الثروة المُهدَرة.. لهذه الأسباب تستفحل هجرة الكفاءات التونسية إلى الخارج
تونس- يشكّل استفحال ظاهرة هجرة الكفاءات نزيفا حقيقيا للثروة البشرية في تونس، وهي ظاهرة تعود إلى ضعف مستوى الأجور، وانتشار البطالة، وتعطل منظومة تشغيل خرجي التعليم العالي، والاختلال بين ما توفره الجامعات من شهادات علمية في بعض الاختصاصات وبين ما تطلبه سوق الشغل من حاجيات.
وفي ظلّ الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها تونس بعد الثورة، وما شهدته من تداعيات نتيجة جائحة كورونا، باتت الهجرة النظامية -وخصوصا نحو أوروبا والخليج- للأطباء والمهندسين والتقنيين والأساتذة، وكذلك الهجرة غير النظامية للفئات الأكثر هشاشة؛ حلما يراود الكثير منهم.
وبحسب وكالة التعاون الفني الرسمية، تتصدر كندا المركز الأول من مجموع البلدان المنتدبة للكفاءات التونسية، ولا سيما في مجالات الطب والتعليم والإعلام، ثم ألمانيا وفرنسا ودول الخليج وأميركا وبعض بلدان أفريقيا. وبلغ عدد المنتدبين عن طريق التعاون الفني منذ بداية هذا العام أكثر من 22 ألف تونسي.
هاجس الرحيل
وكشف استبيان أجرته الدكتورة بالهندسة الكهربائية رئيسة تنسيقية الدكاترة المعطلين عن العمل رباب التواتي، سألت فيه مجموعة تضمّ نحو 19 ألفا من الدكاترة والأساتذة، عن رأيهم في الهجرة للعمل بالخارج، أن الأغلبية الساحقة (97%) عبروا عن استعدادهم للسفر في أول فرصة، على حد تأكيدها.
وتقول التواتي للجزيرة نت إن الذين يختارون البقاء في تونس لديهم وضعية أكثر استقرارا أو ارتباطات زوجية وعائلية. وتعاني هذه الشابة كغيرها من بطالة مؤرقة أثرت على وضعها الاجتماعي والنفسي، وهي ترى أن المشكل الأساسي لمعضلة التشغيل هو غياب إستراتيجية في الدولة للاستفادة من الكفاءات في كل المجالات.
وتضيف التواتي أن الدولة أنفقت موارد كبيرة لتكوين طلبتها، “لكنها لم توفر لهم أي ظروف للعمل بكرامة”، مشيرة إلى أن جائحة كوفيد-19 أثبتت أن هناك مشكلة كبيرة على مستوى البحث العلمي، لأن الدولة التونسية لم توظف على سبيل المثال دكاترة البيولوجيا في البحث العلمي ولم توفر المختبرات الكافية.
وشهدت تونس في السنوات الأخيرة احتجاجات عارمة في صفوف خريجي التعليم العالي، ومن بينهم الدكاترة الذين خاضوا مختلف أشكال الاحتجاج، بما فيها الإضراب عن الطعام، بسبب عدم الاستجابة لطلباتهم بالتوظيف في القطاع العام، وضعف التوظيف في القطاع الخاص، واستمرار المحسوبية في التشغيل.
ثروة ضائعة
ويقرّ عميد المهندسين التونسيين كمال سحنون بوجود طفرة في هجرة الكفاءات التونسية نحو الخارج في ظلّ الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وتدهور الرواتب والمقدرة الشرائية، وتردي الوضعية المهنية للكفاءات، ولا سيما وسط المؤسسات العمومية مقارنة بالوضعية المهنية للموظفين في الخارج.
وحتى داخل المؤسسات الخاصة، يعاني قطاع واسع من أصحاب الشهادات العليا من أشكال التشغيل الهش وضعف الرواتب، بينما تقدم دول عدة في أوروبا والخليج وأميركا وكندا إغراءات كثيرة لاستقطاب اليد العاملة التونسية المتخصصة، بحكم تنامي حاجاتها في الاختصاصات العلمية، وفق ما قاله سحنون للجزيرة نت.
وبناء على إحصاءات رسمية نقلها عميد المهندسين عن المعهد الوطني للإحصاء، فإنّ معدل المهندسين الذين يغادرون للعمل في الخارج يبلغ سنويا نحو 6500 مهندس. ويعتبر أن هجرة الكفاءات بمثابة ثروة ضائعة، لأن الدولة “تنفق نحو 100 ألف دينار (30 ألف دولار) على كل طالب منذ بداية مسيرته الدراسية”.
ويضيف سحنون أن الدولة تقدم هذه الكفاءات -بعد تكوينها وتأطيرها- على طبق من ذهب للاقتصادات الأخرى التي تقوم باستغلال هذه الطاقات، وهو ما يُعدّ بمثابة “ثروة بشرية مهدرة” كان من المفروض أن تستفيد منها تونس أو تخلق منها ثورة وخدمات قابلة للتصدير.
ويُرجع عميد المهندسين سبب استفحال ظاهرة هجرة الكفاءات التونسية إلى تقادم المنوال التنموي والاقتصادي الذي يعود إلى الستينيات، ويقول إنه كان بالإمكان الاستفادة من خريجي الجامعات لخلق الثروة إذا كان الاقتصاد مبنيا على اقتصاد المعرفة بدلا من الاقتصاد الريعي السائد.
المركز الثاني
من جانبه، يقول المتحدث باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر -للجزيرة نت- إن تونس حلّت في المركز الثاني عربيا بعد سوريا في مؤشر هجرة الأدمغة وفق تقديرات تقرير التنمية البشرية للعالم العربي لسنة 2016.
وتزايد الطلب على الكفاءات التونسية في المجال الطبي والمجالات المساعدة له في الدول الأوروبية -وخصوصا ألمانيا- مع ظهور جائحة كورونا، مضيفا أن هذه التغيرات دفعت الآلاف من الكفاءات لمغادرة البلاد بحثا عن مستقبل أفضل، وسط استيائهم من الأوضاع المعيشية وتدهور ظروف العمل داخل البلاد.
ويمضي بن عمر قائلا إن هناك مفارقة غريبة تتمثل في وضع تونس موضع المتهم من قبل الاتحاد الأوروبي كدولة مغذية للهجرة غير النظامية، بينما تستقطب أوروبا سنويا الآلاف من الكفاءات التونسية في برامج الهجرة النظامية، بعدما موّلت المجموعة الوطنية دراستهم من قبل دافعي الضرائب.
وبينما يقدّم الاتحاد الأوروبي الإغراءات والامتيازات من أجل استقطاب هذه الكفاءات العلمية، تستمر الدولة التونسية -في ظل الحكومات المتعاقبة- في تعميق كل العوامل الطاردة لهذه الكفاءات، حيث لم تبذل أية مجهودات تذكر لتوفير ظروف عمل لائقة أو تطوير سلم الرواتب المتدنية، على حد تعبيره.
ومع تأزم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، برزت -وفق بن عمر- ظواهر تتعلق بهجرة خريجي التعليم العالي بواسطة زوارق باتجاه السواحل الإيطالية، حيث بلغ إجمالي المهاجرين منذ بداية العام الحالي 14 ألفا و550 مهاجرا، كما تزايدت أعداد المهاجرين من الكفاءات إلى أوروبا عبر صربيا باعتبار السفر إليها لا يحتاج إلى تأشيرة.
تعطل الإصلاح
من جهته، يرى الباحث والأكاديمي لطفي السنوسي أن أزمة هجرة الكفاءات التونسية مرتبطة بهنات تعيشها الجامعة التونسية. فبعد الثورة تعاقبت الحكومات وتغيّر الوزراء على رأس وزارتي التربية والتعليم العالي، لكن “الإرادة السياسية لإصلاح التعليم غابت، وأصبح الملف محل توازنات حزبية وسياسية”.
ويقول للجزيرة نت إن من بديهيات أزمة تشغيل خريجي التعليم العالي “الاختلال بين ما توفره الجامعات من شهادات علمية، وبين ما تطلبه سوق الشغل من حاجات”، ويعود هذا الاختلال إلى غياب الإصلاح بطريقة تشاركية، وإلى ضعف مستوى التأطير من الأساتذة الأكفاء الذين هجروا البلاد لانعدام التحفيز.
وبلغ عدد الطلبة المسجلين في القطاع العام (2020-2021) أكثر من 232 ألف طالب، مقابل أكثر من 370 ألفا في عام 2010. وقد بلغ عدد خريجي التعليم العالي (2019-2020) ما يزيد على 50 ألفا.
ويوجد في تونس نحو 193 من مؤسسات التعليم العالي، منها 163 مؤسسة تحت إشراف وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، و30 مؤسسة تحت إشراف مزدوج بين وزارة التعليم العالي ووزارات أخرى.