معاهد لغوية مكتظة وشباب مُحبط.. كيف تحوّل حلم الخريج السوري إلى محض هجرة؟
دمشق – تقطع إلهام (20 عاما)، طالبة الهندسة المعلوماتية في جامعة دمشق، مسافة كيلومترين سيرا على الأقدام يوميا من جامعتها إلى معهد اللغة الألمانية في دمشق لتتلقّى دروسا في المستوى الأول من اللغة الألمانية، وبرفقة ركاب من الساحة العامة، ضمن ما بات يعرف بـ “التكسي سرفيس” منذ تفاقم أزمة المواصلات في العاصمة قبل عدة أشهر، تنتقل إلهام إلى مقهى صغير تعمل به في منطقة جديدة عرطوز (ريف دمشق) حيث سكنها.
سيناريو يومي تكابد الفتاة العشرينية لتحمل مشقته في سبيل تنظيم وقتها ما بين الجامعة ومعهد اللغة والعمل. وتقول إلهام للجزيرة نت “إن معهد اللغة هو الخطوة الأولى من مخططي للهجرة إلى ألمانيا عندما يتمكن والدي من جمع المبلغ المطلوب إيداعه في البنك الألماني للحصول على التأشيرة، وأستمر في دوام الجامعة لئلا أتخلّف عن دراستي في حال الإخفاق في الحصول على تأشيرة”.
وعن قرار الهجرة تقول إلهام “إنه جاء بعد نقاشات كثيرة خضتها مع والديَّ، كانا معارضين للفكرة بادئ الأمر، ولكن مع رؤيتهم لتدهور الوضع على كافة الصعد في سوريا، وإدراكهم ألّا مستقبل لي هنا، وافقوا، بل سارعوا إلى جمع المبلغ المطلوب”.
وتلخص شهادة الطالبة إلهام واقع الكثير من الطلبة والشباب السوريين في مناطق سيطرة النظام، الذين باتوا يبحثون عن سبل هجرة منظمة للهروب من هذا الواقع.
وتشهد معاهد اللغة في العاصمة دمشق إقبالا كبيرا في الآونة الأخيرة لا سيما من طلاب وخريجي الطب والعلوم التطبيقية والهندسة بمختلف تخصصاتها، وتشير الأرقام التقديرية إلى أن 40% من الطلاب والخريجين السوريين يلتحقون بمعاهد لغوية، ويسعون لتحصيل شهادة لغة لغرض الهجرة أو لأغراض مهنية وتعليمية.
من الجامعة إلى دول المهجر.. وإلا !!
ما يزال مصطفى (25 عاما) طالبا في الجامعة منذ 8 أعوام، وعلى الرغم من خطر استنفاده لعدد سنوات الرسوب المسموح بها، غير أن الشاب العشريني يحاول أن يستفيد من كل فصل يمكنه فيه الاحتفاظ بمادتيه المتبقيتين من مقررات سنة التخرّج، واللتين يعمد إلى الرسوب فيهما.
يقول مصطفى للجزيرة نت “عليّ أن أرسب بهاتين المادتين وإلا أصبحت مطلوبا للخدمة العسكرية، وأنا اليوم بين ناري الاستنفاد في الجامعة والسحب إلى الجيش”.
ويبدو أحمد تائها كآلاف الطلاب الجامعيين في سوريا، والذين يرفضون الالتحاق بالخدمة العسكرية في الجيش لما تنطوي عليه تلك الخدمة من مخاطر جمة بما في ذلك خطر الموت في إحدى المعارك. يردد أحمد مستنكرا المثل الشعبي “ما متنا .. بس ما شفنا اللي ماتوا؟”.
أما ما يدفع هادي (21 عاما) الطالب في كلية الهندسة الإلكترونية للهجرة إلى ألمانيا، فهو تدني مستوى الجامعات السورية، يقول للجزيرة نت “عندما يفتح المرء على موقع تصنيف الجامعات العالمية، فإنه يفاجأ بأن جامعته ليست ضمن أفضل 3 آلاف جامعة حتى، ومن هنا يفزع ويبدأ بالبحث عن طريقة لكي لا يأسر مستقبله المهني بشهادة بالكاد تساوي ثمن الورقة التي كُتبت عليها”.
ويشير هادي في حديثه للجزيرة نت إلى أن المقررات التعليمية التي تُدرّسها الجامعة للطلاب لم تعد مفيدة لسوق العمل في مجال الإلكترونيات والبرمجة، وإن كورس تعليمي واحد على المنصات الرقمية المجانية يضيف للطالب أكثر من 5 سنوات دراسة.
ويعاني القطاع التعليمي في سوريا من أزمات مركبة متأثرا بالحرب الدائرة في البلاد منذ 11 عاما، وتنعكس هذه الأزمات على تصنيفات الجامعات السورية التي تراجع مستواها، حيث تأتي جامعة دمشق متصدرة الترتيب المحلي وفي المرتبة 3309 عالميا، بينما تحل جامعة طرطوس في ذيل الترتيب المحلي وفي المرتبة 20 ألفا و305 عالميا، وفق موقع التصنيف العالمي للجامعات “ويبوميتريكس” (webometrics).
أما “بهجت” الخبير الاقتصادي من دمشق فإنه يتحدث عن أسباب هجرة الطلبة والشباب السوري بالقول “لقد انقلب سوق العمل العالمي ومتطلباته في العقدين الأخيرين رأسا على عقب، لقد أصبحت الشهادة الجامعية المرموقة ومهارات استخدام الإنترنت والأجهزة الحديثة وبرامج الحاسوب المتطورة ضرورات ملحة للراغبين في تأمين حياة لا يشوبها العوز”.
ويضيف في حديثه للجزيرة نت “أن الجامعات السورية تفتقر للمناهج والتقنيات التي تلبي هذه المتطلبات، والواقعين الخدمي والحياتي في سوريا لا يساعدان الطلبة أيضا، فالطاقة الكهربائية المشغّلة لتلك الأجهزة منعدمة، وتأمين ثمن تلك الأجهزة من حواسيب وغيرها شبه مستحيل”.
الألمانية في الصدارة
ويقدّر الدكتور خالد (53 عاما) أستاذ في جامعة دمشق أعداد الطلبة الملتحقين بالمعاهد اللغوية في دمشق وحدها بـ40% استنادا لملاحظته وملاحظة زملائه الأساتذة.
وتنتشر معاهد اللغة الألمانية بشكل كبير في العاصمة دمشق منذ عام 2013، ويعد معهد ابن سينا ومعهد آسيا للغات من أبرز هذه المعاهد وأكثرها تفضيلا من قبل الطلاب.
ويزداد إقبال الطلاب أيضا على دراسة اللغة الروسية في المعاهد والمدارس، وتضاعف عدد الطلاب السوريين في الجامعات الروسية خلال العام الدراسي الجاري مقارنة بعام 2017/2016، وفق وزير التعليم الروسي فاليري فالكوف.
ولا يقتصر إقبال الطلاب على معاهد اللغة الألمانية والروسية في دمشق، بل أيضا على معاهد اللغة الإنجليزية وبدرجة أقل معاهد اللغة الفرنسية.
ولا يبدو الازدحام واضحا في معاهد اللغتين الإنجليزية والفرنسية كما هي الحال مع المعاهد الألمانية، ذلك أن معاهد تدريس اللغتين منتشرة بشكل كبير في جميع المناطق بما في ذلك مدن الريف، ولا تختلف هذه المعاهد كثيرا عن بعضها البعض لا سيّما أنها لا تقدم للطالب شهادة “توفيل” (TOEFL) أو “آيلتس” (IELTS) المطلوبتين لاستكمال شروط الحصول على تأشيرة سفر.
ألمانيا الوجهة المفضلة
وإلى جانب معاهد اللغة، تشهد شركات ومؤسسات تأمين تأشيرات الدراسة في دمشق ازدحاما خلال ساعات الصباح والظهيرة، وتختص هذه الشركات بتعريف الطلبة إلى البرامج الدراسية وفرص الدراسة حول العالم.
وتعمل على مساعدتهم في اختيار الأنسب لهم ولشهاداتهم الثانوية أو الجامعية، فضلا عن إشرافها على ملف الطالب، وتقديم كل ما يحتاجه من فتح حساب بنكي بالدولة المقصودة وصولا إلى كتابة ما يُعرف برسالة الدافع التي تطلبها السفارة.
ويفضل الطلبة تقديم طلباتهم للدراسة في الخارج عبر تلك المؤسسات التي “لها شبكة ضخمة من العلاقات العامة وخبرة طويلة في هذا المجال، فتعمل على تقريب موعد السفارة، وتضمن إلى حد بعيد الحصول على فيزا” كما يقول يونس للجزيرة نت.
ويضيف “من المتوقع أن تصل كلفة الخدمة التي ستقدمها لي هذه الشركة إلى ألف أو 1500 دولار، ولكن في النهاية أحصل على فرصة أكبر في نيل تأشيرة دخول”.
وتشكل ألمانيا الوجهة الرئيسية للطلاب السوريين الراغبين بالهجرة؛ حيث سهولة الحصول على تأشيرة والتعليم المجاني وتوفر فرص العمل، ووجود جالية سورية كبيرة ومجموعة من التسهيلات كالسكن وتعلم اللغة، وفق “يمان” الموظف في مؤسسة لتأمين تأشيرات سفر الدراسة في دمشق.
تليها دول كروسيا وماليزيا وتركيا والهند وإيطاليا والولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة، اعتمادا على كلفة التعليم في تلك الدول وشروط الحصول على تأشيرة.