مع الحجب الموسمي لجزء من المعونة العسكرية.. هل تتخطى المصالح المصرية الأميركية ملف الحريات؟
القاهرة – الحجب الجزئي “الموسمي” للمساعدات العسكرية التي تقدمها واشنطن للقاهرة ورهنها باتخاذ خطوات لتحسين سجلها الحقوقي يثيران تساؤلات حول طبيعة الاعتبارات الأميركية لمسألة المعونة، وهل تقتصر على الحريات والديمقراطية فحسب، أم أن لها أبعادا أخرى؟ وما هي المنافع المتبادلة للطرفين؟ وما مدى تأثير ذلك على العلاقات بين الشريكين الإستراتيجيين؟
يلزم القانون الأميركي وزارة الخارجية سنويا بتحديد ما إذا كانت مصر تحرز تقدما على صعيد حقوق الإنسان أم لا، وبات يربط حصولها على 300 مليون دولار بمدى التقدم المحرز في هذا المجال، وهو رقم يمثل 10% من المعونة العسكرية السنوية المخصصة لها والمقدرة بـ1.3 مليار دولار.
وللعام الثاني على التوالي تقرر واشنطن حجب 130 مليون دولار بسبب ما تصفه بـ”عدم الوفاء بشروط تتعلق بحقوق الإنسان”، ومع ذلك من المقرر أن تفرج عن مساعدات منفصلة بقيمة 75 مليونا بسبب إحراز القاهرة تقدما على صعيد إطلاق معتقلين سياسيين، كما ستتلقى 95 مليونا أخرى بموجب استثناء قانوني يتعلق بتمويل مكافحة الإرهاب وأمن الحدود.
ويتفق خبراء ومعنيون مصريون وأميركيون على أن المساعدات العسكرية ذات منافع متبادلة، وتتخطى أهميتها الحريات والديمقراطية في ضوء علاقة الشراكة الإستراتيجية ودور مصر الإقليمي في ملفات تعتبرها واشنطن أمنا قوميا لها ولشركائها في الغرب وإسرائيل.
محطات وأزمات
منذ توثيق العلاقات المصرية الأميركية بعد اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 ومعاهدة السلام اللاحقة عام 1979 بين مصر وإسرائيل تمثل العلاقات العسكرية الركيزة الأقوى والأكثر أهمية بين القاهرة وواشنطن بغض النظر عمن هو الحاكم في مصر.
وعلى مدار العقود الأربعة الماضية منحت واشنطن مصر ما يزيد قليلا على 50 مليار دولار في شكل منح عسكرية لشراء المعدات العسكرية الأميركية، مما جعلها المصدر الأول للترسانة العسكرية المصرية بين عامي 1980 و2014.
وبعد إطاحة ثورة 2011 بنظام الرئيس الأسبق حسني مبارك والإطاحة بعد عامين بالرئيس محمد مرسي صيف 2013 (كان الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي وزيرا للدفاع وقتها) توترت العلاقات بين البلدين، وتزايدت القيود الأميركية على المساعدات العسكرية، كما رفضت واشنطن بيع أسلحة متطورة للقاهرة.
آنذاك، برزت روسيا وفرنسا ومنافسون آخرون في سوق التسليح الدولي كمصادر بديلة، مع الإشارة إلى أن مصر كانت تجري صفقات عسكرية غير أميركية في العقود الماضية، لكنها كانت أقل قيمة من المشتريات الأميركية.
ورغم تقارب وجهات النظر بين السيسي ونظيره الأميركي السابق دونالد ترامب فإن القيود على المساعدات العسكرية بقيت على ما هي عليه، إذ طبقت واشنطن قيودا جديدة على أنواع الأسلحة التي يمكن لمصر شرائها، فضلا عن مناقشات حول احتياجاتها الأمنية الأكثر إلحاحا.
ومؤخرا، عززت الأزمات الدولية كالحرب الأوكرانية وتسارع وتيرة التحالفات الدولية المناوئة لواشنطن وحلفائها الأوروبيين تردد إدارة الرئيس جو بايدن -الذي كانت له تصريحات منددة بسياسات النظام المصري في ما يتعلق بالملف الحقوقي- في اتخاذ أي إجراء جاد ضد حليف إستراتيجي يلعب دور الوسيط في ملفات طويلة الأمد كالقضية الفلسطينية أو سيطرته على قناة السويس، وفق مراقبين.
وفي وقت سابق من العام الجاري، وافقت واشنطن على مبيعات عسكرية ضخمة لمصر، بينها صفقة محتملة لمقاتلات “إف 15” (F15) التي واجهت عرقلة إسرائيلية لعقود، إضافة إلى وعود بمساعدة عسكرية “قوية للغاية”.
مصالح تتخطى الحريات
وتعقيبا على حجب جزء من المساعدات العسكرية، أوضح الخبير في العلاقات الدولية والأمن القومي المصري اللواء محمد عبد الواحد أن القرار أصبح موسميا اعتادته القاهرة، ويحدث دوما عند مناقشة الميزانية الأميركية في الكونغرس.
وفي تصريحات للجزيرة نت حذر عبد الواحد من أن أي تخاذل أميركي في مسألة المساعدات العسكرية يعد إخلالا باتفاقية السلام، خاصة مع التزام مصر ببنودها.
وعن موقف بلاده من المعونة، قال إنها مرهونة بحسابات واعتبارات سياسية معقدة تتعلق بالربح والخسارة، أهمها مراعاة العلاقات مع واشنطن والسيطرة الغربية على معظم أنظمة التسليح المصري، مما يجعل من الصعوبة بمكان تغيير دفة التسليح بسرعة، غير أنه شدد على أن قيمتها الاقتصادية لا تمثل شيئا، وكأنها خسارة في البورصة.
ويتفق الخبير الأمني مع رؤى غربية تشير إلى أن المساعدات العسكرية ذات منافع متبادلة وتتخطى الملف الحقوقي، موضحا أن لواشنطن مصالح كبيرة مع مصر باعتبارها شريكا إستراتيجيا في الشرق الأوسط لا يمكن الاستغناء عنه.
ويرى عبد الواحد أن واشنطن حريصة على الحفاظ على المساعدات العسكرية وعلاقاتها مع مصر من منطلق ثوابت، أهمها:
- دور مصر القوي في مكافحة الإرهاب، ومنع الجريمة المنظمة، إذ حققت نسبة “صفر هجرة غير نظامية” عبر أراضيها إلى أوروبا.
- الدور المحوري لمصر في القضية الفلسطينية، وخبرتها في احتواء كافة الأطراف.
- اتفاقية السلام باعتبارها جزءا ثابتا من ثوابت العلاقة المصرية مع واشنطن وتل أبيب.
- قطع المعونة يحدث فراغا سياسيا كبيرا قد تشغله روسيا التي تقدم نفسها بديلا للولايات المتحدة، والحرص الأميركي على عدم تكرار التجربة الروسية في سوريا مع مصر.
- المناورات والتدريبات المشتركة، والتسهيلات العسكرية للجيش الأميركي، والتي تتمثل في امتياز حق المرور في الأجواء والمياه المصرية، والوصول السريع عبر قناة السويس.
- تأمين قناة السويس، وحرص واشنطن على عملية نقل النفط إليها وإلى شركائها في أوروبا.
لا إملاءات
كما يشدد اللواء عبد الواحد على أن مصر لا تريد الاستغناء عن المعونة الأميركية شريطة عدم التدخل في الشأن الداخلي، أو توجيه السياسات لاتخاذ قرارات تحقق مصالح أميركية دون مراعاة أمن مصر القومي، أو فرض إملاءات تتعلق بملف حقوق الإنسان.
وأوضح أن بلاده تعمل على حلحلة ملف الحريات منذ سنوات، لكنه يتطلب الكثير من الوقت لتطبيقه بشكل فعال نظرا لحالة السيولة والفوضى التي شهدتها مصر خلال العقد الماضي.
وعن انعكاسات الحجب الأميركي لجزء من المساعدات على الموقف الدولي من النظام المصري وتفاعله مع ملف الحريات والديمقراطية، قال إن الغرب مهموم بمصالحه ومصالح شعوبه وليس حقوق الإنسان ولا الحريات في مصر.
وأوضح أنه في ظل تغير النظام الدولي -في ضوء العمليات الروسية في أوكرانيا- فإن الغرب أكثر حرصا على عدم التفريط في علاقاته مع دول المنطقة، خاصة مع دولة مهمة ومحورية كمصر.
المصالح الأميركية
ومن منظور غربي، فإن الحفاظ على شراكة أمنية وثيقة مع مصر يدعم مصالح الأمن القومي الأميركي، وأي إضعاف في العلاقات سيكون مصدر قلق خطير للأميركيين والإسرائيليين، وكذلك نعمة محتملة لروسيا والصين.
كما أن الضغوط المرتبطة بملف المعونة العسكرية أو تقليص مبيعات الأسلحة قد تحفز مصر على زيادة مشترياتها من الأسلحة من الدول الأخرى التي لن تقدم مطالب مزعجة للقاهرة في ملف الحريات وحقوق الإنسان، كما لا تتفق مع المخاوف الغربية بشأن التفوق العسكري النوعي لإسرائيل.
وسبق أن أوصى الخبير العسكري الأميركي ديفيد ويتي بلاده بأن تنظر إلى المساعدات العسكرية المقدمة إلى القاهرة باعتبارها نفقات تشغيل -وهذه طبيعتها الحقيقية- بدلا من اعتبارها هبة لمصر، وفق قوله.
وأشار في دراسة له حول العلاقة العسكرية الأميركية المصرية إلى أهمية الاستمرار في ربط أجزاء من المساعدات بتحسين حقوق الإنسان والديمقراطية، لكنه شدد على ضرورة عدم ربط ذلك بتنازلات ترتبط بالأمن القومي، باستثناء القضايا التي تشمل مواطنين أميركيين.