لماذا يتراخى العراق عن تسديد ديونه رغم احتياطاته النقدية الكبيرة؟
تطرح العديد من الأسئلة وعلامات الاستفهام حول ما كشفه مظهر محمد صالح المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء العراقي بأن الدَّين العام للعراق يناهز 70 مليار دولار في الوقت الذي تؤكد فيه الحكومة أن لديها احتياطيا نقديا يربو على 100 مليار دولار، وهو ما يدعو للتساؤل عن السبب الذي يمنع الحكومة من تسديد ديونها والتخلص من الفوائد المستحقة عليها.
أرقام رسمية
وفي حديثه للجزيرة نت، أكد صالح أن الدَّين العام للبلاد يبلغ 70 مليار دولار، من بينها ديون داخلية تقدر بـ50 مليار دولار، وأن حيازتها تعود للجهاز المصرفي العراقي، لافتا إلى أن 63% من الدَّين العام الداخلي يرجع للبنك المركزي العراقي، وأنه يمثل موجودات محلية في هيكل الميزانية العمومية للبنك المركزي، أما المتبقي من الدين الداخلي، فإنه بحيازة المصارف الحكومية الثلاثة (الرافدين والرشيد والتجاري العراقي) بفائدة سنوية تتراوح بين 2-3%.
أما عن الدَّين العام الخارجي، فقد أوضح صالح قائلا “إن الدَّين الخارجي الفعال الواجب السداد لا يتجاوز 20 مليار دولار، ما يعني أن إجمالي الدين العام يقدر بنحو 70 مليار دولار حاليا، ولا يشكل سوى نسبة تتراوح بين 30-35% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وهي نسبة آمنة جدا مقارنة بالنسبة المعيارية أو القياسية الدولية البالغة 60%”.
وتعليقا على ما أدلى به المستشار الاقتصادي، يؤكد أستاذ الاقتصاد بالجامعة العراقية عبد الرحمن المشهداني صحة الأرقام الحكومية فيما يتعلق بالدين العام للعراق سواء كان الداخلي أو الخارجي، موضحا أن المشكلة الرئيسية لديون العراق تتمثل بالداخلية منها، بحسب قوله.
الديون الخارجية
يطرح حجم الديون الخارجية على الحكومة العراقية العديد من التساؤلات عن سبب عدم تسديدها، رغم أن الحكومة تمتلك فائضا ماليا مريحا واحتياطيا كبيرا، وفي هذا الصدد، يقول المشهداني للجزيرة نت إن الدين الخارجي للعراق لا يعد مؤثرا حاليا، على اعتبار أن القروض اليابانية والكورية والصينية طويلة الأجل وتصل حتى عام 2040 وبنسب فائدة ضئيلة لا تتجاوز 1%، لافتا إلى أن حجم قروض البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على العراق لا تتجاوز ملياري دولار لكل منهما وبنسب فائدة بسيطة ولفترات زمنية جيدة.
من جهته، يؤكد الخبير الاقتصادي مصطفى أكرم حنتوش أن الدين الخارجي المستحق التسديد لهذا العام 2023 لا يتجاوز 3 مليارات دولار، وأن بقية الديون الخارجية مجدولة على سنوات طويلة، وبالتالي فإن الدين الخارجي لا يعد مكبلا للعراق في الوقت الحالي ولا يشكل خطرا نظرا لنسب الفائدة المنخفضة، بحسبه.
الديون الداخلية
وفي حديثه للجزيرة نت، يرى حنتوش أن هناك مغالطة في بيانات المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء بما يتعلق بنسبة الديون الداخلية العائدة للبنك المركزي، مشيرا إلى أن البنك المركزي كان قد أعطى للحكومة سندات خزينة بـ20 مليار دولار عند انخفاض أسعار النفط عام 2020، حيث عمدت الحكومة لبيع هذه السندات وتحويلها إلى أموال سددت بها رواتب الموظفين، لافتا إلى أن الحكومة أعادت أموالا للبنك المركزي تقدر بنحو 35 مليار دولار دون خصمها من قائمة الديون حتى اللحظة.
في غضون ذلك، وبالعودة إلى المشهداني حيث يرى أن المشكلة الرئيسية للديون تتمثل بالداخلية نظرا لنسب فوائدها الكبيرة، مشيرا إلى أنها تصل في بعض الأحيان لأرقام مرتفعة، الأمر الذي يوجب على الحكومة تسديد ديون البنك المركزي للتخلص من فوائدها، بحسبه.
مؤشرات إيجابية
تثير الاحتياطيات الكبيرة للبنك المركزي والديون العامة المترتبة على العراق العديد من الدلالات، وهو ما أكده المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء الذي يرى أن حجم الاحتياطيات الأجنبية في العراق “مرتفعة” وأنها تغطي التزامات الدين الخارجي للبلاد بما نسبته 5 أضعاف، واصفا هذه النسبة بأنها “معيارية عالية ومطمئنة”، فضلا عن أنها تعكس قوة الوضع المالي للبلاد، مبينا أن إجراءات تسديد الديون الداخلية والخارجية تتم من خلال التخصيصات السنوية المعتمدة في الموازنة العامة الاتحادية للبلاد وفق النسب التي توضع مسبقا بما يتماشى مع الواردات المالية.
الاعتماد على النفط فقط
ورغم المؤشرات التي يراها المستشار الحكومي بأنها مطمئنة، فإن أستاذ الاقتصاد عبد الرحمن المشهداني يرى غير ذلك، حيث يصف جميع الأرقام التي تتعلق بالاحتياطي والديون الداخلية والخارجية بأنها “غير مطمئنة” على اعتبار أن العراق لا يملك إيرادات مالية من غير النفط، مشيرا إلى أن العراق دخل فيما يعرف اقتصاديا بمصطلح “المرض الهولندي” الذي يعني اعتماد البلاد على الإيرادات النفطية فقط دون وجود أي إيرادات أخرى مؤثرة.
ويستطرد المشهداني معلقا “يبلغ عدد الموظفين في العراق الآن قرابة 4.5 ملايين بعد موجة التعيينات التي تعمل الحكومة عليها حاليا، فضلا عن 500 ألف موظف في شركات التمويل الذاتي التي تتلقى رواتب حكومية، مع 4 ملايين متقاعد، و3 ملايين مستفيد من شبكة الرعاية الاجتماعية، وبالتالي يصل مجموع الذين يتلقون رواتب من الدولة لنحو 12 مليون عراقي”، مشيرا إلى أنه وفي حال اعتبار أن العائلة العراقية مكونة من 5 أفراد، فإن الرقم الكلي سيزيد على عدد سكان العراق، وهو ما يعني أن جميع العراقيين يعتمدون على الرواتب الحكومية في معيشتهم.
ويتفق مع هذا الرأي عضو اللجنة المالية البرلمانية جمال كوجر الذي أضاف للجزيرة نت أن رواتب الموظفين تثقل الموازنة، لافتا إلى أنها بلغت نحو 54 تريليون دينار (36.7 مليار دولار) في عام 2021، ثم أضافت إليها حكومة الكاظمي نحو 10 تريليونات دينار (680 مليون دولار)، فيما ستضيف الحكومة الحالية ذات الكلفة، بما يعني أن رواتب الموظفين وحدها ستكون قرابة 70 تريليون دينار (47.6 مليار دولار)، بحسب كوجر.
إدارة الاحتياطي
توضح الأرقام التي كشف عنها كاحتياطي نقدي وكديون عامة الكثير من الجدل حول الطريقة التي لا بد من اعتمادها حكوميا لإدارة واردات الدولة، وهو ما يشير إليه المستشار الاقتصادي بالقول “إن السياسة المالية للعراق تتجه لاعتماد الانضباط المالي، بما يعني خفض إجمالي الدين العام المتراكم تدريجيا، يقابل ذلك تقليص العجز السنوي في الموازنة العامة الاتحادية مع العمل على حصر الدين المستحدث ضمن النسب المعيارية بما لا يتعدى الدين العام 3% سنويا”.
من جهتها، ترى الخبيرة الاقتصادية سلام سميسم أن الاحتياطي النقدي العراقي بحاجة لإدارة حكيمة كي تستطيع التوفيق بين واردات الدولة وما تحتاجه لتغطية النفقات التشغيلية والاستثمارية.
وفي حديثها للجزيرة نت لفتت سميسم إلى أن هناك أزمة مالية عالمية، وحيث إن العراق بلد مستورد فسيتأثر، وهو ما يوجب على الحكومة إدارة الملف المالي والديون بحكمة من أجل إدارة عجز الموازنة العامة وعجز الميزان التجاري وعجز المدفوعات في سبيل تجنب أي أزمة مالية قد تواجه البلاد.
من جهته، يرى حنتوش أن المشكلة تكمن في أن الفائض المالي للبلاد يتجاوز 25 مليار دولار، وأنه لا بد من تشكيل صندوق إستراتيجي لدعم الدولة في حال انخفاض أسعار النفط، على غرار العديد من الدول النفطية المجاورة التي استخدمته في وقت الأزمة.