مقال بفورين بوليسي: عصر التقدم ولى بنهاية متشنجة للقرن العشرين
يقول أكاديمي أميركي إن القرن العشرين “الطويل” انتهى، ومعه ولّى عصر التقدم الذي لم يكن يوما يراود أحلام البشر، ويحذر أستاذ الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا براد ديلونغ -في كتابه “السير بخطى متثاقلة نحو المجتمع الطوباوي المثالي.. تاريخ اقتصادي للقرن العشرين”- من أن القادم لن يعجب أحدا.
ويشير المؤلف في كتابه -الذي استعرضت مجلة “فورين بوليسي” (Foreign Policy) مقتطفات منه- إلى أن تاريخ القرن العشرين الممتد من عام 1870 حتى 2010 اتسم بـ4 أشياء: النمو المدفوع بالتكنولوجيا، والعولمة، واستثنائية أميركا، والثقة في أن البشرية قادرة على أن تمضي –وإن بخطى متثاقلة- نحو مثالية المجتمع حيث يمكن للحكومات أن تحل المشاكل السياسية والاقتصادية.
ووحدهم الأشخاص الأكثر تفاؤلا قبل عام 1870 هم من كانت تحدوهم الثقة في قدرة البشرية على أن تسلك مسارا نحو الوصول إلى المدينة الفاضلة، رغم وعورة الطريق الذي يستوجب حدوث تحولات هائلة في المجتمعات البشرية وعلم النفس.
وكان الفيلسوف الألماني كارل ماركس وزميله المقرب فريدريش إنجلز افترضا عام 1848 أن العالم يعيش حينذاك في ما سموه “عصر البرجوازية”، حيث كانت الملكية الخاصة وتبادل السلع والمنتجات هي المبادئ الأساسية التي تنظم حركة المجتمع البشري، مما أدى إلى استحداث حوافز قوية للبحث العلمي والتطوير الهندسي، وتحفيز الاستثمار التجاري لنشر بدائع التكنولوجيا بهدف زيادة الإنتاجية بمعدلات تتجاوز التصورات السابقة.
ورأى ماركس وإنجلز الظواهر المترابطة التي حددت ملامح عصر البرجوازية على أنها “المخلص والشيطان” في آنٍ معا.
لقد كانت تلك الظواهر المخلص بقدر ما أوجدت إمكانية خلق مجتمع موسر يمكن للناس -إذا تعاونوا- أن يفعلوا فيه ما يريدون ليعيشوا حياة حافلة، لكن في الوقت نفسه تسببت أفعال الناس “الشيطانية” في إفقار السواد الأعظم من البشر، بل زادتهم فقرا، وستجعلهم في النهاية يرزحون تحت وطأة عبودية أشد مرارة من ذي قبل، كما يقول ديلونغ.
على أن ماركس يعتقد أن الطريق إلى مجتمع مثالي يحتم على البشرية السقوط في أتون جحيم صناعي، لأن ذلك وحده هو الذي يمكن أن يعيد إلى ذاكرتها قصة النزول من جنة السماء، في شكل ثورة شيوعية تطيح بالنظام المجتمعي القائم بقضه وقضيضه.
أما الفيلسوف والمفكر الاقتصادي الإنجليزي جون ستيوارت ميل فقد توقع أن تصل البشرية إلى مجتمع أقل مثالية من دون أن يستدعي ذلك إطاحة شاملة لما هو قائم.
ومن شأن الاختراعات العلمية، ونشر التكنولوجيا؛ أن يجلبا ثروات للأثرياء، ويزيدا وسائل الراحة للطبقة الوسطى، إلا أن السواد الأعظم من البشر سيظلون الطبقة العاملة، ولا ينفكون يعيشون حياة كدح وسخرة.
ويقول ديلونغ إن الطريق يمضي إلى وفرة المواد وإلى المجتمع المثالي مرئيا وسالكا، وما أن حل عام 1914 حتى بدا التشاؤم الذي كان سائدا عام 1870 باليا، إن لم يكن مضرا تماما.
ثم جاءت الحرب العالمية الأولى، واتضح بعدها أن ما كان يعدّه المتفائلون “شاذا ومخزيا” هو القاعدة، وأنه لا يمكن تفادي المشاكل العميقة. ولم يكن الناس راضين عما قدمه لهم اقتصاد السوق، كما أثبتت الحكومات عدم قدرتها على إدارة الاقتصادات للحفاظ على الاستقرار وضمان النمو من عام لآخر.
ويرى ديلونغ أن التكنولوجيا والتنظيم كانا سببا في تمكين الطغاة والاستبداد بحجم غير مسبوق، ومفاقمة الفوارق الاقتصادية.
وفي غضون ذلك، كانت دول جنوب المعمورة تتراجع على نحو مضطرد، في حين كانت دول الشمال محظوظة بما يكفي لتستكشف مجددا بعد الحرب العالمية الثانية ما كان يُعتقد أنه الطريق نحو الوصول إلى مجتمع مثالي.
تطورات شكلت نهاية القرن العشرين
ويوضح أستاذ الاقتصاد في كتابه أن 4 تطورات حدثت في العقود التي تلت عام 2000 شكلت نهاية القرن العشرين “الطويل”، وأذنت بانتهاء زمن البشرية “المتراخية” نحو المثالية المالية.
وجاء أول تلك التطورات عام 1990، عندما نجحت الصناعات عالية الابتكار والإنتاجية بألمانيا واليابان في تحدي التفوق التكنولوجي للولايات المتحدة؛ مما أدى إلى تقويض أسس الاستثنائية الأميركية. وحدث التطور الثاني عام 2001، عندما استعر أوار “العنف الديني المتطرف الذي اعتقدنا لقرون أنه توارى”.
أما التطور الثالث فكان هو الكساد العظيم، الذي بدأ عام 2008. وتمثل التطور الرابع في إخفاق العالم -خلال الفترة من عام 1989 تقريبا إلى وقتنا الحاضر- في التصرف بشكل حاسم لمكافحة ظاهرة الاحتباس الحراري.
لقد انقضى القرن العشرون الطويل بحلول عام 2010، ولن يتم إحياؤه من جديد، وقد تأكد ذلك عقب فوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأميركية في 2016 وما أحدثه ذلك من شرخ في البلاد.
حينها -حسب المقال- بات واضحا أنه تتعذر استعادة أي من التطورات الأربعة المحددة للقرن العشرين الطويل، فقد تردى النمو الاقتصادي بشكل كبير، وتراجعت العولمة، وتضاءلت الثقة في المستقبل إلى حد بعيد.
بالإضافة إلى ذلك، لم يعد الناس في أماكن أخرى -وبحق- يرون في الولايات المتحدة دولة استثنائية أو في حكومتها قائدا جديرا بالثقة على المسرح العالمي.
ويستطرد الكاتب إن كوادر الحزب الشيوعي الصيني هم الوحيدون الذين كانت ثقتهم في المستقبل قوية، ورأوا أنفسهم يقودون البشرية إلى الأمام حاملين راية الاشتراكية ذات الخصائص الصينية عاليا ويسترشدون بفكر ماو تسي تونغ، ودينغ شياو بينغ، ورئيسهم الحالي شي جين بينغ.
لكن بالنسبة لغير الصينيين، بدا ذلك أشبه برأسمالية “فاسدة ومستبدة خاضعة لرقابة الدولة وذات خصائص صينية”.
لذلك بدا أن صعود الصين المحتمل لا يعد على الأرجح بالمضي قدما في سبيل تحقيق المثالية المنشودة؛ بل على العكس، بدا ذلك كأنه ينم عن عودة إلى دورة الحكام والمحكومين، حيث القوي فيها يفعل ما يريد، والضعيف يعاني مما يجب عليه فعله.