لماذا فشل قرار المركزي المصري السابق في توفير الدولار وتسبب بتكدس البضائع؟
القاهرة – تواجه مصر أزمة تكدس البضائع في الموانئ بمليارات الدولارات، هي الأسوأ منذ عقود، نتيجة عدم وجود وفرة دولارية للإفراج عنها، مما كبّد المستوردين والتجار والمصنعين خسائر ضخمة، وأدى إلى نقص في السلع ومدخلات الإنتاج وارتفاع أسعارها.
تراكمُ البضائع غير المسبوق، بحسب مستوردين وخبراء تحدثوا إلى الجزيرة نت، هو نتيجة سلسلة من القرارات، التي أصدرتها بعض المؤسسات والهيئات والوزارات الحكومية، منذ التعويم السابق للجنيه المصري في نهاية 2016 للحد من نزيف الجنيه وزيادة الطلب على الدولار، ولكنها جاءت -وفق تقديراتهم- بنتائج عكسية.
كان أسوأ تلك القرارات، بحسب وصفهم، هو قرار فبراير/شباط 2022، والذي نص على وقف التعامل بمستندات التحصيل في تنفيذ كل العمليات الاستيرادية، والعمل بالاعتمادات المستندية فقط لدى تنفيذ العمليات الاستيرادية، والذي لاقى رفضا واسعا.
توقعات سابقة بفشل القرار
وحذر اتحاد الصناعات وجمعية رجال الأعمال والاتحاد العام للغرف التجارية وقتها من تأثيرات القرار السلبية المتوقعة على إمدادات الصناعة ومستلزمات الإنتاج وأسعار المنتجات والسلع، في ظل مشاكل سلاسل التوريد بسبب استمرار تداعيات جائحة كورونا.
وأشاروا إلى أنه سبق أن فشل تطبيق هذا النوع من القرارات التي وصفوها بالمنفردة والأحادية، لأنه ينذر بوجود خلل في توفر العملة الصعبة بالبلاد، ويسمح بعودة ظهور سوق سوداء موازية، مما سيرفع الطلب على العملة الصعبة سواء من قبل شركات الاستيراد أو المنشآت الصناعية لتغطية الاعتمادات المستندية، وهو ما حدث لاحقا، فنشطت المضاربات على الدولار وقفز إلى 35 جنيها في وقت سابق.
نجاح ضغوط صندوق النقد
تحت ضغوط التجار والمستوردين والمصنعين، لم يستجب البنك المركزي لمناشدات إلغاء القرار، ولكن دخول صندوق النقد الدولي على خط الأزمة واشتراطه إلغاء هذا القرار لاستكمال برنامج القرض الأخير البالغ 3 مليارات دولار لمدة 46 شهرا، دفع المركزي المصري إلى إلغائه قبل انتهاء الفترة الممنوحة له قبل نهاية العام الماضي.
وذكر البنك المركزي في بيان على موقعه الإلكتروني الخميس الماضي أن “الحكومة ستسمح الآن بالدفع المباشر وقبول مستندات التحصيل.. وإلغاء العمل بالكتاب الدوري الصادر بتاريخ 13 فبراير/شباط 2022، والسماح بقبول مستندات التحصيل لتنفيذ كافة العمليات الاستيرادية”.
سلط موقع “ذا ماريتايم إكزكيوتيف” (the maritime executive) المتخصص في أخبار اللوجيستيات البحرية، في تقرير له الضوء على أزمة تكدس البضائع، وقال إن “أزمة العملة الصعبة الرئيسية في مصر تسببت في تراكم هائل في موانئ البلاد، حيث تتعطل سلع بقيمة 9.5 مليارات دولار، حتى مع انخراط الحكومة في إجراءات “يائسة” لتسهيل الإفراج عنها وتجنب ارتفاع أسعار السلع الأساسية”.
وأضاف الموقع أنه مع غرق مصر في أعمق أزمة اقتصادية طويلة الأمد، تفاقمت بسبب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، عانت موانئ البلاد مؤخرًا من تكدس البضائع بسبب نقص الدولار، وهي الأزمة التي تفاقمت بسبب الانخفاض الكبير في الجنيه المصري.
البضائع المتراكمة تزكم الأنوف بالموانئ
شهدت الأيام الأخيرة من العام الماضي تحركا واسعا على المستوى الرئاسي والحكومي من أجل حلحلة الأوضاع، بعد أن شقت أسماعَ القاصي والداني صرخاتُ قطاعات صناعية وغذائية مثل الدواجن، على سبيل المثال لا الحصر، بأنها على وشك الانهيار.
وقالت إحدى المفتشات المنتدبة من مركز البحوث الزراعية، للجزيرة نت، إن رائحة البضائع خاصة الزراعية والغذائية أزكمت الأنوف في العديد من الموانئ، ويجري إعدام أطنان على حساب الشركة المستوردة.
وأضافت الأستاذة الجامعية، التي فضلت عدم ذكر اسمها، أن الكثير من الشركات الزراعية المعروفة تكبدت خسائر بملايين الدولارات بعد أن فسدت بضائعها في الموانئ، إلى جانب تحملها تكاليف التأخير والكشف عنها.
ويتوقع صندوق النقد الدولي رؤية تحركات يومية لسعر الصرف في مصر بعد إلغاء الاستيراد من خلال الاعتمادات المستندية، واستئناف الاستيراد بشكل طبيعي من أجل إظهار تقلبات سعر الصرف اليومية، التي ينتظرها الصندوق للتأكد من مرونة سعر الصرف، حسب رويترز.
تحرك رئاسي وحكومي لاحتواء الأزمة
قبل قرار المركزي بأيام، قال الرئيس عبد الفتاح السيسي إن البنوك المصرية ستغطي كمية الدولارات المطلوبة للإفراج عن البضائع المتراكمة في الموانئ في غضون 3 إلى 4 أيام، داعيا إلى تغطية عملية الإفراج عن البضائع إعلاميا للقضاء على الشائعات.
تعهدت الحكومة بنشر تقارير أسبوعية عن البضائع المفرج عنها من الموانئ من أجل إعادة عجلة الاقتصاد إلى ما كانت عليه وطمأنة الأسواق، ووصفت الأزمة بالتحدي الذي تواجهه الدولة المصرية في ظل الظروف الراهنة.
وقال رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي إن الحكومة لديها خطة كاملة لخروج كل البضائع من كل الموانئ، دون أن يوضح ملامح تلك الخطة، مضيفا أنه تم إخراج بضائع بـ6 مليارات و250 مليون دولار خلال شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي من إجمالي 15 مليار دولار بضائع محتجزة في الموانئ.
رصد مراسل الجزيرة نت نقصا في بعض السلع الغذائية، وتوفرها ولكن بكميات قليلة، واضطرت السلاسل التجارية الشهيرة إلى وضع لافتات تقيد شراء بعض المنتجات بقطعة واحدة أو اثنتين فقط لكل عميل، كما بدت بعض الرفوف خالية إلا من بعض العبوات، في وقت قفز فيه سعر بعض المنتجات إلى الضعف مثل اللبن البودرة والتونة والزيوت والسمن والدقيق وغيرها من المنتجات.
آثار إيجابية ونتائج فورية بشروط
رحب رئيس شعبة المستوردين السابق باتحاد الغرف التجارية أحمد شيحة بقرار البنك المركزي والذي سبق أن طالب بإلغائه، وقال “سيكون للقرار آثار إيجابية ونتائج فورية على أسعار المنتجات والسلع بعد بدء توفير البضائع والمواد الخام والسلع الوسيطة في الكثير من الصناعات المحلية لمستلزمات وخطوط الإنتاج وتوفير السلع الإستراتيجية”.
وأوضح للجزيرة نت أن “هذا القرار من شأنه القضاء على الممارسات الاحتكارية التي ظهرت في الآونة الأخيرة، وهذا القرار كنا ننتظره بفارغ الصبر، وحسنا فعلت الحكومة عندما أوفت بوعدها بإلغاء القرار المشين”.
استبعد شيحة أن يؤدي إلغاء القرار إلى زيادة الطلب على الدولار وهبوط الجنيه، وأكد أن ارتفاع الدولار إلى مستويات السوق السوداء مشكلة مفتعلة نتيجة القرار السابق والمضاربات على الدولار وحالة القلق والارتباك في السوق نتيجة نقص البضائع، لافتا إلى أن الموارد الدولارية تغطي احتياجات البلاد، إضافة إلى الاستثمار المباشر، ولكن الأزمة في القرارات الخاطئة التي تصدر من وقت لآخر.
ورهن شيحة حدوث الانفراجة بشكل صحيح بإلغاء جملة من القرارات الأخرى التي أصدرتها بعض المؤسسات والهيئات والوزارات مثل وزارة الصناعة والتجارة والهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات ووزارة المالية والبنك المركزي، والتي تقيّد الاستيراد وجاءت معظمها بنتائج عكسية.
تضارب القرارات والتراجع عنها
كانت الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات التابعة لوزارة التجارة والصناعة المصرية نشرت في أبريل/نيسان الماضي قائمة تضم منع دخول منتجات مئات المصانع والعلامات التجارية إلى السوق المصرية لمخالفتها القرار الوزاري رقم 43، الذي ينص على ضرورة إنشاء سجل للمصانع والشركات مالكة العلامات التجارية المؤهلة لتصدير المنتجات بهيئة الرقابة.
كذلك قرار التسجيل المسبق للشحنات الذي أصدرته وزارة المالية في وقت سابق من العام الماضي قبل أن تتراجع عن تطبيقه لاحقا، حيث مددت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي الفترة التجريبية لمنظومة التسجيل المسبق للشحنات “إيه سي آي” (ACI) بالموانئ الجوية وتأجيل التطبيق الإلزامي الذي كان من المقرر أن يبدأ في الأول من يناير/كانون الثاني 2023، لحين استقرار الظروف الاقتصادية العالمية والمحلية، وذلك استجابة لمجتمع الأعمال من المتعاملين مع المنظومة الجمركية.
قرارات غير مختصة
اعتبر المستشار الاقتصادي أحمد خزيم أن تراجع البنك المركزي عن قرار فبراير/شباط كاشف لحقيقة طريقة اتخاذ القرارات من كل جهة على حدة دون دراسة لنتائج تلك القرارات على الاقتصاد المصري، وقال “القرار تسبب في تراكم بضائع بقيمة 15 مليار دولار وخسائر فادحة للمنتجين والمصنعين والمستوردين، وأيضا للمواطنين المستهلكين، ولم تحم الجنيه من الانهيار ولا الدولار من الارتفاع، بل العكس زادت الطين بلة”.
ووصف رئيس منتدى التنمية والقيمة المضافة، في حديثه للجزيرة نت، تلك القرارات بأنها صادمة للسوق وللمستثمرين المحليين والأجانب، وغير المدروسة وتتسبب في حدوث بلبلة في السوق، وتأتي من خارج سياق الحلول الناجعة، وتصدر عن مجموعة من الهواة، وما يجري معالجةٌ للعرض وليس المرض، ولا يمكن الوثوق في أي برنامج اقتصادي لدولة تسيّر بجملة من القرارات المتضاربة والمتأرجحة، تارة تتراجع، وتارة أخرى تؤجل، وهكذا دواليك.
وحذر خزيم من تحول السوق المصري إلى حقل تجارب للحلول المؤقتة والمسكنات غير الدائمة والابتعاد عن الحلول الجذرية للأزمة، والتي تتمثل في زيادة الإيرادات من خلال التركيز على الإنتاج والصناعات الصغيرة والمتناهية الصغر، وفتح المجال أمام القطاع الخاص، ورفع قبضة الدولة عن الاقتصاد، وتشجيع الاستثمار المباشر، وإلغاء العراقيل البيروقراطية التي تعطل المشاريع.
وانتقد خزيم استمرار المجموعة الاقتصادية في الحكومة على نهجها القديم منذ تعويم نوفمبر/تشرين الثاني 2016 في معالجة الأزمات بالطريقة نفسها، وذلك باتخاذ قرارات مفاجئة وغير مدروسة، و”يجب تنحيتها جانيا والمجيء بعقول اقتصادية إنتاجية يمكنها أن تقود دفة الاقتصاد المصري المتنوع والكبير إلى بر الأمان”.