رغم الموقف الأميركي المتذبذب.. نزاع القوقاز ملف آخر يعمق الخلافات الأميركية التركية
أنقرة – مضى عامان تقريبا على توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين أذربيجان وأرمينيا، الذي أنهى حربا واسعة النطاق بين الجانبين أسفرت عن آلاف القتلى، واستعادة باكو أجزاء واسعة من أراضي إقليم قره باغ المتنازع عليه مع يريفان. لكن الوضع على الحدود بين البلدين منذ ذلك الحين يشهد بين فينة وأخرى اشتباكات متجددة، كان آخرها وأخطرها قبل نحو أسبوعين.
وبينما أدت الاشتباكات الأخيرة إلى مصرع نحو 200 جندي على جانبي الحدود، تبادل الطرفان الاتهامات بالتسبب في هذه الاشتباكات، وهو ما يتكرر عقب كل جولة من التصعيد على الحدود بين البلدين. وانتهت هذه الجولة بوقف لإطلاق النار أعلنته روسيا، ونسبت أرمينيا الفضل في التوصل إليه إلى الولايات المتحدة.
وفي حين لم يشهد الموقف التركي الداعم بشكل مطلق لأذربيجان أي تبدّل، إذ طالب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أرمينيا بوقف استفزازاتها ضد جارتها والالتزام باتفاق 2020 الذي أنهى الحرب آنذاك، أبدت الولايات المتحدة دعمًا أكبر لموقف يريفان، إذ طالبت بوقف إطلاق النار، مشيرة إلى “نزاع بين الطرفين حول إقليم قره باغ”، وهو ما انتقدته باكو مذكرة بأن الإقليم يتبع لها بحكم القانون الدولي.
ولم يقتصر الموقف الأميركي على تصريح أزعج أذربيجان، فقد أجرت رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي الأحد الماضي زيارة وصفت بأنها “مثيرة للجدل” إلى أرمينيا، اتهمت خلالها أذربيجان بإشعال فتيل الاشتباكات الأخيرة، معتبرة أنها تهدد “احتمال التوصل إلى اتفاق سلام”. كما شددت على أن “أرمينيا لديها أهمية خاصة بالنسبة إلينا”.
وخلال زيارتها التي استمرت 3 أيام وشهدت مراسم وضعها ورودا على نصب تذكاري لضحايا أحداث 1915 التي تصفها يريفان بالإبادة وتتهم الدولة العثمانية بارتكابها، قالت بيلوسي “في الكونغرس، نحمّل تركيا وأذربيجان مسؤولية النزاع حول ناغورني قره باغ”.
موقف أميركي متعرج
يبدو الموقف الأميركي من النزاع حول قره باغ هذه المرة أكثر انحيازا من السابق للجانب الأرميني رسميا على الأقل، إلا أنه لم يكن ثابتا على الدوام، فقد مر بمنعطفات عديدة بحسب المصالح المتبدلة لواشنطن في المنطقة.
الكاتب المتخصص في شؤون الجمهوريات السوفياتية السابقة باسل الحاج جاسم يعتقد أن الموقف الأميركي حيال ناغورني قره باغ أواخر الثمانينيات قبل انهيار الاتحاد السوفياتي “كان يحمل الكثير من الغموض وعدم رغبة واشنطن في الخوض في التفاصيل”.
ويضيف الحاج جاسم، متحدثا للجزيرة نت، أن واشنطن حرصت من خلال موقفها القديم “على عدم إزعاج تركيا الدولة العضو في حلف الناتو، التي كان ينظر إليها بوصفها رأس حربة في مواجهة المعسكر الشرقي من جهة، ومن جهة أخرى حرصت على عدم استفزاز اللوبي الأرمني القوي في الولايات المتحدة”.
ويوضح أنه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بدأت واشنطن تنظر إلى أرمينيا كحليف محتمل في المنطقة، وأقر الكونغرس حظر المساعدات العسكرية لأذربيجان وقرارات أخرى لدعم أرمينيا، واستمر ذلك إلى منتصف التسعينيات.
لكن بعد السماح لشركات أميركية بالمشاركة في تطوير قطاعات الطاقة في بحر قزوين، بدأ وقتها الموقف الأميركي يتغير تجاه أذربيجان، وبعد عام 2001 مع حرب أميركا على الإرهاب احتلت باكو موقعا أساسيا بين حلفاء واشنطن، وفقا للمتحدث.
دعم تركي حاسم
الموقف الأميركي المتذبذب حيال النزاع في منطقة القوقاز تبدّل مرة أخرى أثناء وبعد حرب 2020 بين أذربيجان وأرمينيا، مع التركيز أكثر على إدانة مساهمات تركيا الداعمة لباكو عسكريا وسياسيا، لا سيما بعد الدور البارز للمسيرات التركية في إلحاق هزيمة واضحة لدى الجيش الأرميني، مما نجم عنه تقدم ميداني كبير للقوات الأذربيجانية في إقليم قره باغ، وهو ما أقرت به يريفان في اتفاق وقف إطلاق النار.
وتعالت أصوات في الولايات المتحدة خلال حرب 2020 تدعو لفرض عقوبات على تركيا بسبب دعمها أذربيجان، بالتزامن مع تهديد وزارة الدفاع الأميركية أنقرة بعقوبات على خلفية تجربة أجرتها القوات المسلحة التركية لمنظومة الدفاع “إس-400” (S-400) الروسية.
وبعد ذلك بأشهر، وتحديدا في أبريل/نيسان 2021، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن اعترافه بتعرض الأرمن إلى “إبادة جماعية” على يد الدولة العثمانية في 1915، الأمر الذي أغضب تركيا.
الكاتب المتخصص في شؤون المنطقة باسل الحاج جاسم يعتقد أن الاقتراب الأميركي نحو أرمينيا في الفترة الأخيرة جاء “في إطار الضغط على تركيا، ولا يرتبط بالعلاقات التركية الأرمينية بقدر ارتباطه بالخلافات الأميركية التركية، التي تفاقمت بعد عام 2011، في إطار الحرب السورية ودعم واشنطن الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني المصنف على قوائم الإرهاب في حلف الناتو وتحاربه تركيا منذ سنوات طويلة”.
ويعتبر أنه في الآونة الأخيرة لا تروق لواشنطن بعض التحركات التركية في السياسة الخارجية، لا سيما تلك الملفات التي تنسق فيها مع روسيا، وهو ما حصل في الاتفاق الأخير عام 2020 والذي أنهى حرب قره باغ الثانية وزاد من التقارب الروسي التركي على حساب الشركاء الغربيين.
عقبة كبيرة
تعرضت زيارة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي الأخيرة لأرمينيا عقب الاشتباكات إلى انتقادات شديدة من تركيا، باعتبارها خطوة لا تسهم في السلام.
وقال فؤاد أوقطاي نائب الرئيس التركي إن تصريحات بيلوسي “المنحازة” بشأن الاشتباكات “تخريب للجهود الدبلوماسية” وغير مقبولة. كما دعا أوقطاي -عبر تويتر- واشنطن لتوضيح ما إذا كانت تصريحات بيلوسي تعكس الموقف الرسمي للولايات المتحدة.
وبحسب باتوهان تاكيش، مدير التحرير في جريدة ديلي صباح التركية الناطقة بالإنجليزية، فإن العلاقات بين تركيا وأرمينيا “عقبة كبيرة” أمام استعادة العلاقات الثنائية بالكامل بين الولايات المتحدة وتركيا.
ويوضح تاكيش، في حديث للجزيرة نت، أن النقاش حول أحداث 1915 المؤسفة يظل رمزيا، لكن التناقض بين الطرفين يبدو أكثر تعقيدا على المستويين الإقليمي والدولي.
زيادة الاستقطاب الداخلي
ويضع الصحفي التركي زيارة بيلوسي إلى أرمينيا والتصريحات “المثيرة للجدل” التي أدلت بها هناك في سياق “كسب قلوب الجالية الأرمينية في الداخل من جهة، وترسيخ نفوذها السياسي من جهة أخرى”.
أما الباحث باسل الحاج جاسم فيضع زيارة بيلوسي في إطار إقليمي أوسع، قائلًا “يمكن النظر إلى زيارة بيلوسي إلى يريفان على أنها استفزاز لروسيا وتركيا وأذربيجان معا، وتهدف أيضا إلى زيادة الاستقطاب الداخلي في أرمينيا على اعتبار تزامن الزيارة مع دعوات لانسحاب أرمينيا من منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا”.
ومن غير الواضح إلى أين ستتجه العلاقات التركية الأميركية فيما يتعلق بملف القوقاز، الذي يعتقد الحاج جاسم أنه “في مراحله الأخيرة في ظل تعقيدات كبرى”، ويضيف أن “وجود إسرائيل على خط هذه الأزمة كحليف قوي لأذربيجان قد يخفف عن تركيا في هذا الشق من العلاقات الأميركية التركية”.