أميركا بايدن وأوروبا ماكرون «أصلحتا كل شيء» عبر الأطلسي
كانت الرحلة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى ولاية لويزيانا الأميركية مجرد تذكير بالعمق التاريخي للعلاقات بين الولايات المتحدة وفرنسا. بيد أن زيارة الدولة الأولى في عهد الرئيس جو بايدن -والثانية لماكرون منذ وصوله إلى الإليزيه عام 2017- تعكس تطلع الدولتين الحليفتين إلى تبديد الخلافات التي نشأت خلال السنوات الماضية، وإلى تطوير الصلات الوثيقة مستقبلاً على كل المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية عبر الأطلسي.
على رغم الخلافات التي ظهرت في فترات مختلفة على الضفتين، ولا سيما خلال عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، لم يخف الرئيس الفرنسي الاستياء الشديد من خطوات اتخذتها إدارة الرئيس بايدن، بما في ذلك من قانون الإعانات الضخمة والإعفاءات الضريبية على السيارات الكهربائية ومشاريع الطاقة المتجددة المصنوعة في الولايات المتحدة باعتبارها «شديدة العدائية» حيال أوروبا. وقبيل العشاء الفاخر الذي أقيم على شرفه في البيت الأبيض، تحدث ماكرون باسم أوروبا، معتبراً أن «خطابي الصادق» مع بايدن أعطى أُكله. وأضاف أنه «كان من واجبي أن أقول (ذلك) باسم أوروبا، وليس فقط باسم فرنسا»؛ لأن واشنطن لم تناقش القانون مع الاتحاد الأوروبي قبل إقراره. ومع أنه لم يتطرق إلى خلاف سابق بسبب صفقة عقدتها أستراليا مع الولايات المتحدة لشراء غواصات تعمل بالوقود النووي على حساب عقد ضخم مع فرنسا لشراء غواصات تعمل بالديزل، كان من الواضح أن تراكم الخلافات يمكن أن «يفكك الغرب» في مواجهة خصوم مثل الصين وروسيا.
– عميد السياسيين الأوروبيين
بوجود زعماء جدد نسبياً يحكمون في ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، تصرف ماكرون باعتباره عميد السياسيين الأوروبيين وأكثرهم براغماتية. دافع بحماسة عن أوروبا التي تواجه أخطر مرحلة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، بسبب ما سماه «العدوان الإمبريالي» من روسيا ضد أوكرانيا، مشدداً على الدور الاستثنائي الذي يضطلع به حلف شمال الأطلسي (الناتو) في لجم طموحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، علماً أنه وصف حال التحالف العسكري الغربي عام 2019 بأنه «ميت دماغياً».
لعل ذلك هو سبب الترحيب الأميركي الحار بزيارة ماكرون، الذي انتزع موافقة غير متوقعة، وإن كانت مشروطة، من بايدن للتواصل مع بوتين «إذا أنهى حربه» على أوكرانيا. وكان هذا نجاحاً للرئيس الفرنسي الذي يواجه هجوماً لا هوادة فيه داخل بلاده من اليسار؛ لتفضيله الأثرياء على الفقراء واقتراحه رفع سن التقاعد تدريجياً إلى 65 عاماً، ومن اليمين بسبب تساهله مع الهجرة، قطع ماكرون شوطاً في الولايات المتحدة نحو التغلب على التوترات في شأن الاقتصاد وأفضل السبل لإنهاء الحرب. وعلى غداء على شرفه، وصف وزير الخارجية أنتوني بلينكن ماكرون بأنه صاحب «رؤية استثنائية» و«قوة محفزة لنا جميعاً، لجميع شركائنا. لا يمكننا الاستغناء عنها».
– «أصلحنا كل شيء»
ومع أنه تحدث كثيراً عن الخلافات حتى قبل زيارة الدولة التي قام بها إلى الولايات المتحدة، أظهر ماكرون حنكته السياسية في مأدبة الغداء التي حضرتها أيضاً نائبة الرئيس كامالا هاريس في وزارة الخارجية. وقال باللغة الإنجليزية إن اجتماعه مع بايدن استمر ثلاث ساعات؛ لأننا «أصلحنا كل شيء». وتحدث طويلاً بارتجال عن «الرابطة الفريدة» بين الولايات المتحدة وفرنسا باعتبارهما بلدين «فخورين للغاية أو واثقين للغاية من أنفسنا (…)؛ لأننا نعتقد أننا مسؤولون عن حماية قيم عالمية معينة»، مثل الحرية التي دافع عنها الجنود الأميركيون الشبان عندما ماتوا على التراب الأوروبي». وأضاف: «لن ننسى ذلك أبداً». وأوجد الزعيمان أرضية مشتركة للتعامل مع محاولات الصين توسيع نفوذها عبر سياسات جائرة وقهرية ضد جيرانها ومع العالم الأوسع.
ومن الحرب، تحول ماكرون إلى السياسة الداخلية، مشيراً إلى «عودة ظهور العنصرية وخطاب الكراهية» في المجتمعات الغربية. وشكر للولايات المتحدة ابتعادها عن «الديماغوجيين»، في إشارة ضمنية إلى عهد ترمب.
وأثناء وجوده في مدينة نيو أورليانز بولاية لويزيانا، التقى ماكرون الملياردير إيلون ماسك، الذي أطلق مشاريع ضخمة لصناعة السيارات الكهربائية واستكشاف الفضاء واشترى أخيراً منصة «تويتر» للتواصل الاجتماعي. وقال مسؤولون إن الاجتماع الذي لم يكن على جدول أعمال ماكرون وحصل بناء على طلب ماسك. وكتب ماكرون في تغريدة أنه «تماشياً مع طموحنا في أن نصير محايدين كربونياً وإعادة التصنيع في فرنسا وأوروبا، تحدثت (…) مع إيلون ماسك حول المشاريع الصناعية الخضراء المستقبلية، ولا سيما تصنيع السيارات الكهربائية والبطاريات في أوروبا». وقال ماكرون أيضاً إنه أجرى «مناقشة واضحة وصادقة» حول «تويتر»، بعد أيام من تحذير مسؤول كبير في الاتحاد الأوروبي لماسك من أن الشركة يجب أن تفعل المزيد لحماية المستخدمين من المحتوى الضار.
– لويزيانا «الفرنسية»
وقبيل عودته إلى فرنسا، ألقى ماكرون كلمة في متحف نيو أورليانز للفنون، قال فيها إنه شعر بأنه عاد إلى البيت. قال إن «هناك ما يمكن أن أسميه غرابة مألوفة في هذه المدينة»، موضحاً أن «لغتنا وتاريخنا موجودان هنا».
ورأى كثيرون أن الزيارة هي الأولى إلى لوزيانا من رئيس فرنسي منذ رحلة الرئيس السابق فاليري جيسكار ديستان إلى لافاييت ونيو أورليانز في عام 1976، علماً بأن الرئيس الفرنسي الآخر الوحيد الذي زار لويزيانا هو شارل ديغول عام 1960.
ولدى اجتماعه مع حاكم الولاية الديمقراطي جون بيل إدواردز، قال الرئيس ماكرون إن «زيارة الدولة هذه تمكننا من وضع فرنسا، ومع فرنسا أوروبا، في قلب أجندة الولايات المتحدة. وعلى رغم مخاطر تغير المناخ في ولاية ترتبط فيها عشرات الآلاف من الوظائف بصناعة النفط والغاز، قال ماكرون إن توقفه في نيو أورليانز «رمزي للغاية» للجهود المتعلقة بالمناخ. وقال إدواردز: «مثلي، يعتقد الرئيس ماكرون أن تغير المناخ أمر حقيقي».
وسميت لويزيانا تيمناً بلويس الرابع عشر، ملك الشمس الشهير الذي حكم فرنسا لمدة 72 عاماً، بدءاً من عام 1643. ونيو أورليانز هي المكان الذي أنجزت فيه عملية شراء الولايات المتحدة للويزيانا من فرنسا عام 1803.