 3 أجزاء، وتلك نقطة جوهرية في الاختلاف.

وهناك خلاف آخر في حوزة النجف يتمثل في رجالات الرواة (رواة الحديث)، فقسم يعتمد على رجالات الشيخ الحلي (الحسن بن يوسف بنعلي بن محمد بن مطهر الحلي، المعروف بالعلامة الحلي الفقيه والمتكلم الشيعي في القرن الثامن الهجري)، والآخر يعتمد على رجالات الشيخ الطوسي (أبو جعفر محمد الطوسي، المعروف بشيخ الطائفة، من متكلمي ومحدثي ومفسري وفقهاء الشيعة في القرن الخامس الهجري)، وكل من يؤمن برجالات الأول لا يؤمن برجالات الآخر، وهذا أنتج خلافا فقهيا معتدا به بين الفقهاء.

أبو القاسم الخوئي وعلي السيستاني
السيستاني (يسار) من أبرز تلامذة المرجع الراحل أبو القاسم الخوئي (يمين) (مواقع التواصل)

زعامة النجف

لا تمييز بين المراجع الأربعة الكبار في النجف خلا أن الزعامة الحوزوية والشعبية في النجف هي للسيستاني، أما على المستوى العلمي فهناك مثلا مرجعية الشيخ بشير النجفي وهي متمكنة من الناحية العلمية وتفوق أقرانه الثلاثة، والزعامة جاءت من خلال قرب المرجع السيستاني من مرجعية أبو القاسم الخوئي (أحد مراجع النجف الذي تزعمها حتى وفاته عام 1992)، والسيستاني من أبرز تلامذته، وكذلك زوج كريمته، وهناك خلاف جوهري بين الخوئي وبين محمد باقر الصدر، من حيث رجالات الرواية؛ فكل منهما لا يؤمن برجالات الآخر ويختلفان في الأصول، فالصدر له أصول خاصة به ويعتبر مجددا في هذا المجال، أما الخوئي أيضا فلديه الرأي الخاص في المباني الأصولية، مع ملاحظة أن محمد باقر الصدر كان أحد طلبة الخوئي.

Shi'ite Muslims visit the Imam Ali shrine during the holy month of Ramadan, following the outbreak of the coronavirus disease (COVID-19), in the holy city of Najaf
المصادر التاريخية تؤكد أن النجف مقر المرجعية الشيعية وليست قم (رويترز)

النجف وقم

تعد مدينتا النجف العراقية وقم الإيرانية قطبا التشيع في العالم، حيث تضمان ما تعرف بالحوزة العلمية، أي الأكاديمية أو الجامعة التي يتخرج منها رجال الدين الشيعة من جنسيات مختلفة، ويكمن الاختلاف بين مرجعيتي النجف وقم من ناحية الأسس التي تبنى عليها المرجعية، حيث هو اختلاف أكبر من كونه خلافا بين الحوزتين، لأنهما تعتمدان الأسس ذاتها في إثبات مرجعية كل منها.

أما من خلال الاختبار في الأصول، والفقه، أو بشهادة أهل الخبرة (طلبة بحث الخارج ممن حضروا عند جميع الفقهاء)، فهنا يشهدون برجاحة مرجع عن آخر، أو الشياع، أما من حيث المنهجية العلمية فهي المنهجية ذاتها، إلا أن الحوزة في النجف لا مركزية فيها، أما في قم فهي مركزية لرعاية الدولة.

ويكمن الفرق الجوهري بينهما في أن مرجعية قم مبنية بالأساس على ولاية الفقيه، في حين أن الذي يهيمن على مرجعية النجف هو من يؤمن بما تعرف بالولاية الحسبية التي تبنى على أن المرجعية ليس لديها بساطة اليد على التصرف بأمور المسلمين خاصتها، وإنما التصرف بما دل عليه الدليل ومنها قبض الحقوق الشرعية، والتصرف بها والإفتاء بأمور المسلمين، أما ولاية الفقيه فهي تؤمن بأنها تنوب عن الإمام المهدي (الإمام الثاني عشر لدى المسلمين الشيعة الاثنى عشرية، وهو محمد بن الحسن بن علي المهدي ويعود نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما)، ولها الحق في التصرف بجميع أمور المسلمين.

وهنا تؤشر ملاحظة في قم والنجف إلى أن هناك من يؤمن بولاية الفقيه والولاية الحسبية، لكن من يهيمن على قم يؤمن بولاية الفقيه، ومن يهيمن على النجف يؤمن بالولاية الحسبية.

ومفهوم ولاية الفقيه يختلف ما بين النجف وقم، فولاية الفقيه متفق عليها أن تكون لدى الأعلم بين من يؤمنون بها سواء في النجف أو في قم، ولكن علام يرتكز ذلك؟ المرجع العراقي محمد باقر الصدر (أبرز مرجعيات النجف حتى إعدامه على يد السلطات العراقية عام 1980) يقول إن الأعلم هو الأعلم في أصول الفقه، بينما في قم يرون أن الأعلم هو الأعلم بالأصول التي تعني قواعد عقلية منطقية، والفقه قواعد فقهية مستفادة من بعض روايات الأئمة الاثنى عشرية.

في حين أن المرجع محمد صادق الصدر (من أبرز المرجعيات الشيعية في النجف حتى عام 1999 حيث تم اغتياله) لا يؤمن بالطريقتين لإثبات ولاية الفقيه، فهو يؤمن بأن الولاية العامة لا تعتمد لا على الأصول ولا على الفقه، وإنما تعتمد على طريق باطني صعب المنال، لكن من الممكن أن يكون الولي فقيها ووليا في الوقت ذاته، ولا يمكن أن يكون الفقيه وليا إذا لم يستحصل الطريق الباطني.

ويكمن الصراع بين مرجعيتي النجف وقم في الخلاف على مقر الحوزة ونشأتها؛ فمدينة قم أصبحت تقول إن الحوزة الدينية نشأت فيها وهي مقرها، مستغلة حالة الضعف التي كانت تمر بها حوزة النجف حتى الإطاحة بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين عام 2003، لكن المصادر التاريخية تؤكد أن الحوزة نشأت في النجف ومرجعيتها الدينية في هذه المدينة، وباطن الصراع هو السيطرة على الزعامة الشيعية.

وهناك ربط للجانب السياسي في موضوع الاختلاف بين مرجعية النجف ومرجعية قم، فبالنسبة لإيران الشخص الأول من الناحية السياسية هو الولي الفقيه علي خامنئي، وبالتالي هنا المرجعية هي من تحكم، في حين أنه بحوزة النجف دور المرجعية لا يتعدى النصح والإرشاد، وهو مرد الخلاف الثاني.

في ما يتعلق بتقليد المراجع، فإن باب الاجتهاد مفتوح عند الشيعة، فليس باستطاعة أي مرجع أن يحتكر المرجعية لنفسه، ولا يسمح للآخرين بالظهور وإعلان مرجعيتهم، فالتعدد بالمرجعيات في العقود الماضية بات سائدا، وخاصة في الحقبة الزمنية التي جاءت بعد غزو العراق للكويت عام 1991، خاصة في ظل عدم وجود مجلس فقهاء أعلى يجمع هذه المرجعيات، وكذلك هناك جواز فقهي في هذا التعدد بمعنى لا إشكال من الناحية الفقهية بتقليد مرجع غير المرجع المتعارف عليه أو الزعيم، وهناك جواز للتقليد بمجرد الاطمئنان، ولكن التحسس النفسي موجود لدى القواعد الشعبية.

image1
باب الاجتهاد مفتوح عند الشيعة، فليس باستطاعة أي مرجع أن يحتكر المرجعية لنفسه (الجزيرة)

مهام المرجعيات

في ما يتعلق بأبرز المهام الدينية والسياسية والاجتماعية لهؤلاء المراجع، يختلف الأمر بين القائلين بولاية الفقيه، وبين القائلين بالولاية الحسبية، فالمدرسة الأولى (ولاية الفقيه) ترى أنه يجب أن يتدخل المرجع بجميع الأمور التي تهم المجتمع سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو تربوية، وله اليد الطولى في كل ما يتعلق بالمجتمع والفرد، وعلى القواعد الشعبية الطاعة والتنفيذ، أما المدرسة الثانية (الولاية الحسبية) فلا تقول بذلك مطلقا، بل يجوز له أن يتدخل في أشياء بسيطة جدا، وليس لها أي تأثير بيد أن مرجعية السيستاني التي تعتمد على الولاية الحسبية تتدخل بالأمور السياسية والاجتماعية بالقدر المتيسر من النصح والإرشاد فقط، لكنها تعتبر نفسها غير مبسوطة اليد في التصرف.

كما تبلور مفهوم جديد في الوسط الشيعي إزاء المرجعية، يتمثل في ضرورة أن يتولى المرجع الديني قيادة مقلديه سياسيا بالإضافة إلى تبيينه الأحكام الشرعية؛ بمعنى آخر ألا تنحصر فتاوى المرجع في القضايا الأخلاقية والبيع والشراء والطهارة والخُمس والزكاة والزواج والطلاق والصلاة والصوم والحج، وإنما تشمل أيضا الموقف من الحكومات وأعوانها وقضايا الحرب والسلم والضرائب وغير ذلك من شؤون الدولة العصرية.

لذلك كان الانقسام في تقييم الشيعة لمراجعهم واضحا؛ فمنهم من كان يقلد المرجع الذي يتدخل في الشؤون السياسية، ومنهم من كان يتبع المرجع المحافظ إذا صح التعبير، وكان دعاة تسييس المرجعية يتهمون أبو القاسم الخوئي بأنه لا يتدخل في السياسة.

هذا جانب من عملية التقليد، أما الجانب الآخر منها فهو أنه يتعين على كل شيعي أن يدفع كل عام خُمس ما يضاف إلى ثروته خلال العام للمرجع، ويقوم المرجع بدوره بصرف هذه المبالغ على الفقراء وتمويل مشاريعه الثقافية والدينية والخيرية، لذلك كلما زاد أتباع المرجع زادت الأموال التي يحصل عليها عبر وكلائه الذين ينتشرون في كافة دول العالم.



المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى